وجهة نظر

روح العدالة الجنائية

تعتري المنظومة الجنائية المغربية اختلالات جوهرية، أدت الى فشل السياسة الجنائية في معالجة ظاهرة الاجرام، حيث ظلت النتائج التي حققتها محدودة الجدوى، على الرغم من المجهودات المبذولة فيما يخص وضع الخطط والاستراتيجيات الكفيلة بمكافحة الجريمة.

وباستقراء المعطيات العامة لهذه السياسة، نستشف غيابا واضحا لتحديد دقيق لمقاصد فلسفة العقوبة ولأهدافها، حيث يطغى على المسألة الجنائية تضخم على مستوى سياسة التجريم والعقاب، مما يحول دون تحقيق عدالة جنائية ناجعة ومنصفة وتحصيل علاج حقيقي ومنصف لظاهرة الاجرام، كما نلحظ غموض الوظيفة الأساسية للسياسة الجنائية وطبيعة نظرتها الى شخص الجاني، مما يجعل من تحقيق نفعية العقوبة وتحصيل الغرض والحكمة من العقاب صعبَ المنال.

ويبدو أن المنطلقات الفكرية والفلسفية والمنهجية لتصور نموذج عدالة جنائية منصفة تحمي المجتمع، قد فرضت على هذه العدالة أن تأخذ طريقا مسدودا، أنتج مآسي إنسانية ومشكلات اجتماعية عميقة، عجز المنظور الجنائي السائد عن حلّها.

وفي سبيل تجاوز نقائص وثغرات هذه العدالة وعوائقها، نحاول عبر هذه الورقة، القيام بمقاربة نقدية تقويمية لإبراز أوجه اختلالات عدالتنا الجنائية، والكشف عن السبل الكفيلة بتصحيحها وذلك انطلاقا من استثمار بعض عناصر الفقه الجنائي الإسلامي ومصنفاته، للبحث عما تتضمنه من أجوبة جادة ومفيدة لأزمتنا الجنائية الراهنة.

ولأجل ذلك نطرح تساؤلين مركزيين:

– ماهي أوجه اختلالات العدالة الجنائية بالمغرب؟ وما هي السبل لتصحيحها؟

– وهل يمكن بلورة نظرية جديدة في فلسفة التشريع الجنائي تؤسس لعدالة جنائية منصفة، وذلك باستثمار روح التراث الفقهي الجنائي الإسلامي؟

لقد تبنت المنظومة الجنائية المغربية عمليا نظرة أحادية تسلطية اكراهية لمحاربة الجريمة تقوم على مبدأ الزجر والعقاب، رغم تضمنها بعض الإشارات المحتشمة تنظيرا و تطبيقا حول إصلاح وتأهيل الجاني وإعادة ادماجه في دورة الحياة العادية، الشيء الذي أنتج معالجة غير سليمة للمسألة الجنائية، حيث أضحت سياستنا الجنائية عبارة عن نظام عقابي يتبنى علاجا عقابيا صرفا ينظر الى الجاني نظرة عدوانية، ومعتبرا إياه عدوا للمجتمع. الأمر الذي جعل نتائج هذه السياسة مخالفة لمقاصد العدالة الجنائية الحقيقية وفلسفتها في العلاج، حيث تم التركيز على الجوانب القهرية والإجبارية والإكراهية من العملية الجنائية وذلك عبر تضخيم سياستيْ التجريم والعقاب، مع الإسقاط من الاعتبار السياقات الاجتماعية والإنسانية للجاني، مع تقصير هذه المنظومة الجنائية في أداء أدوارها القانونية في عملية اصلاح وتأديب وتأهيل وإدماج هذا الجاني حتى لا يسقط مجددا في مربع الجريمة.

وبحثا عن مداخل لعلاج أعطاب أزمة عدالتنا الجنائية الراهنة، نحاول أن نبحث في تراثنا الفقهي لنستمد منه أجوبة وحلولا عملية لهذه الأزمة، وذلك عبر استثمار روح هذا الفقه الاسلامي.

ونحن إذا تأملنا بعض وجوه تراثنا الجنائي الإسلامي، نجد أنه ينظر إلى الجاني باعتباره شخص ضلّ الطريق، ومن ثم يريد أن يأخذ بيده ويرشده الى سواء السبيل.

وهذا المنظور يخالف رؤية المنظومة الجنائية الوضعية التي تنظر إلى الجاني باعتباره عدوا للمجتمع.

كما أن العقوبة في الشريعة الإسلامية، هي جزاء تقويمي غائي مناسب للجرم، و لا يمكن تحقيق الغاية من وراء تطبيقه، إلا بما يحقق الردع و يمنع من وقوع الجريمة في المستقبل، مما يحقق نفعية العقوبة. الأمر الذي يجعل من المعالجة الإسلامية للمسألة الإجرامية معالجة ناجعة ومتكاملة، على عكس المعالجة العقابية للمنظومة الجنائية الوضعية القائمة على الأبعاد العقابية الزجرية والردعية فقط، مع ضمور للأبعاد الإصلاحية والتأهيلية.

وعلاوة على ذلك، يتبين لنا أن لفلسفة العقوبة في الشريعة الاسلامية وظيفتان:

الأولى خلقية: وهي أنها تُوقع على الجاني لتهذيبه وتأهيله وإصلاحه، فلا يعود إلى الإجرام مستقبلا. –

والثانية اجتماعية: وهي أنها تُوقع على الجاني لحماية المجتمع من شر الإجرام. –

وهكذا، يتضح أن فلسفة العقوبة في الفقه الإسلامي، هي فلسفة واضحة المعالم، منسجمة مع المقاصد الحقيقية للعقوبة، بينما لا نجد لهذه الرؤية المتكاملة نظير بهذه الدقة المعرفية في المنظومة الجنائية الوضعية، والتي تشتغل على المستوى العملي بمعالجة تجزيئية للظاهرة الإجرامية، في مخالفة صريحة لأهداف ومقاصد العقاب الجنائي.

وتأسيسا على ما تقدم، يتحصل لدينا أن العدالة الجنائية يجب أن تؤسس على تلازم وتكامل بين ركنين رئيسيين:

-الركن الأول: لزوم توفر سياسة للتجريم العقاب متناسبة مع الفعل الجرمي ومنصفة للضحية والجاني معا.

-الركن الثاني: لزوم تطبيق سياسة مناسبة لإصلاح الجاني وتأهيله.

وتصبح الصورة السليمة للعدالة الجنائية بعد هذا التحديد المعرفي، مبنية على تلازم ضروري بين العقوبة والردع المنصفين من جهة، والتأهيل والإصلاح المناسبين أيضا من جهة أخرى. وبهذا تكون نجاعة العدالة الجنائية مشروطة بحصول المعالجة/ الوظيفة العقابية المنصفة، وتتمم بالمعالجة/الوظيفة التأهيلية للجاني، الأمر الذي من شأنه تحصيل حماية حقيقية للمجتمع من الجريمة وإنتاج عدالة جنائية حيّة ومنصفة.

ويترتب عن هذا التحديد أيضا، أن الإخلال بإحدى المعالجتين/الوظيفتين المتلازمتين هو إخلال وإضرار بالصورة السليمة لهذه العدالة، ويسقطها بالتالي في عجز مؤقت عن تأمين متطلبات حماية المجتمع. ومثال عن هذا الإخلال: أن التفريط بمبدأ عدم توقيع العقاب على الجاني لا يحقق عدالة جنائية لانعدام إنصاف الضحية، وبالتالي لا تتحقق معه قيمة حماية المجتمع. والأمر نفسه يحصل إذا ما تم عقاب الجاني دون تتميمه بتأهيله وإدماجه في الحياة الاجتماعية، ففي هذه الحالة سيعود الجاني إلى مربع الجريمة ولا يتحقق لنا، في هذه الحالة شرط حماية المجتمع و يختل ميزان العدالة الجنائية، حيث أنه لا عبرة بعدالة جنائية دون تأهيل وإصلاح الجاني ودون نزع الشخصية الاجرامية عنه ومنعه من ارتكاب فعل جنائي في المستقبل، ولا عبرة أيضا بعدالة جنائية لا يمارس فيها عقاب الجاني، إذ تتحول هذه العدالة إلى عدالة ناقصة وغير منصفة إن لم تكن منعدمة، حيث لا توفي بحاجيات حماية المجتمع.

وبالمحصلة، فإن إنتاج روح عدالة جنائية منصفة يظل موقوفا على الالتزام بما يمكن أن نسميه “عدالة جنائية وسطية متوازنة ” تنضبط لشرطين أساسيين:

-الشرط الأول، وقوع الردع والزجر المنصفين بما يحفظان حق الضحية، وكرامة الجاني وأدميته.

– الشرط الثاني، حصول تأهيل للجاني وإصلاحه، ويمكن عبر تبني هذا المنظور الوسطي للعدالة الجنائية أن نؤسس لضوابط ناجعة لترشيد فلسفة العقوبة ووظيفتها وجعلها منسجمة مع المبادئ الإنسانية الكبرى في العدالة.

و بمقتضى هذا المنظور وبناء على ما تحصل من تصحيح وإعادة بناء روح جديدة للعدالة الجنائية ، يمكننا أن نعيد تقويم المعالم الأساسية لنظام السياسة الجنائية باعتبارها التجلي الأمثل لـ “حكمة الدولة التشريعية” حسب تعريف الفقيه الألماني “فويرباخ”، بجعلها بدلا من أن تكون نظاما عقابيا خالصا ومخالفا لمقاصد العدالة الجنائية، ولمبادئ الإنصاف وحقوق الإنسان، أن تصبح بحق نظاما عقابيا إصلاحيا وتأهيليا يراعي الأبعاد الإنسانية والاجتماعية والحقوقية للجاني وللضحية على السواء و يحقق المقاصد و الغايات الكبرى للعدالة الجنائية المتجلية في ضبط السلوكات الانحرافية، ويوفي في نفس الوقت بحاجيات حماية المجتمع وأمنه في احترام تام للقيم الإنسانية المشتركة.

وانطلاقا من النتائج المتوصل إليها، نحاول أن نجتهد لوضع نموذج نظري لأنواع مختلفة وممكنة لأنماط العدالة الجنائية، وذلك باستحضار عامل قربها أو بعدها من تحقيق الغاية الأساسية لهذه العدالة وسياستها الهادفة إلى تحصيل حماية نافعة للمجتمع من الجريمة وآثارها:

الوضعية الاولى:

غياب المعالجة العقابية + غياب المعالجة التأهيلية = عدالة جنائية منعدمة وغير منصفة + حماية منعدمة للمجتمع.

الوضعية الثانية:

غياب إحدى المعالجتين = عدالة جنائية ناقصة وغير منصفة + حماية جزئية للمجتمع.

الوضعية الثالثة:

حصول المعالجة العقابية + المعالجة التأهيلية = عدالة جنائية تامة ومنصفة + حماية كاملة للمجتمع

ومن خلال هذه الوضعيات والصيغ الثلاث، يتحصل لدينا ثلاثة أنماط من العدالة الجنائية :

1-عدالة جنائية منعدمة لا تحقق قيمة الإنصاف.
2-عدالة جنائية ناقصة لا تحقق قيمة الإنصاف.
3-عدالة جنائية تامة تحقق قيمة الإنصاف.

وتنبني على الأنماط الثلاثة من العدالة الجنائية أحكاما مختلفة لأحوال وحالات نفسية بالنسبة للمخاطبين بخطاب هذه العدالة:

الحكم الأول: يترتب عن النمط الأول حالة من الإنكار والإفساد في وظيفة العدالة الجنائية.
الحكم الثاني: يترتب عن النمط الثاني حالة من التشكيك والاضطراب في وظيفة العدالة الجنائية.
الحكم الثالث: يترتب عن النمط الثالث حالة من التسليم والاطمئنان واليقين في وظيفة العدالة الجنائية.

ولوضع المنظومة الجنائية المغربية ضمن نمط العدالة المناسب لها، بناء على حصيلتها ونتائجها الميدانية، نستخلص أنها تدخل ضمن الوضعيتين الأولى والثانية من أنماط العدالة الجنائية ولا تدخل قطعا في إطار الوضعية الثالثة منها، وذلك للاعتبارات الأتية:

– أولا، بحسب انتمائها للوضعية الأولى فهي عدالة جنائية منعدمة، لإخلالها بشروط المعالجتين معا، حيث لا يخضع الجاني للعقاب ولا ينصف الضحية وتتعذر الوظيفة العقابية، وبالتبعية لا تتحقق الوظيفة التأهيلية المرجوة، فيترتب عن هذا الأمر تعطيل وإفساد وظيفة العدالة الجنائية.

– ثانيا: بحسب انتمائها للوضعية الثانية فهي عدالة جنائية جزئية وقاصرة، بحيث تغيب عنها قيمة الإنصاف الكلي، وذلك لاعتمادها في الغالب على المعالجة العقابية الصرفة دون تتميمها بالمعالجة التأهيلية، فيترتب عن هذا الأمر اضطراب وتشويش في وظيفة هذه العدالة الجنائية.

– ثالثا : لا تدخل عدالتنا ضمن الوضعية الثالثة، وذلك لكونها كما أشرنا سالفا، عدالة منعدمة في بعض الأحيان، وأيضا عدالة ناقصة في معظمها، والعدالة المنعدمة والعدالة الناقصة لا يمكنها ان تكون عدالة كاملة منطقيا وعقليا، وذلك لعدم استيفاء شروط حصول المعالجتين معا.

في حين تدخل المنظومة الجنائية الإسلامية النظرية ضمن الوضعية الأولى، لأنها تتبنى المعالجتين معا، مع استحضار كامل لقيم الإنصاف، فهي بذلك عدالة جنائية كاملة ومنصفة.

وقد أثمرت هذه المنهجية الفكرية التي اتبعناها في هذه الورقة عن توليد تصور لمفاهيم جديدة مرتبطة بالعدالة الجنائية:

*عدالة جنائية وسطية: وهي التي تقوم على الجمع والتوازن والتلازم بين الوظيفة العقابية المنتجة للحماية القانونية للضحية، والحافظة لكرامة الجاني وأدميته وبين الوظيفة التأهيلية للجاني، الهادفة إلى نزع واستئصال شخصيته الإجرامية، وضبط مختلف سلوكاته ونزوعاته الانحرافية، وهي عدالة تحقق قيم الحماية والإنصاف، وبالتالي يتحصل معها قيمة النفع العام للمجتمع.

*عدالة جنائية منحرفة: وهي التي لا توفي بشروط الجمع والتوازن والتلازم بين الوظيفة العقابية والوظيفة التأهيلية أو تغيبان عنها كلية، وهي عدالة غير منصفة لا تحفظ حق الضحية ولا تضمن كرامة الجاني، كما أنها تفشل في استئصال الشخصية الإجرامية، ولا تنجح في ضبط نزوعاتها وسلوكياتها المنحرفة ولا تتحقق فيها قيمة الحماية الكاملة للمصلحة العامة للمجتمع.

إن العدالة الجنائية التي تشتغل بالوصل بين الوظيفتين العقابية والتأهيلية، هي عدالة موصولة تولد الثقة في مسالكها وتحقق قيمة الاطمئنان وهي بالتالي عدالة نافعة.

أما العدالة الجنائية التي تشتغل بالفصل بين الوظيفتين العقابية والتأهيلية، فهي عدالة مفصولة تولد التشكيك في مسالك هذه العدالة، وتحقق آفة الاضطراب وهي بالتالي عدالة ضارة.

وخلاصة القول، فروح العدالة الجنائية الوسطية هي العدالة الموصولة النافعة المحققة لقيم الاطمئنان، بينما العدالة الجنائية المنحرفة فهي العدالة المفصولة الضارة المنتجة لقيم التشكيك والافساد والاضطراب.

وبمقتضى ما ذكر، تصبح غاية السياسة الجنائية النافعة، هي بلوغ عدالة جنائية وسطية تحقق مراد الثقة والاطمئنان، ولا حاجة لها بعدالة جنائية تحقق آفة الاضطراب والإفساد.

غير أن نجاح العدالة الجنائية في نزع الشخصية الاجرامية، وضبط السلوكات الانحرافية، يبقى مرتبطا بتحقيق عدالة اجتماعية، مبنية على سياسة عامة عادلة ومنصفة، قادرة على إزالة واستئصال مجمل الأسباب والعوامل الاجتماعية المسببة للجريمة، وتساعد كذلك في تحقيق مجتمع عادل وآمن ومتعاف من الجريمة وشرورها، إذ لا عبرة بعدالة جنائية، دون عدالة اجتماعية.

على سبيل الختم، ليس لمدع أن يدعي ضحالة الفقه الاسلامي عموما و الفقه الجنائي الاسلامي خصوصا، أو يعتبر أن تراثنا لم ينتج فقها جنائيا. فالجواب على ذلك أنه قد غابت عنه حقائق جوهرية، وهي أن هذا الفقه زاخر بمصنفات فقهية قلّ نظيرها و يشتمل على أرقى المبادئ الجنائية مثل :مبدأ البراءة الأصلية و مبدأ الشرعية الجنائية، و مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية ومبدأ عدم رجعية القوانين الجنائية إلى الماضي وغيرها كثير، وذلك قبل أن تتوصل إلى صياغتها النظريات الجنائية الحديثة والمعاصرة بعد مرور قرون عدّة .

ولما كان الأمر كذلك، لزم الرجوع إلى هذا التراث الفقهي للاستمداد منه، مما يصلح لواقعنا الجنائي، غير أنه قبل هذا الرجوع، سيكون من الواجب علينا التحرر قبلا من كل العوائق الفكرية والذهنية المحكومة بالمنظور الاستعماري الاستعلائي الأحادي النظرة والذي يغلق الباب أمام إمكانيات النظر والاستمداد، والانفتاح على مختلف أبواب المعرفة الاسلامية وعلى كل التراكمات المعرفية الإنسانية المختلفة وكلّ ما يخالف قناعات الحضارة الغربية.

وبفضل هذا البحث الذي خضنا فيه، نكون قد فتحنا آفاقا لممارسة تقويمية نقدية تهدف إلى تجاوز نقائص وثغرات العدالة الجنائية وتصحيح قيمها، كما وقفنا فيه على بعض عناصر إفادة الفقه الجنائي الإسلامي لمنظومتنا الجنائية الراهنة، على اعتبار أن هذا الفقه هو باب من أبواب المعرفة الإسلامية، الذي لم يأخذ حقه الكافي من الاهتمام حتى يقدم خدمة حضارية للفكر الإنساني العام.

* باحث في القانون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *