مجتمع

نوابغ مغربية: عباس التعارجي.. القاضي الذي جال عواصم العرب والغرب بحثا عن العلوم وولها بالمعارف

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

الحلقة 14: عباس بن إبراهيم التّْـعَـارْجِي المراكشي.. القاضي الذي جالَ عواصم العرب والغرب بحثًا عن العلوم ووَلَهًا بالمعارف

نَجَابةٌ مِن المهدِ إلى اللّـحد

كَــتَبَ عـنه مُعرِّفاً بمناقبه وشُهرته في الإفتاء الأستاذ أحمد متفكّر في مرجعه القيّم “أعلام الفتوى في مراكش عَبْر العصور”، وتَرْجَم له وعَرَّف به خير الدين الزركلي في موسوعته “الأعلام؛ قاموس تراجم لأشهر الرجال والنّساء مِن العرب والـمُستعرِبين والمستشرقين” في المجلّد الثالث الصادر سنة 2002، فيما أعَدَّ عنه الباحث حنفي مولود أطروحةً للدكتوراه في موضوع: “معالم التّجديد والاجتهاد عند القاضي عبّاس بن إبراهيم التّعارجي من خلال نَوازِله؛ دراسة وتصنيف وتحقيق”، وحَقَّقَ بَعْضَ مُصنَّفاته النّافعة ثُّلة من مِؤرِّخي المغرب؛ فمن يكون هذا العَلَم الألمعي النَّــابِــه؟

كانَ مولِدهُ بحيّ سيدي ابن سليمان في حاضِرة مراكش الحمراء سَنة 1877 الموافق لــ 1224 هـ، من عائلةٍ سـمْلالية النّسب، امتَهَن والِدهُ تَجليد نوعٍ مِن الدُّفوف يُعرَف في الدارجة المغربية بــ(التّْــعارج)، فلما شَبَّ السيد عَبّاس بن إبراهيم عُرِفَ في أوساط المراكشيين بــ”إبراهيم التّْـعارْجي المراكشي”، ولاحقاً بالقاضي بن إبراهيم السملالي.

حفِظ القرآن الكريم في صِغره، وانتقل _جَرْياً على عادة أبناء عصره_ لِدِراسة الـمُتون وصَقْلِ موهِبة الـحِفظ ومَلَكَات السَّمع والكتابة، ودَرَس على أيْدِي خِيرة علماء مراكش كـمحمد السّباعي المتوفّى سنة 1913 والذي شَهِدَ في طالِبه قائلا “الطّالب العَبّاس المذكور لأنْجَبُ وأَحْسَنُ فَهْماً وتَحْصيلاً مِن جميع مَن أعْلَمُ بمراكش..، والعربي الرّحموني البربوشي المتوفّى سنة 1935، ومحمد بن أحمد أزنيط، والفقيه عبد الرحمن بن القُرَشي الذينَ أجازوه قِراءةً وسَماعاً. وفي مرحلةٍ تالية؛ أجازه الشيخ ماء العينين الشنقيطي والشيخ أحمد بن الخيّاط والشيخ محمد القادري، والعَلّامة محمد بن جعفر الكتاني الفاسي.

لَـمْ يَكتَفِ عبّاس بما الْتَـمَسَهُ مِن معارِف في بَلْدَتِه؛ فشدَّ الرحال صوب مِصر، لتَحْصيلِ العِلم عن رجالاتها المعدودين في عِداد الفقهاء، كالشيخ يوسف الدّحوي والفقيه محمد حُسين، ثمَّ قَـفَل عائداً إلى المغرب لمزاولة التّدريس، أشْرَفِ المهن.

كانت البداية في كُرسي التّعليم بمسجد رياض العَروس، مع عِلْم الفِقه، سنة 1901، وكان عُمْرُ العبّاس آنذاك خمس وعشرون سنة، وهكذا هِي بدايات النُّبغاء وعلى مَقْرُبةٍ من هذه السِّن؛ كابن خلدونٍ الذي وضَع كتابه الأوّل “لُباب الـمُحَصِّل في أصول الدين” وهو ابن تسعَ عشرة سَنة وستّة أشهر، وابن الخطيب وابن عَرَبي وغيرهم من قاماتِ العلم والتدريس في تاريخنا المجيد.

لقد تمَيَّزَ مُتَرْجَمُنا بتنوّعٍ في الثّقافة العالِمة، وبِـسَعة الاطلاع، وقوّة الذاكرة ونبوغ الحافِظة، إنه “ابن جَمّاعة (1241-1333) قاضي قُضاة مصر والشام وشيخ الإسلام في عصره” في نسخة مغربية.

انتقَل بن إبراهيم بعد هاته التّجربة إلى مدرسَة الـمَوّاسين الشهيرة، فألقى في رِحابها دروساً شَرَح فيها كتاب “القانون في أحكام الـعِلم وأحكام العالِم وأحكام الـمتعلِّم” للعلّامة الأشهر والفقيه الأكبر أبي عَلِي الحَسن اليُوسِي، وكتاب “جَـمْع الجوامع في أصول الفقه” للإمام (تاج الدّين الـسُّبَكي).

فَـذَاعَ صِيتُ الفقيه التّعارِجي في النواحي، وحَجَّ إليه الطّلاب، وكَثُرَ شَغَفه بالعلم والاستِزادةُ مِن ينابيعه وأصوله الكُبرى، فَبَوَّأَهُ ذلكَ التَّرتيبَ الثّالثَ ضِمن هَيأة علماء مراكش الـمبرَّزين آنذاك، ثم نال المرتبة الأولى في الأعوام الموالية، وَأقَرَّ له شَيخه السُّباعي بأحقية هذا الاستِحقاق قائلاً: “.. إنَّه في المرتبة الأولى، وأكثَرهُم [أيْ العلماء] استِحقاقاً لها مِن حيثُ حُسْن الفَهم والإدراك والتَّحـصيل”، انظر (الأعلام، الجزء1، ص: 144).

إلاَّ أنَّ هذه الرُّتبة والسّمعة العلمية لم تَكونا لتُوقِفا تَوقانِ الرَّجل لمزيدٍ مِن العلم والنّبوغ في مجالاته، فكانت له زيارات متكرّرة لبعض عواصم دُول أوربا، فَزار مدريد وباريس وليدن ولندن، وتارةً أخرى زارَ تونس والجزائر لـجَمْعِ ذخائر المخطوطات والكتب الـمطبوعة، وللإلمام بالحركية العلمية والفكرية بين ضِفَّتَي المتوسِّط، ولِـتَعَــقُّبِ آثار معلوماتٍ عن شخصية من الشخصيات أو مسألة من المسائل، مُستَرْخِصاً في ذلكَ جُهدَ البَدَن والمال، ومُضحِّيًا بحقوق الزوجة والأهل والعيال.

ولقد انْعكس كُلُّ ذلكَ على شَخصيته؛ فكان لا يُرى إلّا حامِلاً كتاباً، وقارئاً آخَر، وتالِياً على المسامع في الجوامِع شُروحات على بَعْضِ المصنّفات، وآتِياً بِتَراجِم لكبار الأعلام، وجامِعاً لمخطوطاتٍ في الفقه وأصوله والتّاريخ وعلوم اللغة العربية. وأسَّسَ بما اقتناهُ وأُهْدِيَ إليه مِن مصادِر ومراجَع مَكْتَبة شخصية ضَخمة؛ كانت الأغْزَر بين نظيراتها مما لدى علماء مراكش لذلكم الزمان.

ومِن التّدريس إلى التّأليف؛ بَدَأت رحلة العلّامة الـمُجِدّ بكتابةِ قَصيدةٍ عَبَّــرَ فِـيها عن حُبِّه لمشاهير رجالات مراكش وأقْطابها في العلم والتصوّف، وشَكّلت بدايات اهتمامه بالتأريخ للأعلام المغاربة، وهي القصيدة التي وضعها تحت عنوان “تَنظيم دُرَر الـجَمال في مَناقِب أولياء مراكش سَبعة رجال”، وكان عُمْره حِينها، ستّاً وعشرينَ سنة.

بَعْد إنهاءِ مَرحلة حُكم السلطان عبد العزيز بن الحسن، وصَفاء الجوّ للسلطان الجديد عبد الحفيظ؛ عَـيَّن هذا الأخيرُ عالِم مرّاكش عُضوا في ديوانِ الصَّدر الأعظم (الوزارة الأولى) سنة 1907، وانتقل مَعِيته إلى فاس لمزاولته مهامه الجديدة، وقضى هناك مدّةَ خمس سنوات، استَثْمرها في مَدِّ جُسور التواصل بعلماء فاس وتَلقِّي مزيدِ عِلْمٍ عنهم، وحُضور أهمّ المناظرات والحوارات التي كانت تُعقَد في القصر السلطاني بَين سِياسيي الوقت وبِضعة نفرٍ من العلماء والـمثقَّفين.

كما صاهَر آل الفاسيين الفهريين، فتزَوّج منهم، ثم عاد بَعدها إلى مُراكش ظافِراً بالحُسنين؛ الـعلم ونماء المعارِف والزوجة الصالحة، بعد أنْ كان مصير السلطان الذي عمِلَ إلى جانبه؛ مُغادَرةَ البلادِ إثْرَ توقيع معاهدة الحماية الـمُذِلّة (1912م-1330ه)، ليَشْغَل العالِم بن إبراهيم مَهمَّتَـيْ الإفتاء والتَّوثيق، مُضافاً إليهما مزاولة التدريس في المدرسة العتيقة؛ الـموّاسين.

في العام 1915، رُقِّيَ العباسُ إلى درجة قاضٍ، حيثُ عُيِّن قاضيا بمجلس الاستئناف الشَّرعي في مدينة الرباط، وطيلة مقامه بالمدينة؛ جَمع بين القضاء والتّدريس وتعليم الطلاب مادّة النّحْو ودروس العربية في الزاوية “القاسِمية”.

وفي المدة الفاصلة بين 1916 و1925 تنقَّل بين مُدن سْطات، الجديدة (التي قضى بها ستة أشهر فقط من مأموريته القضائية) ومراكش، مُعيَّنا من طرف المخزن قاضيا في كلِّ واحدةٍ منها، وكانت سِـيرته في التّقاضي بين الناس حَسَنة، وأحكامه مَحطّ قَبول، وسيرته كعالِمٍ وقاضٍ مَحطَّ تقدير.

وفي العلاقة بسُلُطات الاستعمار؛ كانت للرجل مَواقِف نزيهة ووطنية، وكان في خِدمة بَلَدِه والتشريع الإسلامي والسُّلطان. ويُروى عنه أنَّ مندوب الإقامة العامة الفرنسية في مراكش، قرَّر أنْ يُداوم على عَقد لقاء كلّ أسبوع مع قُضاة مراكش الثلاثة (الحبيب الورزازي، العربي الدّكّالي، العباس التّعارْجي) بِغَرض مُراجَعتهم في بعض القَضايا التي بَــثَّوا فيها، فَرَفَض العَلَّامة القاضي العباس بن إبراهيم التّعارْجي الاستجابة لِطَلب المندوب الفرنسي، واحتَجّ على الأمر.

أمّا تآليفُ الرّجُل ومُصنّفاته العِلمية فتشابَكت مع تخصصات عِدّة، ولاقَت القَبول والاستِحسان من لَدُن الباحثين والـمنقِّبين في “تراثه الـمَخْطوط”، ودلَّت على سَعة معارِفه وعلاقته الـحميمة مع الـكتب والعلوم.

ففي ميدان الفقه وأصوله كَتَب “الأجوبة الفقهية مع الأحكام الـمُسجّلة” وهو في أربعة أجزاء. وفي ميدانِ السِّـيَرِ والتَّراجم خلَّف لنا “إظهار الكمال في تتميم مناقِب سبعة رجال”، الذي حَقَّقه الدكتور (أحمد متفكّر) في جُزئين سنة 2010. وفي عِلم الأنساب حرَّرَ “الألماس فيمن اسمُهم العبّاس”. وفي علوم الشريعة لهُ “الإمتاع في حُكْم الإقطاع” و”حاشيةٌ على صحيح مُسلم”، و”القضاء على الإسلام بـيَدِ أبنائه”.

وفي حقل التاريخ تركَ لنا كتابَه “ثورة الشّيخ أحمد الـهِبة بن الشّيخ محمد مُصطفى ماء العينين،” وتوجد نُسخة مخطوطة منه في خزانة القصر الملكي بالرباط. وفي مجال الشِّعر والأَراجيز أبْدَعَ “ديوان شِــعر” و”شَرْح منظومة السُّلطان مولاي عبد الحفيظ العلوي لـِجَمْع الجوامع”. وتعريفاً بـمُنْجَزهِ الشِّعري؛ كَتب الأستاذ (أحمد متفكّر) كتاباً طُبِع سنة 2013 عَـنْونَه بــ”القاضي عبّاس بن إبراهيم التّعارِجي المراكشي..حياتُه وشِعْره”. ومن أشعارِه الماتعة رحمه الله، نذكُر هاته الأبيات:

في كتابي أثْبَتُّ صورةَ رَسْمِي ليَـــــــــــرى النَّــــــاظرون رَسْمِي جَلِيّـــــــــــــــــــــا
صورتي رَسْمُ حِـيلَتِي وتآلـــــــــــــــــــ ـيفِي بـِها صِــــرتُ بالحياةِ حَـــــفِـــــــــــــيَّا
آلَ مراكش فَــــدُونَـكُـم التَّــــــــــــــــــــــــــا ريخ رَوض الزّهور أضحى جَنِيـا

ثَــمَرة المسار العلمي الطّويل للقاضي الجليل سيدي العبّاس تَوَجَّهُ بِسَدِّهِ ثُــلْمَة خصاصِ الكتابةِ التاريخية المغربية عن رموز العلم ورجالات البلاد من أولياء وصُلحاء وفُقهاء وأدَباء وأطبّاء، وأفنى شطرًا مِن عُمْرِه للتعريف بالنّبوغ الـمغربي في أزْهى عُصوره، وبتسليط الضّوء على جوانب مِن الوقائع التاريخية والاجتماعية والسِّياسية لمدينَتي (أغمات) و(مراكش)؛ وذلك بتأليفه مُؤَلَّـفه الحافِل الذي بِه اشتَهَر أكثر؛ وهو “الإعلام بـمَن حَلَّ مُراكش وأغمات مِنَ الأعلام” الذي حَقَّقه واعتنى به مؤرِّخ المملكة المغربية الدكتور (عبد الوهاب بن منصور).

هذا الـمُصنّف الموسوعي أخَذَ مِن العلّامة القاضي العباس السّملالي زهاء 50 سنة، وأكرمه الله بأنْ طُبِعت خمسة أجزاء مِن موسوعته هاته وهو على قيد الحياة، وذلك سنة 1938، وظلَّت الأجزاء الخمسة الأخرى حبيسةً لِـتَزَامُنِهَا مَع ظروف الحرب العالمية الثانية، وعُلِّق مصير طَبْعِها إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، إلى أنْ احتَضَنَـتْها الـمطبعة الملكية بالرباط، فأصْدَرَتها في عشرة أجزاء كاملة سنة 1983.

ومِن فَخْرِ ما حُظِيَ به هذا العمَل الموسوعي لِـعَلَم مراكش المجتهِد النّابغ؛ اطِّلاع بعض أساتذة الجامعة الهولندية على أجزائه الأولى، وتقديراً منهم للجهد العلمي والتوثيقي المبذول فيه، ولإنارَتِه لجوانِب الـعتْمَة في مسار شخصيات طبَعت تاريخ المغرب العلمي والديني والسياسي والطبِّي؛ بَادَر الأساتذة بإقناع رئيس الجامعة بضرورة دَعوة العلّامة العبّاس لزيارة الجامعة، وتَـمَّ ذلك، بأنْ حَلَّ ضَيْفاً مُعزَّزاً مُكرَّما على هيئة التدريس ورئاسة الجامعة الهولندية مدّة أسبوعين، وكانت الْتِفاتةَ تكريم وتقديرِ بالِغة الدّلالة، للمجلّدات ولِصاحِبها، الذي “لا يَفِي بِشُكْرِه لِـسان ولا بتَقْدِيرِ عَملِه قَلَم” بتعبير المؤرِّخ عبد الوهاب بن منصور.

ومن بَليغ أقوال القاضي العبّاس رحمه الله: “عَزَمات الرِّجال تَظهَر نتائجها بكثرة الأشغال”، وقوله: “الهِمم تُـجَوَّدُ بمداومة العمل وتَقْصُرُ عندَ سلوك طرق الإهمال والـمَلَل”.

ظلَّ القاضي بن إبراهيم مُزاولاً القضاء إلى أنْ أُحيل على التقاعد في أخريات حَياته، كما بقِيَ عاكِفاً على الكتابة وجَمْع الـمخطوطات وتقييد الوثائق إلى أن تَـوَفّـاه الله يوم 29 أبريل 1959، الموافِـق لــ20 شوال 1378 هجرية.

فأحسن الله جزاءه، ونَـفع بما خلَّف وراءه.

* إعداد: عـدنان بـن صالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.

* الصورة من الأرشيف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *