وجهة نظر

هل تعرف علي عزت بيجوفيتش؟

رغم أنني كنت معجبا بالرئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش ، لكنني لم أكن أعرف عنه الشيء الكثير سوى أنه رئيس للبوسنة انتخبه الشعب في بداية التسعينات من القرن 20 ،وقاد البوسنة في ظروف صعبة للغاية زمن الإبادة والتطهير العرقي الذي مارسه القوميون الصرب المتعصبون في حق شعب البوسنة أمام مرأى ومسمع العالم، وتواطؤ الدول الأوربية الكارهة للمسلمين، كما كنت أعرف بعض الأقوال والأحداث المأثورة عنه ،كالذي حصل معه ذات مرة حين وصوله إلى صلاة الجمعة متأخرا ، وكان قد اعتاد الصلاة في الصفوف الأمامية ، ففتح له الناس الطريق إلى أن وصل الصف الأول ، فاستدار للمصلين وبغضب  قال لهم  قولته المشهورة : ” هكذا تصنعون طواغيتكم“.

هذا كل ما كنت أعرفه عن علي عزت بيجوفيتش ، حتى صادفت ذات يوم، برنامجا وثائقيا بأحد القنوات الفضائية، يتحدث  عن كتابه “الإعلان الإسلامي”  والذي تسبب في سجنه في ثمانينات القرن 20 ، فأثارني الموضوع وجلست أشاهد البرنامج حتى نهايته ، ثم نهضت من فوري أبعث عن هذا الكتاب في مكتبتي حيث اعتقدت أنه موجود بالمكتبة ، لكنني لم أعثر عليه ، فقررت أن أجد وسيلة للعثور عليه، وهو ما تم بحمد الله .

كان بكر ابن علي عزت بيجوفيتش قد قام سنة 1981 بجمع سلسلة من مقالات أبيه في كتيب وضع له عنوان  ” الإعلان الإسلامي” ،وقد أثار هذا الكتاب ضجة إعلامية كبيرة في يوغسلافيا، واستغل استغلالا ظالما ضد مؤلفه ،وكان أداة اتخذها الشيوعيون القوميون من  الصرب والكروات لتحريض الغرب عليه ،وعلى دولة البوسنة والهرسك بصفة عامة ،بدعوى أنه يريد إنشاء دولة أصولية إسلامية في أوربا.

لكنني بعد قراءتي للكتاب تبين لي زيف ادعاءات الخصوم من الشيوعيين والقوميين الصرب والكروات،كما صادف هوى لدى بعض المثقفين والسياسيين الأوروبيين ، واتخذ ذريعة لمحاكمته من طرف النظام الشيوعي اليوغسلافي ، في محاكمة صورية وتهم مفبركة وشهود زور، فحكم عليه مع مجموعة من زملائه ب14 سنة سجنا ، سنة 1983 ، قضى منها 5 سنوات بالسجن وأطلق سراحه سنة1988.

والكتاب في الحقيقة لا يتكلم عن الإسلام في أوربا أو يوغسلافيا، وإنما يتحدث عن قيم الإسلام بشكل عام ، وعن تخلف الشعوب المسلمة ، ويدعو المسلمين إلى عدم اعتبار الإسلام مجرد دين، بل يعتبره دين ومنهج حياة ، كما يتحدث عن مواضع أخرى في غاية الأهمية، مرتبطة بالنظام الإسلامي ، والمشكلة الراهنة للنظام الإسلامي ، يبرز من خلال ذلك مدى معرفته الكبيرة بالشريعة الإسلامية ، واطلاعه الواسع على أحوال المسلمين بالعالم،  وتفكير عميق في تحليل الأحداث  ،واقتراح الحلول ،ونظرا لكون موضوع هذه المقالة ليس هو الكتاب وإنما صاحب الكتاب فقد قررت أن استزيد من معرفتي له .

وهكذا وبعد قراءتي كتاب “الإعلان الإسلامي” ، بحثت عن كتب أخرى له ، فقرات له ، كتاب ” الإسلام بين الشرق والغرب ” وهو كتاب مهم جدا ، ويمكنني أن أقول انه كتاب فلسفي بامتياز ،يظهر فيه المؤلف الماما كبيرا بالفكر الغربي وفلسفته المادية والمثالية،كما يبرز معرفته العميقة بالإسلام  ،حيث يتحدث فيه عن الدين وعن الخلق والتطور وعن داروين ومايكل أنجلو، وعن المثالية الأصلية ، وعن ازدواجية العالم الحي ، وعن الفلسفة الإنسانية ، وعن الثقافة والحضارة ،وعن الفن ، وعن الأخلاق ،وعن الثقافة والتاريخ ، وعن الدراما والطوبيا ،وعن الإسلام ،…. الخ .

ثم قرأت له كتاب ” هروبي إلى الحرية ” وهو كتاب دون فيه تأملاته ومعاناته واحتكاكه بأعتى المجرمين،في تجربته السجنية الأولى والثانية ، وعلاقاته بأولاده الثلاثة :بكر وليلى وسابينا وهو بالسجن في تجربة السجن الثانية، ومراسلاتهم له وزياراتهم له ، فكان يدون كل ما كان يخطر على بال سجين ، فكتب عن الحياة والناس والحرية ، وعن الدين والأخلاق ،وعن السياسة ، وعن الشيوعية والنازية وغيرها .

ثم قرأت له كذلك كتاب “عوائق النهضة الإسلامية” ، ناقش فيه مواضع عديدة منها : سبب تخلف المسلمين ،ومكانة المرأة وقيمتها في الإسلام ،والمسلمون و إسرائيل ،والإسلام والمعاصرة ، وهل نربي المسلمين أم الجبناء ،و نحو الثورة الإسلامية ،و كيف نقرأ القران ،وتأملات في الهجرة النبوية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإسلام وكفاح الشعوب ، وقد تقمص هنا دور المحامي للدفاع عن الإسلام والمسلمين .

وأخيرا قرأت له كتاب ” مذكرات علي عزت بيجوفيتش( أسئلة لا مفر منها )”. وهو جزء يسير من سيرته الذاتية ،حيث يقول إن أجزاء كاملة من حياته إما نسي تفاصيلها وإما أنها تخصه لوحده ، ولا تهم غيره ، وما بقي إنما هو سرد زمني للأحداث أكثر من أن يشكل سيرة ذاتية ، بهذا التواضع يقدم على عزت سيرته الذاتية ، ويقول بأن  التاريخ لا يجب أن يكتبه أولائك الذين صنعوه .

وهكذا أكون قد أمضيت لحظات شيقة، مع شخصية ذات عقل حصيف ، وفكر ثاقب ،وإيمان قوي ،وعقيدة لا تتزعزع ، صاحبته عبر كتبه ، وهو طفل تأخذه أمه معها لصلاة الفجر مع  الجماعة بالمسجد ، فيجد صعوبة في ترك فراش النوم و الذهاب شأنه في ذلك شأن أي طفل، لكنه كان يعود منشرحا مسرورا، ثم وهو يراقب أمه وهي تقيم الليل وتقرأ القران، فكان لذلك أكبر الأثر في حبه للقران وتدينه، ثم وهو تلميذ متوسط النتائج بالمدارس الابتدائية ، وهو بالثانوي وشغفه بالفلسفة ،حتى أنه استوعب الأعمال الفلسفية الأساسية بأوروبا قبل بلوغه سن 19 من عمره، ثم وهو مراهق غواه الفكر الشيوعي فبدأ يقرأ كتب الشيوعيين

والملا حدة ، لكنه وجد ذلك  يتعارض مع ما يؤمن به وما يتصوره ،وأن الشيوعيين لا يريدون الديمقراطية وإنما دكتاتورية البروليتاريا ،وان كانوا ضد الفاشية الشمولية ،لكنهم  أخطر منها ، فترك الفكر الشيوعي  وعاد للنضال من أجل الإسلام ، ثم عرفته و ينافح عنه  ضد الشيوعية والنازية ، فيؤسس مع زملائه “جمعية الشبان المسلمين ” ، ويحكم عليه بالسجن 3 سنوات مع الأشغال الشاقة، سنة 1946 ، يقول انه أودع  السجن مع أعتى المجرمين ن ويقول كذلك بأنه لم يتعرض لتعذيب جسدي بالسجن باستثناء الجوع ،

ثم تعرفت كذلك على مساره الدراسي والتكويني ، حيث تلقى تعليمه في مدارس العاصمة سراييفو ، وحصل فيها على الشهادة الثانوية سنة 1943،بعدها التحق بجامعة سراييفو، حيث حصل على الشهادة العليا في القانون سنة  1950، ثم الدكتوراه سنة 1962 ،وشهادة في المحاماة في نفس السنة ، وشهادة عليا في الاقتصاد سنة 1964 ، وهو يعمل مستشارا قانونيا  لمدة 25 سنة  ، ثم تفرغ للبحث والكتابة والعمل الساسي بعد ذلك ،وعرفت أنه  كان يقرأ ويتحدث بعدة لغات هي الألمانية والفرنسية والانجليزية مع إلمامه الجيد باللغة العربية .بالإضافة إلى لغة بلده

عشت معه كذلك وهو يحاكم مرة أخرى بتهم باطلة سنة 1983 ، بسبب كتاب” الإعلان الإسلامي ” فيحكم عليه مع زملائه ب 14 سنة سجنا، قضى منها خمس سنوات ثم أفرج عنه ، عرفت كيف كان حاله بالسجن طيلة هذه الخمس سنوات وقد تجاوز عمره الستين .

ثم عرفت جزءا من حياته بعد ذلك ،وهو يؤسس مع زملائه سنة 1990 حزب العمال الديمقراطي ثم وهو يترأسه ، ثم وهو رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك ابتداء من 1990،حتى 1996 حيث انتخب مرتين ، وهو يقاوم العدوان، ويواجه التحديات المحلية والإقليمية والدولية ،حتى اضطر في النهاية للاستقالة من منصب رئاسة الجمهورية لمصلحة بلده ، بسبب تباطؤ وتلكؤ المنتظم الدولي في إعمار البوسنة والهرسك بعد الدمار الذي خلفته الحرب ، وكرههم لوجود علي عزت بيجوفيتش ذو التوجه الإسلامي في رئاسة الجمهورية.

هذا باختصار شديد هو علي عزت بيجوفيتش،المناضل القوي  ،والسجين، و المفكر،والمثقف، والفيلسوف،والعبقري ،والسياسي ،والرئيس ، والابن البار، والزوج الوفي، والأب الرحيم ، والمسلم الصادق ، يقول عنه وود وورث كارلسن وهو مفكر أوروبي محايد لا ينتمي لدين المؤلف: “إن تحليله للأوضاع الإنسانية ، مذهل وقدرته التحليلية الكاسحة تعطي شعورا متعاظما بجمال الإسلام وعالميته ”

ولد علي عزت بيجوفيتش بمدينة بوسا نا كروبا  شمال غربي البوسنة سنة 1925

توفي في 19 أكتوبر 2003 .

وستبقى أعماله وذكره مخلدة في التاريخ ، رحمك الله يا علي عزت رحمة واسعة وأدخلك فسيح جناته

د أحمد الرازي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *