منتدى العمق

حمة وريحانة كانتا هنا

تركت الباب نصف مشرع لتسلل منه النسائم في هذا القيظ الشديد. ومع أن المكتب مجهز بأحدث المكيفات الهوائية إلا أن حرارة الخارج المشتعلة تجعلها في حالة شبه عطالة.

بدأت في تحرير النسخة النهائية للورقة العلمية التي سأشارك بها في ندوة جهوية حول موضوع: “دور الجماليات في إنقاذ الأسر من التفكك”.

وفرة المراجع العلمية كانت عاملا مساعدا لإنجاز ما كنت بصدده؛ إلا أن قلة اللقاءات التي أجريتها مع الأسَر أشعرني ان ما ساقدمه لن يتجاوز الأفق النظري-النخبوي فقط، ونحن في حاجة لمعرفة ما يجري عند الأسر والإنصات لصوتها، ومحاولة تقديم الفائدة العملية لها، وإشراكها في مثل هذه المبادرات الطيبة. فلا يمكن ان نتصور بحثا علميا منفصلا عن الواقع المعيش!

في هذه الأثناء؛ وقد كنت بصدد إجراء مكالمة مع أستاذي الذي اقترحني على اللجنة المنظمة لأستفسره عما يدور بخلدي ليوحهني لما أجد فيه ضالتي؛ كانت رحمةُ رفقة امها، هنا، في قاعة الإنتظار.

انهيت المكالمة، وأدخلتهما “المساعِدةُ” للقاعة.
___ تفضلا، في خدمتكما.
___ بنتي تريد البوح لك ببعض متاعبها الأسرية. اما انا فأطلب منك ان تقرأ لي هذه التحليلات الطبية، وتصف لي ادوية تعالج ارتفاع ضغط الدم.
___ مرحبا يا مِّي فاطمة، لكن هذا مركز للإستشارات الأسرية، وليس مؤسسة صحية.
___ نعرف يا بني، وراه قصدناك والمقصود الله. قيل لنا أنكم تقيسون الضغط الدموي ونِسب السكر في الدم كذلك. لا تبخل علينا بما تستطيعه يا بني.
___ طيب يا مي فاطمة، ريثما أستعير آلة قياس الضغط والسكر من الصيدلية المجاورة، سأجتهد لقراءة ورقة التحليلات.
لولا تلك المعلومات التي احتفظت بها خلال عملي مساعدا صيدلانيا لعجزت عن تقديم يد العون لهاتين السيدتين الطيبتين. وأي عجز أكبر من أن تفشل في مساعدة من يتوسم فيك خيرا. و زاد رغبتي بيت شعري جميل ” لابي الفتح البستي” قال فيه:
وكن على الدهر معوانا لذي امل***يرجو نداك فإن الحر معوانُ.
اما التحليلات الطبية، حسب معرفتي المتواضعة، فجيدة لا تدعو للقلق يا امي، وعليك بمراجعة الطبيب المعالج.
واما الضغط الدموي فمنخفض نسبيا وهذا راجع، ربما، لهذا الوقت من النهار. وعليك ان تفرحي؛ حيت السكر تا هوا مقاد!
___ الله يرضي عليه اولدي، فاجيتيها عليا. الله يفاجيها عليك.

___ و انا من انتظرت وقتا طويلا، و ما تركت معالجا ولا راقيا إلا زرته؛ الن تقول لي شيئا…ألن افرح كما فرِحت امي. هكذا تحدثت رحمة باندفاع.
___ خيرا يا رحمة. خيرا إن شاء الله. ما بك انت يا رحمة؟!
قبل ان تبدأ بالحديث حاولت استفسار ملامحها، و البحث في مظهرها عما يغنيني عن كثرة الأسئلة التي لن تزيدها إلا وجعا وإيلاما. الم تات بقصد البوح وإفراغ ما يجيش به صدرها؟!
رحمة، يا سادتي، شابة على مشارف الاربعين من عمرها. وجهها الشاحب، الذي يخفي جمالا آسرا امسى ولم يصبح. وعيناها الغارقتان الحمروان من أثر السهاد والبكاء. وخصلات شعرها الذي بدأ الشيب يغزوها، وملابسها الرثة وهي زوجة مهندس في الإتصالات؛ تشي عن حزن عميق بذلت الغالي والنفيس للخلاص منه. لكنه عنيد ومكابر مثل زوجها المهندس!
تزوجت، وهي رحمة، من هذا الفظ الغليظ حينما بلغت العشرين من عمرها. لم تكن أسرتها المتواضعة لترفض مهندسا يملك المال والسيارة والفيلا. ولم تكن هي الجميلة لتسمع لنصائح صديقتها بنت الجيران. لابد أنها تحسدها على أول خاطب “همة وشان” تقدم لها. وستفعل ما بوسعها للإيقاع به في شباكها.
وليتني اصغيت لصديقتي التي تعيش اليوم في وئام مع زوج اقلُّ مالا من زوجي، وأكثر منه علما وتجربة. يا أسفي…!
هكذا قالت رحمة بصوت متهدج. كان العقد الاول من زواجنا ناجحا إلى حد ما؛ أقوم بواجباتي المنزلية، ويُحضر ما نحتاجه. نسافر، لاكتشاف مدن سياحية من الوطن، سفرا لا يكسر رتابته إلا بنتينا “إشراق” و “اميرة”. لكنه لم يجتهد قط في اكتشاف اعماق رفيقة دربه، ولم يكلف نفسه عناء السؤال عن حاجياتها المعنوية، العاطفية والذهنية!
ومع ذلك كنت سعيدة؛ لاني فزت بزوج وبيت و لو لم اوَفَّق بعد للظفر بقلبه القاسي، ولم أفلح بعد في تغيير طباعه الجافة.
____ ألم تناقشيه في الأمر؟
____ يرفض الحديث في الموضوع نهائيا. ولا تسمح له انفته ان يحاور سيدة يجب ان تهتم بالبيت وتربية البنات لا غير.
____ الستما زوجين، من المفروض ان يسمع لآرائك ومواقفك ولما لا يصحح اخطاءه التي اثرت على وضعك النفسي؟!
____ قلت لك؛ هذا شخص يلين مع الناس، ويتعامل بشكل رائع خارج البيت. وإذا دخل، حوَّل البيت ثكنة عسكرية. فما العمل…؟
ما العمل أيها المستشار الأسري الغارق في التنظير مع شخص ينظر إلى ام بناته نظرة استعلائية تحرمها مما لم يُحرَم منه “إبليس” الذي عصى امر رب العالمين، ومع ذلك حاوره واتاح له فرصة التعبير عن مبرراته و وعيده لعباده!؟
ما العمل أيها المستشار الأسري الواهم مع هذه الوردة التي خنق أريجها تعامل زوجها المهندس؟
____ في العقد الثاني من زواجنا بدأ الفتور يزحف على بصيص الامل الصغير في تغير حياتنا للأفضل. كلما تجلدت اكثر من أجل إنقاذ مصير بناتي الأربع، كلما تمادى في عنجهيته…ولم نرزق بالبنت الأخيرة حتى أمضيت أوقاتا كبيرة عند الاخصائيين النفسانيين لعلاج أعراض توتر المزاج والأرق وانخفاض الرغبة الجنسية. وخوفي من انتقال هذه الاعراض لآخر العنقود يؤزم وضعي اكثر.
لهذا، تركت له البيت الفخم وسياراته الفارهة و قصدت بيتنا بالبادية. وحدها أمي تفهمني. وفي الطبيعة الخلابة شفاء لامراض النفوس!
تساءلت مع نفسي، مستحضرا حديثا جمعني بك زمن البدايات يا ريحانة:
من اي معدن من المعادن الصلبة والرخيصة صنعت عقول هؤلاء الرجال، إذا اتفقنا على كونهم رجالا؟
كيف يبيح هذا المهندس، وغيره، لانفسهم ان يسفكوا اريج الأزهار من شقائق أرواحهم ويقبلون، بالمقابل، على السم المشترى من افواه العابرين والعابرات ليظفروا باوهام التميز /الحظوة الإجتماعي(ة) ؟!
اما كان جديرا به ان يُكرم هذه الزوجة المكافحة بكلام طيب، وهدية بسيطة وتعامل إنساني يُشعرها باهميتها في حياتها وحياته من خلال مساعدتها على مزاولة أنشطة موازرية تساعدها على تحقيق ذاتها، وتمكنها من اكتشاف طاقاتها وقدراتها على الإبداع؛ أم أنها ربة بيت ولا يحق لها أن تعيش الحياة بأبعادها الاخرى؟!
متى تعرفون ونعرف ان عهد الطاعة العمياء ولى لغير رجعة. وأنكم بأساليبكم الفظيعة هذه تضيفون مزيدا من الاعطاب في جسد هذا الوطن المثخن بالمآسي!
تغتالون الرياحين، وتئدون الطفولة، ببرودة، وتستنجدون بالمعالجين النفسانيين، والمستشارين الأسريين، ومدربي للتنمية الذاتية…وتغادرون في فخر واعتزاز غير آبهين بجرائمكم، وترجون النجاة؟!

____ هل لان الله لم يزرقه ذكرا يرث اسمه ويفتخر به امام اهله هو السبب؟ أم أنه ذو نزعة ذكورية عمياء هو ما يحمله على القسوة معي؟ أم لكونه عاش الرعب في حياته الماضية هو السبب…قل لي أرجوك!
قدمت لها كأس ماء قبل أن يقضي البوح الحار على أنفاسها. وقلت:
____ لا ينبغي ان نفكر بعد اليوم في امر هذا الشخص، ولن نتيه بحثا عن تفسير لسلوكه المرفوض. المهم ان نحاول ما استطعنا لتعود لك البسمة، ويتحسن مزاجك. لن نخسر ذواتنا من أجل أشخاص ساديين يعتبرون انفسهم منزهين عن الزلل؛ إتفقنا يا رحمة!
أنت تجيدين الخياطة، وسبق لك أن ربحت جوائز رياضية عديدة في المرحلة الثانوية. وتعشقين الرسم والأفلام؛ أليس كذلك؟!
لهذا، ابتداء من الغد ستعيدين ربط الإتصال بجمعية الصانعات التقليديات بالحي. وفي انتظار أن يردوا عليك، ستشتغلين على حياكة بعض الأشكال التزيينية(ديكورات من قماش)، لمركزنا، وسنتكلف باقتنائها منك مقابل ما تشترطين.
ثانيا، ستقومين رفقة امي فاطمة واختك بحصص رياضية من المشي والركض الخفيفة ثلاث مرات في الأسبوع.
ثالثا، وانت تعشقين السينما؛ ستبرمجين مجموعة من الأفلام/المقاطع الكوميدية لتشاهدينها صباحا او مساء. وتصالحي مع الكتب والموسيقى.
واطلقي العنان لصرخاتك، وزلزلي الاماكن بضحكاتك. واعملي على إتقان ما ستخيطه يديك. فكلما اشتغلت اليد وركزت قل حظ الدماغ من التفكير في الماضي او المستقبل.
انت شابة لطيفة، ولا تسمحي لاي كان أن يسرق منك سعادة قلب بريء رزقك إياه الله، ولا تقبلي مطلقا ان تُغير ظروف كيفما كانت هذا الحس المرح الجليَّ الذي لن يختفي ولو حل به من الاحزان ما لم يصفه بوحك الصادق يا اخية.
أما هذا الزوج، ويعلم الله دواعي معاملته معك، فربما يتغير بمجرد أن يراك أقوى مما كنتِ عليه، وسعيدة بعد فرارك من معتقله.
ولا تنسي الدعاء بالفرج والدعاء له بالهداية في جوف الليل.
وأبشري، فغدا يحمله شوقه إليك، ويجره ضياعه من دونك إلى طلب وِدك مرة أخرى. وربما عاهدك على تغيير جذري يكون عوضا لما فاتكما من الإستمتاع بمباهج الحياة!
___ إتفقنا يا أستاذ، شكرا لك سيدي، شكرا. قالتها وهي تضحك لأول مرة منذ ساعتين من النحيب والحسرة على قسوة الزوج الحبيب. واش تعبر ليا حتا انا السكر والطانسيو؟
___ دابا مللي ضحكتي مرحبا…كلشي مزيان تبارك الله، هادشي كيفرح، غير متبقايش تخممي بزاف.
___ شكرا لك مرة اخرى، وسعدات للي غادا تديك، سعداتها بيك والله!
___ دعيني يا رحمة مما انا فيه، و مما أعيشه اليوم وغدا. سخرت من نفسي بالمثل الدارج “لوكان الخوخ يداوي، لوكان يداوي راسو”!

وبعد مغادرتهما اعدت طرح السؤال الجوهري للورقة العلمية التي ساشارك بها: ما هو الدور المنوط بالجماليات في حفظ الأسر من التفكك؟
و نقصد بالجماليات، عموما: كل ما من شانه ان يخفف من قسوة وبؤس وقبح العالم؛ من الفنون السمعية-البصرية، إلى الروايات إلى الشعر، وكل ما يساهم في إظهار “الجانب الشعري للحياة” على حساب الجانب “النثري القاسي” فيها بتعبير المفكر الكبير إدغار موران.
اخرجت من رفوف المكتب مراجع أساسية حول الجماليات والتربية لاضيف افكارا اخرى ستكون تجربة رحمة وبوحها احد عناصرها.
لانه تبين لي، بما لا يدع مجالا للشك ان المهندس، زوج الأخت رحمة الرحيمة به وببناتها، واشباهه من قساة القلوب، لو اطلعا على المعاني السامية للفن والدور العظيم للجماليات في الحياة وبناء الأسس المتينة للأسر لما تخلفوا يوما عن موعد سينمائي، مسرحي، أو ادبي؛ وإن لم يكن بوسعهم ذلك ماديا لجعلوا لها نصيبا من اوقاتهم اليومية كما يجلعون للأكل والنوم والجماع نصيبا اكبر في بيوتهم.
وفي هذا السياق يقول إدغار موران ايضا:
“… نكتشف من خلال الفن والجماليات عالم الإنسانية الداخلي، اي عالم ذاتياتنا، وعالم الإنسانية الخارجي…”.
ويضيف:
” …تكمن أعجوبة الفن وأعجوبة الثقافة في كونها تجعلنا اكثر إنسانية وأقل انغلاقا وأقل انانية، واكثر تفهما…”
ويختم محورا رائعا من كتابه بقوله:
“… يعيش الإنسان على الخبز، وعلى الشعر ايضا. والحال ان لديه حاجة متزايدة إلى شعر الحياة (وفنونها، عموما) في ظل حضارة الحساب والربح والتجزيء…”.

وهذه الامور مغَيَّبة، جهلا او عمدا، في حياتنا الإجتماعية. في حين ينبغي ان تكون في صلب اهتماماتنا، وفي أخص خصوصيات علاقتنا، وقد كدنا على وشك فقدان روح رحمة، وكان بيتها قاب قوسين من الإنهيار والتفكك قبل ان يراجع المهندس حساباته الاسرية جيدا، ويدرج عَمليا هذه الأبعاد الجمالية، المعنوية، الإنسانية في تصوره وسلوكه الجديد في علاقته بزوجته وذريته.

قُدر لرحمة عمر سعيد في عشها الجديد كل الجدة. إنصرفت وبقيت هنا أتامل صورة تبرز فيها ابتسامتك الساحرة…
والباب نصف المشرع لم يعد يدخل النسائم، بل انفتح على مصراعيه، واندفعت منه، بعنف، إلى قلبي ذكريات الماضي مع شخصك الكريم يا ريحانة.
هل كنا في ذاك العهد البعيد في حاجة إلى الإهتمام بالجانب الشعري/ المعنوي في حياتنا، ولهذا رسم لي القدر مسارا ادرس فيه، بعد عقود من آخر لقاء جمعني بك، اهمية الجماليات والتربية على الفن والذوق الراقي، وأسعى لترسيخها عند الأفراد…ولذات الأسباب مرَّ حبنا مثل سحابة صيف امطرت دروسا لا انساها ما حييت؟!
ربما كان ذلك. المؤكد أن رحمة التي كانت هنا، وكان طيفك رابعنا، عادت مثل وردة ربيعية إلى بيتها الذي اصبح بستانا.
وكان بوحها يهيج ذاكرتي الوجدانية ليعيدني إليك آلاف المرات ولا أصلك. بل بقيت هنا في مكتبي ارقب يوم ألقاك لأعرف كم تغيرتِ، و تعرفي كم غيرتني السنون الطويلة التي قضيتها بعيدا عنك…
ذهبت رحمة وعادت مرة اخرىولم تعودي أنتِ.
ودعتها بعد حصة اليوم، وخرجت من القاعة المُتخمة بوحًا إلى باحة الاستراحة لأستنشق رائحة عطر طيفك المتضوعة في قلبي وفي كل الاماكن، وبها أستغني عن كل عطر حقيقي يرغب فيَّ وأرغب عنه.

* طالب باحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *