منتدى العمق

كورونا بين الماضي والحاضر..

الماضي والحاضر ثنائية يصعب الفصل فيها أو نزع فتيل الصراع داخلها.. اللهم عقد معاهدة لتأجيله..

غالبا ما كان الإنسان مسرحا لحوار بين الماضي والحاضر.. يتحدث الماضي بعجرفة مخاطبا الحاضر: كم أنت تافه تظن حقا أنك اليوم أكثر فهما وإدراكا للحياة، وأكثر تطورا وتقدما؟!.. يا لغبائك وتفاهتك كل ما أنت فيه اليوم هو نتيجة لما اجتزته أنا لما راكمته من تجارب، لما تعلمته وورثتك إياه.. خلقت أيها الحاضر وكل شيء مهيأ أمامك، لم تكد ولم تجد من أجل أن تكون كما أنت…

يقهقه الحاضر ويرد قائلا: يا لعجرفتك، أنت ما زلت بتفكيرك القديم، ورؤيتك للأمور أصابها غبش، عليك بالنظر بنظارة الواقع كي تفهم وتدرك ما يقع، وما وصلت إليه من تطور وتقدم، وما استطعت أن أجتازه من صعوبات ومشاكل – هي ما ورثتني إياه حقا- ، ستفهم حينها إن كان زمنك أصعب أم زمني أعقد؟! .. وستدرك أنني أنا من استطاع بجده أن يصنع الأمجاد ويبلغ كل الأمصار، ويفك العقد!.. ما كنت تراه بالأمس أكبر مشكل وتظن أنك تمكنت من تخطيه هو اليوم مجرد تفاهة ونكتة يتم مشاركتها بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك. فيسبوك وما هو هذا؟ يتساءل الماضي باستغراب !! فيرد الحاضر بقهقهة المنتصر…

يستمر الجدال أحيانا لساعات مابعد منتصف الليل وحتى طلوع الشمس، أحيانا يكتمل وأخرى يؤجل الحسم فيه إلى ليالي وأيام أخر..

اليوم وقد طرق باب العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين.. ودق المسمار الأخير في نعش العقد الثاني من نفس القرن.. هناك شيء ما يرعب الإنسان ويجعله متوجسا. إنه وباء كورونا؛ غير كل شيء وعقد كل الحسابات، وشكك في كل اليقينيات. استرجع الإنسان شريط الماضي، بحث فيه عن كل ما يستحق أن يتذكره جميلا كان أم سيئا -لا فرق- حدث.. شخص.. حادثة.. اختراع.. قصة.. فكرة.. حرب… حياته في الماضي لم تكن يوما رتيبة وقليلا ما اتسمت بالهدوء، لم تسر وفق نسق واحد، أمور كثيرة حدثت معه، أحداث كثيرة أغلبها لم يكن بالسهل، يتذكر أغلب التفاصيل، وهو من حاول في السابق أن يتناسى كل شيء حدث ويعيش لحظة الحاضر فقط. لكنه وجد نفسه اليوم في حاجة إلى إعادة بعث كل الماضي وحشره أمامه، حتى يتذكر كل ما اجتازه، كل ما سعد أو تألم بسببه، في محاولة لفهم ما هو فيه الآن…

استنجد بالماضي وسأله عله يجد تفسيرا لما يحدث، لكن لم يجد منه جوابا غير الاعتداد بالبطولات والتجارب والتاريخ، فالماضي يعتبر أن جيله تعرض لأعتى الأمراض والأوبئة والجوائح لكنه استطاع أن يتغلب عليها ويحافظ على وجوده.. استطاع أن يتخذ القرارات بما يحفظ الوجود وإن كان لزاما تقديم تضحيات، بالنسبة للماضي فما يعيشه الحاضر اليوم هو بمثابة شيء عادي كان يمكن له أن يتعايش معه دون أدنى مشكلة ودون أن يؤثر فيه. ثم إنه يتساءل: يا أيها الحاضر الذي تدعي التطور والتقدم أين علمك واختراعاتك لتفيدك في ما تعانيه اليوم؟!.. ألم تلجأ سريعا إلى ما تعلمته مني، أليس الحجر من ابتكار أسلافي.

ويجيب الحاضر: لولا الهواتف والحواسيب و(الكونيكسيون) لما بقي أحد في جحره ولما التزم بالحجر، لو لا أجهزة التنفس الاصطناعي لكان العديد من أنصارك أيها الماضي في عداد الماضي، لو لا كل اختراعاتي لكان هذا الوباء قد أخذ من الإنسان كل أسباب الوجود..

أيها الإنسان بماضيك وحاضرك فقط يمكنك أن تكون..

يا عاشقا للماضي، ويا متيما بالحاضر؛ دع مساحة للآخر واقبل أنك لست محور الكون، الكل لن يكون إلا بكل أجزائه..

الماضي أصل للحاضر.. والحاضر ذاكرة للماضي وسد يصب فيه كل نتاجه.. يجمعه ويعالجه ويطوره فيرسله أكثر غنى بأسباب الحياة ليحيي ويروي حقول المستقبل..

* طالب باحث في البلاغة وتحليل الخطاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *