وجهة نظر

التفكير في التربية

في الحاجة الى التفكير بشكل جماعي وفردي حول موضوع التربية. فالملاحظ للنقاش العمومي القائم في وسائط التواصل الإجتماعي والذي تؤطره الجمعيات الفكرية والثقافية و الأحزاب السياسية يجد ان اغلب المواضيع تتمحور حول موضوعي السياسة والدين. فالنقاش حول السلطة والدين هو النقاش المشاع والمنتشر بحيث ان اغلب سكان العالم الرقمي قادرون على ابداء رأيهم فيه وتقديم حكمهم في الموضوع. وهنا نطرح السؤال الذي دفعنا لكتابة هذا المقال. الى اي مدى يمكن اعتبار النقاش في السياسة والدين نقاشا مثمرا بناءا لمجموع القيم المدنية التي يناضل من اجلها مناضلوا الصف التقدمي؟

ان سؤالنا الإشكالي لا ينفي او يحتقر قيمة النقاش العمومي الدائر اليوم في الوسط الرقمي بل يثمنه ويحييه لكنه يسائل المواضيع المؤطرة للنقاش العمومي. هذا الأخير والذي ينمو كما ينمو العشب الأخضر الجميل في الحدائق الراقية كونه انتعش بشكل كبير بسبب الحرية والحق في التعبير الشيء الذي يضمنه العالم الإفتراضي والذي سمح للجميع بمناقشة الجميع وهنا نستحضر نموذج ساحة اغورا حيث ولدت الفلسفة كتعبير حر عن هموم المواطن اليوناني خصوصا والمواطن الكوني عموما. بمعنى ان النقاش العمومي الذي تحضنه مجموعات الفايس لهو نقاش صحي يؤسس لثورة فكرية قادمة. غير ان هذا النقاش العمومي والذي تحفزه الجمعيات المدنية و الفكرية والأحزاب السياسية يركز فقط على نواتج الظواهر بدل التركيز على الأسباب.

ونستند في رأينا هذا على بنية حجاجية قائمة اولا على اعتبار النقاش السياسي هو نقاش نواتج فاعل يسمى المخزن وفق اصلاحاته الطبقية المؤيدة لمصالح الطبقة الحاكمة. اي ان النقاش هاهنا يكون بعد الحدث وليس قبله وبذلك فنقاش البعديات هو نقاش عاجز عن الفعل لكون مفعوله ينتهي بنهاية زفرة السخط التي نلقيها بعد الحدث وذلك بسبب اختلال توازن القوى وعدم امتلاك ادوات الضغط.

اما الحجة الثانية فنعتبر ان النقاش السياسي هو نقاش صحي في عملية الفضح السياسي للخصم بفضح خروقاته وكوارثه السياسية غير ان هذا الفضح هو عمل من اختصاص الصحفي وخصوصا الصحافة الإستقصائية وبذلك فان كان نقاش الحدث يفتقد لمعلومات دقيقة تساهم في عملية الفضح فانه يصبح نقاشا وعظيا يردد لازمة “يجب ان” وهذه اللازمة لا تضيف شيئا للواقع ويكون قائلها بمثابة راهب يدعوا الناس من خلال برجه القائم في وسط غابة كثيفة يتعالى فيها صوت الرياح على دعواته الوعظية فينظر للسماء بعد اقتناعه بعدم سماع دعاءه ليسئل الآلهة عن امكانية ارجاء الدعاء الى ما بعد الممات لانه مقتنع بأن دعواته وصلواته لا مكان لها في عالم الحياة. ولا اظن ان مناضلا يساريا يناقش بحرقة سينتظر جزاءا في العالم الآخر وهو يريد تغيير العالم الحالي.

ان جوابنا على سؤالنا الإشكالي يؤكد على ان النقاش السياسي له فائدة الفضح وكشف المستور امام المواطن ولكن لا قدرة له على البناء اي على التأسيس القبلي. وهنا مكمن الخلل اذ ان الفاعل السياسي مثله مثل الصحفي الذي يتفاعل مع اليومي ولكنه لا يؤسس للغد. وبهذا فان الحاجة الى فتح نقاش عمومي حول التربية واجب تاريخي يحمل ثقله المجمع التقدمي المغربي. بمعنى ان المؤطرين للنقاش العمومي ملزمون بنقاش الخارطة التربوية التي ستمكننا من بناء جيل تقدمي مستقبلي.

ان الخارطة التي يعتمد عليها النظام المغربي هي الخارطة الأساسية المؤطرة لمنطق تفكير المخزن والقائمة اساسا على منطق التوازن وبذلك نجد اطارا مرجعيا متقدما لمادة الفلسفة والزامي لكل تلامذة المغرب ونجد كذلك اطارا مرجعيا للتربية الإسلامية والذي يؤيد كثيرا من الأفكار الرجعية والتي تبعدنا كثيرا على طريق التقدم. هذه الإزداجية المؤطرة لخارطة طريق التربية المخزنية تساهم في تنشئة جيل سكيزوفريني يؤمن بالشيء ونقيضه في نفس الوقت. فهو يؤمن مثلا بحرية التعبير والحق في الإختلاف كقيمة تقدمية تمكننا من العيش المشترك لكنه يرفض بالكل والمطلق اي ممارسة خارجة عن التقاليد ويكفر كل الأفكار الخارجة عن النسق ويمقت الإبداع والتفرد. هذه الشخصية السيكيزوفرينية هي نتاج موضوعي لخارطة تربوية تتأسس على المزج بين المواثيق الدولية التقدمية و القيم والعادات السلفية. وهذا الدمج اللامعقول والذي يشبه خلط الزيت بالماء يعطي ذات سكيزوفرينية لا قدرة لها على تقديم رأي واضح.

ان التفكير في التربية له تفكير في المستقبل. وهو تفكير يسائل الأسس العلمية التي تعطي نتائج واقعية تظهر على السطح كوقائع. ولكنها في حقيقة الأمر وقائع بعدية لا يمكن تغييرها بل يمكن فقط شجبها والتنديد بها والدعوة عليها اما التفكير في التربية هو تفكير قبلي بمعنى انه تفكير يؤسس لواقع اخر بعد ان يهدم اسس الحاضر الآن. وبذلك فنحن بحاجة ملحة الى التفكير في التربية

* أستاذ فلسفة وباحث تربوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *