منتدى العمق

القانون والفلسفة.. الحكمة في مدرجات كليات الحقوق !

من المقاربات التي تُغطّي مفاصل كثيرة في الثقافة المعرفية، وفي الحقول العلمية أساسا.. المقاربة التاريخية، وهي مقاربة منهجية تروم البحث في تطور الإشكالية عبر سيرورتها التاريخية، حيث الإرث التاريخي فعّال في قراءة المفهوم في لحظات تشكّله، ومن هذا المنطلق فإن دراسة القانون، والإحاطة بقواعده ومبادئه.. يفرض سلك هذه المقاربة، بالنظر إلى كون القاعدة القانونية تعبير عن تطور أسمى للمفاهيم النظرية المقعِّدة لفلسفة الحق والقانون.

على هذا الأساس يتأكد أن هناك علاقة جدلية عميقة تربط المبحثين، وتدفع في اتجاه تمتين هذه العلاقة، على اعتبار أن النفاذ إلى عمق القاعدة القانونية يمر بالأساس عبر البحث في جذور تبلور النسق المفهومي القانوني، حيث الأساس التنظيري للفكرة سابق لامتدادها في الواقع العملي، وهذا بالضبط ما يفتح القانون على الفلسفة أو بصيغة أدق على ” فلسفة القانون”.

إن التأمل النقدي لطريقة تدريس المادة القانونية بكليات الحقوق، يكشف عن تماهٍ واضح بين الفكر  الفلسفي والقانون  – باعتباره نظاما من القواعد اهتدى إليه الإنسان لتنظيم سلوكاته – إن على مستوى التأصيل التاريخي للتطور الدستوري والقانوني، أو على مستوى إبراز ما تدين به الفلسفة لحقل القانون، وهذا مهم جدا بالنظر إلى الجوهر الذي يستند إليه مبحث الفلسفة السياسية، والذي يجعله منفتحا على الدولة كهيئة سياسية وقانونية وأخلاقية.. والقانون في هذا الباب لا يعدو كونه استجابة حتمية لتراكمات من التنظير الفلسفي، ولمحاولات عديدة في الانتقال بالأفراد من وضع الهمجية إلى وضع التحضر.

إن التأصيل النظري لنشأة مفهوم الدولة، ولتبلور الفكرة الدستورية والقانونية، يدين بالأساس لأفكار الفلاسفة وتصوراتهم، وتحديدا تصورات رواد فلسفة اليونان وإسهامات فلاسفة العصور اللاحقة، حيث المرجعية النظرية والأخلاقية موجهة لأسئلة البحث في نشأة الدولة، ولشروط ممارستها السلطة السياسية، كما أن أفكار الفلاسفة تحدد خطوط التماس بين القوة والعقل، والفلاسفة أقرب إلى فهم ماهية الحق والعدالة والديمقراطية.. وهذا ما جعل سقراط يقرّ بأهمية حكم الفلاسفة، وقدرتهم على تحقيق مجتمع عادل وديمقراطي، كما لو أنه يقصد بأن ” فهم ماهية القانون شرط أساسي في ممارسة السلطة السياسية”، وهذا ما دفعه للتأكيد على أنه ” لن يتحقق العدل في مجتمع إلا إذا صار الفلاسفة حكام أو أصبح الحكام فلاسفة”، مما يعني أن القاعدة القانونية؛ تنظيرا وتطبيقا، علاقتها تلازمية مع الفلسفة والفلاسفة، ليس من مدخل أن الفلسفة هي أم العلوم كما راج ويروج، وإنما لأن السيرورة التشكُّلية لمبادئ وقواعد القانون تمر  بالضرورة عبر تصورات الفلاسفة، وعبر المبادئ التي نادوا بها.

وبالعودة إلى ما يتلقاه طلبة الحقوق في مدرجات الجامعة، يتضح أن تغلغل الفكر الفلسفي كاشف لعمق الارتباط بين الفلسفة والقانون، حيث قواعد القانون تُقرأ بلغة الفلسفة قبل أن تصير مبادئ توجه العلاقات التعاقدية أو القانونية، ومن بين هذه المبادئ نجد مبدأ الإرادة كمفهوم نشأ في حضن الفكر الفلسفي، وترعر بين ثنايا مباحث العلوم الإنسانية والاجتماعية، قبل أن تتأسس عليه شروط التعاقد في الممارسة القانونية، وهذا التداخل في تشكُّل مفهوم الإرادة يتصل ومباشرة بمفاهيم أخرى من قبيل مفهوم الحرية ومفهوم الإكراه.. وهي مفاهيم يترتب عليها آثار قانونية اعتبارا لطبيعتها الجوهرية في المباحث التشريعية والقانونية والقضائية.

إن مفهوم الحرية باعتباره جوهر الفلسفة، يشكل جوهر القاعدة القانونية، لأنه يعكس شرط الإرادة، وأيضا يعكس استقلالية الذات عن كل القوى المتحكمة في توجيه القرار، وهذا الأمر يمكن الوقوف عليه في مختلف فروع القانون، ففي مبحث الجنائي يتردد مفهوم المسؤولية الجنائية، وفي مبحث المدني يتردد مفهوم المسؤولية المدنية، وفي قضايا الأحوال الشخصية يتردد مفهوم ” الإيجاب والقبول”، وفي المجال التعاقدي يتردد مفهوم ” سلطان الإرادة”.. وهذه المفاهيم تعني أول ما تعنيه أن الذات البشرية تحكمها مبادئ تضمن لها السمو، وتحقق لها الكينونة القانونية والأخلاقية.

لقد خصص المشرع المغربي في الفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود الحديث على مبدأ سلطان الإرادة، باعتبار أن العقد شريعة المتعاقدين، والعقد في هذا الباب يخضع لشروط وأحكام أهمها شرط الحرية التعاقدية، ومتى تكونت الالتزامات التعاقدية على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة لأطراف العقد، هذه الأخيرة لها حرية التصرف في ( إنشاء العقد، تعديله، إلغائه..) ما يفيد أن الحرية هي جوهر الالتزام القانوني، وأن كل إكراه خارج الإرادة الحرة يترتب عليه بطلان العملية برمتها، وكنتيجة لفلسفة الحرية التي توجه العلاقة التعاقدية، بات المشرع يسلك خيار توسيع شروط التحرر في القانون، وهذا واضح من خلال قانون حماية المستهلك وفلسفته – نظريا – القائمة على ترسيخ شروط العدالة التعاقدية.

وبصرف النظر عن الأساس المفاهيمي المؤثث للغة القانون، فإن حجر الزاوية في هذه العلاقة الجدلية يتعلق بعملية التفكير، وما يمكن التأكيد عليه في هذا الشأن هو أن منهج التفكير لا يرتبط بمبحث الفلسفة فقط، وإنما هو منهج يمارسه من حيث المبدأ كل العقلاء، والباحث أو الطالب في القانون ينخرط في عملية التفكير في قضاياه القانونية؛ يفكر في تطورات الحاضر، كما أنه يفكر في ممكنات مراجعة القواعد القانونية بما ينسجم وقضايا الراهن، وما دامت الفلسفة تجد متعتها في الارتباط بدينامية اليومي ( متجاوزة التقليد الكلاسيكي)، فإن أساتذة وفقهاء القانون وطلبة الحقوق – بدورهم –  يسكنهم هذا الانغماس في كل ما يعتمل في المجتمع، كما تسكنهم نشوة التفكير في منهجية تحليل القصور الذي يسِم المواكبة التشريعية والقانونية للوضع الراهن.

ختاما، يمكن القول بأن فصل القانون عن الفلسفة، أو الاشتغال على الحق والعدالة والديمقراطية.. خارج فلسفة القانون، لا يسعف من يمارس القانون في الاتصال بواقعه، كما لا يسعفه في فهم السياقات المُجدِّدة والمتجددة، تماما كما يحصل مع علماء الرياضيات والفيزياء.. حيث اتصالهم بالفلسفة يخدم حقولهم المعرفية بامتياز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *