أدب وفنون

“طفولة مبدع” .. نوالي: أغرمت بكتب السحر وأدمنت الحكايات

“طفولة مبدع ” هي نافذة نلتقي من خلالها مع المبدعين المغاربة للحديث عن عوالم طفولتهم، وتأثيرها على كتاباتهم، وما الذي بقي راسخا في الذاكرة من ذلك الزمن البعيد، وملامسة حضور تيمة الطفولة في نصوصهم الإبداعية، هي نوستالجيا لزمن البدايات في دروب الحياة.

حلقة اليوم مع  الكاتب المغربي حسام نوالي، يكتب القصة القصيرة والنقد الأدبي، صدر له “مثلث العشق والقصيدة” (2001)، و”الطيف لا يشبه أحدا” (2015)، من أعماله كذلك، “العقل الحكائي”، دراسات في القصة القصيرة بالمغرب( 2017)، و” احتمال ممكن جدا”، قصص ساخرة (2019)، وفيما يلي نصه الذي وسمه بعنوان “جْمافّو عليك أليّام.. !”:

“حين وُلدت كان عمري ثلاثة عشر سنة تقريبا، ولم يكن في البيت الذي أكبُر فيه بيانو كبير في ركنٍ مرتفع قليلا وبإضاءة خافتة شهية ولا لوحات على حائط مصبوغ بعناية، ولم تكن ثمة مكتبة خشبية مرتبة بكتب تظهر عناوينها الملونة الأنيقة، وبعض شواهد التقدير والدبلومات، ولا منضدة تتسع لجريدة أو أكثر.. كما أنه ليس بإمكان أحد- في بيتنا- أبدا أن يسند مرفقيه على النافذة، ويمد بصره إلى الخارج ليرى منازل جيران يخرج منها أطفال مهذّبون ويعبرون حدائقهم التي تزينها أشجارٌ إفريقية ونباتات..

وطبعا لم أسكن -عكس ذلك- داخل كوخ قصديري معفّن، لكن طوال حياتي -أيها الكرام- كان الكوخ القصديري يسكن في رأسي، وكانت زبّالةٌ أُطِلُّ عليها من سطح الدار تغريني كثيرا، فهناك كان بإمكاني مثلا أن أصنع قبعة شرطي من صندالة جلد كبيرة أثنيها في مناطق معينة بدقّة، وأعالجها في أخرى ثم أحشو رأسي داخلها بصعوبة، فأصير شرطيا ببساطة وأفرح كثيرا. وهناك كان بإمكاني أن ألقط ما يشبه هدايا ثمينة، وألفها في خرقة تكون حمراء في الغالب ثم أقدمها لبنت الجيران التي نتنافس عليها نحن السبعة عشر رهطا.

بعد مدّة، كان الكوخ الذي يسكنني يتضاءل كثيرا وينسحب، وصارت الزبالة تحتلّني. فكانت لي حديقةَ ألعاب متجددة، وكانت لي مساحةَ تدريب غير ممل على التواصل وعلى العشق بالهدايا وبعبارات الإغواء، وأفقا تعلّمت فيه وكبرت بلا حساسية جلد، ولا حساسية فكر، بل كانت مدرسة وازنتُ فيها بين الابداع والتجريب والتطبيق العملي.

كلبٌ أليف نحيل أجرب كان هناك يركله الجميع ويرجُمه الجميع بدون أي سبب حتى صارت رجله تعرج فصار يقفز بخفة ويناور ويخطو بدقة أكبر، وكان بالنسبة لي أفضل نموذج أفهم به منطق الزّحاف والعلل في الشعر ! والقافية لم تكن غير بقعة صغيرة تشدّها بنت الجيران بسروال الجينز كي تكون آخر ما نراه وهي ترحل، فيما العروض كله -مثل الفراهيدي تقريبا- كنت أتذوّقه في سوق السكّاكين وفي خطوات البغال على الإسفلت.

وطبعا، فبعد سنوات -وكما تتوقعون تماما- كتبتُ قصائد، كانت رديئة جدا، لم يتعلّق بها حتى المقربون جدا والمتعاطفون لأقصى حد ممكن، لأن شِعري كله ببساطة لم يكن غير مزيج من الكلب الأجرب الهزيل وضجيج السكاكين والبغال، لا ماء فيه ولا رؤى.

ولا أحد كان يرسم لي طريق القراءة أبدا، لذا فقد قرأت في البداية ما كان يملكه أبي: “الرحمة في الطب والحكمة” و “مناسك الحج” وجزءً من “رياض الصالحين”، ثم فيما بعد أدمنت ما كان يفرشه كتبيٌّ يزور قريتنا قبل أن ينقطع عنها تماما، فأُغرِمت فجأة بكتب السحر، وتعلّقتُ بكتب الطّوخي وقرأتُ “الكباريت في إخراج العفاريت”، و “سحر هاروت وماروت”، وفتّشتُ بجِد في كل مكان وفي كل كتاب عن اسم الله الأعظم، وعن الخاتم الذي يمكّنني تحريكُه من التحكم في الجن والإنس والريح .. وفي بنت الجيران.

وقد كنتُ قرأت فيه وصفة الحب في زمن كان فيه جسد بنت الجيران قد بدأ يرسم تضاريسه، وكان جسدي قد بدأ يسيل لعابُه ويتدفّق؛ وهي وصفة سهلة – لمن أراد تطبيقها-، ليست أكثر من كتابة بضع جمل في ورقة وتُعلّقها بخيط عند عظمة الكوع الأيمن، ثم تركل من تحب ، وبمشيئة الواحد القهار – والعهدة على الطوخي طبعا- ستتعلق بك تعلق زليخة بيوسف، وهذا جزء مما تكتبه:

“اللهم بآدم ونوح وبالقلم واللوح وبإسم بدوح وبما خط به القلم في اللوح أن تأخذ من فلانة بنت فلانة القلب والعقل والنفس والروح وتعطفهم للروح حتى تبكي وتنوح بالمحبة الشديدة على فلان بن فلانة بحولك وقوتك وبحق لياخيم ليالغو ليافور لياروث لياروغ لياروش لياشلش. اللهم شلش عقل فلانة بنت فلانة بمحبة فلان بن فلانة بحق مازر كمطم قسورة طيكل…”

وأذكر أني في غفلة فاجأتُ بنت الجيران بركلة بالرجل المعقودة، التفتَتْ معها إليّ مذعورة لا تعي ما الذي حدث ففاجَأتني بصفعة على الوجه لم أفهم معها أين تأخر بدوح ولياغور ولياروش وعصابتهم جميعا، وبقيتُ مذهولا صامتا أنتظر أن يسري السم في جسدها فتعانقني معتذرةً وتقبلني فأسامحها، فتصير جولييت وأصير روميو، فيما هي كانت تصيح منادية أخاها المفتول الذي يشبه صومعة الكتبية والذي سَبَق كل العفاريت الذين سخّرتُهم، فحضر في رمشة عين، وشلّظني في التراب في رمشة عُنف وبعثرني أمام هاروت وماروت والطوخي..

في البيت أقنعتُ أمي أني سقطت في “الفوسي” المحيط ببقعة أرض في طور البناء، وفي الوقت الذي كانت فيه أمي تضع خلطة الأعشاب والقطران على كدمات وجهي بعد تكميدها بفوطة ساخنة، كنت أنا أوقن حتما أن الساحر لا يفلح حيث أتى. وغيّرتُ أمنيتي في الحال إلى “كاتب” قد يصدّقه الناس، مثلما يصدّقون الطوخي تماما.
وها أنا أدمن الحكايات، فصدّقوني.. صدّقوني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *