مجتمع

أجيال إعلامية: المهدي المنجرة .. عالم المستقبليات الذي تولى إدارة الإذاعة وعمره 25 سنة

المهدي المنجرة

تقف وراء وسائل الإعلام بمختلف أشكالها، طاقات بشرية هائلة تسهر على إدارتها وتشغيلها والقيام بكل المهام الإعلامية، بهدف إيصال رسالتهم النبيلة في تبيلغ المعلومة للمجتمع عبر وظائف الإخبار والتثقيف والترفيه، وهو ما يُسهِم في تشكيل البناء الإدراكي والمعرفي للأفراد والمجتمعات.

فالإذاعة المغربية التي تعود سنة انطلاقتها إلى 1928، والتلفزة المغربية التي شرعت في بث برامجها سنة 1962، وعلى مدار تاريخهما، مرت أجيال وأجيال من الإعلاميين أثرت وتأثرت بهذا لكيان الذي ترك بصماته عليهم وعلى ذاكرتهم، وكلما احتاجوا لغفوة منه رجعوا بذاكرتهم للخلف ينهلون منها أجمل الحكايات.

وتبرز في هذا الإطار، أطقم البرامج والنشرات الإخبارية من مخططي البرامج ومذيعين ومحررين ومنشطين وفنيي الروبورتاج والتوضيب وتقنيي التصوير والصوت وعمال الصيانة ومسوقو الإعلانات التجارية الذين يقومون بتنظيم الأعمال التجارية، إلى جانب مسؤولي العلاقات العامة والأعمال الإدارية المرتبطة بإنتاج البرامج والسهر على إعداد النشرات الإخبارية من اجتماعات التحرير إلى بثها عبر الأثير.

فطيلة أشهر فصل الصيف، تسترجع معكم جريدة “العمق” من خلال مؤرخ الأجيال الإعلامية محمد الغيذاني، ذكريات رواد وأعلام بصموا تاريخ الإعلام السمعي البصري المغربي عبر مسارهم المهني والعلمي وظروف اشتغالهم وما قدموه من أعمال إبداعية ميزت مسار الإعلام الوطني، وذلك عبر حلقات يومية.

الحلقة 51: المهدي المنجرة

ولد الدكتور المهدي المنجرة بالرباط سنة 1933، تلقى دراسته الجامعية بالولايات المتحدة الأمريكية، وبعد حصوله على الإجازة في البيولوجيا والعلوم السياسية من جامعة كوغنيل، تابع دراسته العليا بانجلترا حيث حصل على دبلوم في العلوم الإقتصادية من جامعة لندن، ثم دبلوم في الدراسات الشرقية من جامعة لندن، عمل أستاذا في مركز الدراسات الدولية بلندن، ويعتبر من الأساتذة المغاربة الأوائل الذين درسوا بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1958.

في يوم 16 فبراير من سنة 1959، استقبل الملك الراحل محمد الخامس المهدي المنجرة الذي كان أصغر أستاذ في كلية الحقوق بالرباط، وعينه مديرا عاما على الإذاعة المغربية خلفا للأستاذ قاسم الزهيري.

يقول الدكتور المهدي المنجرة إن أحسن ذكرياته في المناصب التي تقلدها طوال حياته، هي الفترة التي قضاها على رأس الإذاعة المغربية ما بين فبراير 1959 ويونيو 1960، فمن جهة لكونه أول منصب يتقلده في حياته وعمره لا يتجوز 25 سنة، ومن جهة أخرى اعتبارا للظروف التي كان يعيشها المغرب ثلاث سنوات بعد الاستقلال، والروح النضالية التي كانت تطبع كل المؤسسات والأماكن والإدارات. فالإذاعة كان لها دور خاص في هذه الفترة.

فبالنسبة لي، يقول المنجرة، ”اعتبر الإذاعة من أعظم المدارس الموجودة في العالم، مدرسة للحياة والمدرسة التي تحتم على الإنسان تعلم لغات جديدة تعلم لغة الصحافي ولغة الفنان والموسيقي ولغة الإداري…”. ومن ذكرياتي أيضا يقول المنجرة، معايشتي لصدور ظهير 18 ماي 1959، الذي أعطى للدولة المغربية الإحتكار التام في ميدان الإرسال، هذا الحدث كان له تأثير هام، حيث تم تأميم إذاعة درسة بتطوان وإذاعة طنجة الدولية واذاعة إفريقيا المغرب وشركة تلفزيون المغرب، التي كانت تسمى ”تيلما” وتعتبر هذه العملية، توحيدا للقطاع الإعلامي مثل عملية توحيد التراب الوطني بين الشمال والجنوب”.

وتميزت فترة إدارته للإذاعة المغربية أيضا، بتأسيس الجوق الوطني للإذاعة المغربية برئاسة الأستاذ أحمد البيضاوي، وجاء ذلك بعد إجراء مباراة وطنية لاختيار أحسن موسيقيي الأجواق المتواجدة آنذاك في الساحة، وقد تلا هذا الإجراء تغيير في وضعية الموسيقيين والصحفيين والإداريين داخل الاذاعة.

ويبقى الدور الذي لعبته الإذاعة الوطنية بعد زلزال أكادير أحسن ما يحتفظ به المنجرة لهذه الوسيلة الاعلامية الهامة، حيث يقول  في هذا الصدد: “ففي مارس 1960، كانت كل أطر وموظفي الإذاعة بمختلف تصنيفاتهم الإدارية يشتغلون على مدار الساعة، بحيث لعبت الإذاعة دورا اجتماعيا وإنسانيا كبيرا خلال هذه المأساة، فعلى مدى عشرة أيام كانت كل البرامج والنشرات الإخبارية مخصصة للزلزال وانعكاساته الإقتصادية والإجتماعية والإنسانية، فقد كانت الإذاعة تبث رسائل وبرقيات المواطنين الذين كانوا يبعثون بها للإذاعة أو التي كان البعض منهم يحضر إلى مقر الإذاعة لتحرير رسائلهم التي يسألون فيها عن ذويهم وأفراد عائلاتهم الذين كانوا متواجدين آنذاك في أكادير يوم الزلزال.

فقد كانت الإذاعة المصدر الوحيد للتعرف على كل أخبار الحدث المأساوي، فقد كان جميع العاملين مجندين لخدمة المواطنين وتقديم مستجدات الحدث بواسطة المراسلات التي يقدمها الصحافيون بواسطة الخط الهاتفي الوحيد الذي كان يربط أكادير بالرباط، والذي كان تحت إشراف القوات المسلحة الملكية ووزارة الداخلية، حيث كانت تخصص 15 دقيقة يوميا للإذاعة لتقديم المراسلات، وهو نفس الحماس الوطني الذي عبر عنه العاملون في الإذاعة أيام المسيرة الخضراء المظفرة، ولا أنسى أيضا دور الإذاعة في إنشاء الإتحاد الإفريقي للإذاعة والتلفزيون من خلال تنظيم الإجتماع التأسيسي للإتحاد بالرباط في الفترة ما بين 25 و27 ماي 1960 وكانت هذه أول منظمة دولية إفريقية تنشأ بعد استقلال دول إفريقيا والذي سبق تأسيس منظمة الوحدة الافريقية بسنوات عديدة”.

ونحن في سنة 1978، يضيف المنجرة، حصل تطور كبير بالاذاعة والتلفزة المغربية من خلال توفرها على العدد الكافي من الموارد البشرية مقارنة مع سنة 1959، وتتوفر حاليا على تغطية مهمة للتراب الوطني من أجهزة الإرسال. وموازاة مع ذلك تطورت مسؤوليتها اتجاه المجتمع، مثلها مثل كل الدول بحيث كبرت مسؤولية الاذاعة والتلفزيون وخاصة دورها ورسالتها في الميادين التربوية والثقافية والعلمية، إذ أصبحت اليوم من أهم الأدوار الموكولة لها، وقد يفوق حتى دور المدارس نفسها لسببين؛ أولا لأن الاذاعة حتى بدون وجود التلفزيون نجد أن عدد أجهزة الراديو داخل المنازل المغربية يفوق ثلاثة ملايين جهاز راديو، وهو ما يمثل حوالي 15 مليون مستمع، وهذا رقم كبيرمن المواطنين لا نجده في المدارس والجامعات وتلاميذة الكتاتيب القرآنية مجتمعين والذين لا يتجاوزون ثلاثة ملايين شخص فقط، ومن جهة أخرى فإن مستوى حصول المواطن على المعلومات من المدارس لا يتجاوز 40 في المائة في حين أن النسبة تصل إلى 50 في المائة بالنسبة للاذاعة والتلفزيون.

فثورة وسائل الاتصال شيء جديد يعرفه العالم ونوع من التحدي لأي إذاعة أو تلفزيون في أي جهة كانت في العالم، لذى يجب استغلال هذه الوسائل في التربية والتثقيف، لكون النسبة التي تحتلها البرامج الثقافية ليس فقط في التلفزيون المغربي ولكن في كل تلفزات العالم الثالث لا تتعدى 20 إلى 25 في المائة من الانتاج المحلي، وهذا يعني أن أكثر من 75 في المائة من البرامج، تأتي من الخارج وكلها تحمل أفكارا مختلفة عن البيئة المحلية، لأنها أرخص مقارنة بتكاليف البرامج الوطنية، فاذا تجاوزنا الكلفة المادية لهذه البرامج نجد أن الاستفادة الكبيرة من تشجيع الإنتاج المحلي، تتجلى في الحركية الاقتصادية التي تنتج عنها فهناك كتاب يشتغلون ومنتجون يشتغلون وفنيون وتقنيون يشتغلون، فمن واجب دول العالم الثالث تطوير انتاجها الوطني والرفع من النسب المائوية لكل ماهو ثقافي”.

وبعودتنا إلى سنة 1960 يقول المنجرة: ”حين بدأت عملية تقوية بث برامج الاذاعة المغربية على الأمواج القصيرة من محطة الإرسال بسبع عيون، كان الهدف من العملية الدفاع عن الوحدة الوطنية من خلال برنامج “صوت الصحراء” والدفاع عن استقلال الشعوب التي ما زالت تحت سيطرة الاستعمار، وفي هذا الإطار كان برنامج ”صوت الجزائر” يهيء من طرف المسؤولين الجزائريين من دون أي رقابة ويبث البرنامج بواسطة الأمواج القصيرة من محطة سبع عيون وأيضا من محطة ”صوت أمريكا” من طنجة، وقد نتج عن العملية احتجاجات متكررة من طرف السفارة الفرنسية بالمغرب ووزارة الخارجية الفرنسية وسفارة الولايات المتحدة بالمغرب، وفي الفترة التي كنتُ فيها مسؤولا عن الإذاعة الوطنية كان الإخوة الجزائريون يأتون إلى مبنى الإذاعة ويسجلون برامجهم بدون رقابة حيث كنت في بعض الأحيان أتابع ما يقدمون على الأثير مثلي مثل باقي المستمعين، وهذا الدور ليس غريبا على المغرب الذي كان مؤمنا بدوره الكبير في دعم ومساعدة الدول العربية والإفريقية من أجل حصولها على الاستقلال”.

ويبقى الدكتور المهدي المنجرة المثقف والمفكر والكاتب المغربي وعالم الدراسات المستقبلية، أحد أكبر المراجع العربية والدولية في القضايا السياسية والعلاقات الدولية والدراسات المستقبلية. حاز على أكثر من جائزة دولية ووطنية في أكثر من بلد، جال كثيرا من دهاليز المنظمات الدولية وبلغ بداخلها أسمى المناصب وندد بمواقفها في قضايا الحاضر والمستقبل، عمل مستشارا وعضوا في العديد من المنظمات والأكاديميات الدولية.

ساهم في تأسيس أول أكاديمية لعلم المستقبليات، وترأس خلال أربعين سنة أكبر معهد للأبحاث المستقبلية والاستراتيجية في العالم، ويعتبر أكبر خبير مستقبليات على مستوى العالم. تولى عمادة الجامعات اليابانية في التسعينات، وتولى رئاسة لجان وضع مخططات تعليمية لعدة دول أوروبية.

اشتهر بكونه المؤلف الذي نفذت طبعة كتاب له في اليوم الأول من صدورها، واعتبرت كتبه الأكثر مبيعا في فرنسا ما بين 1980 و1990. يتقن عدة لغات ويؤلف بالعربية والفرنسية والإنجليزية واليابانية.

ألف المهدي المنجرة في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، واهتم بالخصوص بقضايا الحقوق والعولمة والقيم والاستراتيجيا والتنمية وثنائية التطور والتخلف. ألف المهدي المنجرة أكثر من 500 مقالة في العلوم الاقتصادية، السوسيولوجية والإنسانية.

* المصدر: كتاب “للإذاعة المغربية.. أعلام” وكتاب “للتلفزة المغربية.. أعلام” – محمد الغيذاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *