وجهة نظر

الجهوية المتقدمة: مدخل رئيسي للنموذج التنموي المرتقب

أحمد بلمختار منيرة

حتى لا نهدر الزمن ونحن نستعد لمرحلة ” ما بعد كورونا ” التي لم تنته تباعاتها الاقتصادية والاجتماعية بعد، ولن تنتهي في القريب المنظور. نعتقد أن ما نعيشه منذ بداية مرحلة الحجر الصحي المفروض بسبب هذه الجائحة وإلى يومنا هذا، يؤكد أن النموذج التنموي المرتقب لا بد وأن ينبني على مرتكزات قوية من أهمها: التضامن، والتوازن. وأن يتم تفعيل مبدأ التدبير الحر على مستوى الجهات خاصة وباقي الجماعات الترابية الأخرى.

والسؤال هو: كيف أن الجهوية المتقدمة، تشكل مدخلا رئيسيا للنموذج التنموي المرتقب؟، أو هكذا ينبغي أن يكون.

أولا: أن الجهوية المتقدمة، هي خيار استراتيجي بالنسبة لبلدنا، ولا رجعة فيه. ولنا أن نرجع إلى تاريخ الجهوية منذ بداية الاستقلال إلى الآن. وقد تم التنصيص عليها في دستور 2011.

وبالتالي، فالجهوية المتقدمة في أحد معانيها، هي مستوى متقدما من اللامركزية. وهي رهان حقيقي، وورش مفتوح منذ دسترتها، لتحقيق التنمية المستدامة جهويا ووطنيا. ومن بين مرتكزاتها ومبادئها القوية: التضامن، والتوازن، ومبدأ التدبير الحر. وهو ما يعني منطقيا ضرورة اعتمادها كمدخل رئيسي في بناء النموذج التنموي المرتقب.

هذا الكلام يحتاج إلى البرهنة عليه، لملامسة الإجابة على سؤال هذا الورقة المطروح أعلاه. ومن حق المواطن أن يعلم ويتعلم، وفوق كل ذي علم عليم.

بداية، شكلت مرحلة 1956- 1970 مرحلة التأسيس لإعادة بناء الدولة والمؤسسات المغربية. وتعد سنة 1971 البداية الفعلية للجهوية بالمغرب. وانتقل المغرب إلى مرحلة اللامركزية الجهوية بداية من 1997. واستنفدت هذه الأخيرة حدودها، واجتمعت مجموعة من المعطيات العالمية والإقليمية والوطنية التي فرضت التفكير في مستوى متقدم من الجهوية. وفي هذا الصدد، أوضح الخطاب الملكي المؤرخ في السادس من نونبر 2008، أنه لا يمكن لأي جهوية أن تقوم بالمغرب إلا في نطاق الوحدة. وأكد الخطاب الملكي للثالث من يناير 2010 على الالتزام بالتضامن باعتباره أحد المرتكزات القوية للجهوية المتقدمة.

ومما ينص عليه الفصل الأول من دستور المملكة المغربية الصادر في 29 يوليوز 2011 ” (…) التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة “. وهو ما يعني كما سبق الذكر أن الجهوية المتقدمة، اختيار استراتيجي.

التضامن:

إذا كانت المرحلة الأولى من الحجر الصحي بالمغرب قد أكدت، ومازال يتأكد، أن التضامن مرتكز أساسي في حياة المغرب بلدا وشعبا. وينبغي أن يكون الأمر كذلك في النموذج التنموي المرتقب. فإنه يشكل أحد المرتكزات الصلبة للجهوية المتقدمة. وقد أكد الخطاب الملكي للثالث من يناير 2010 على الالتزام بالتضامن لاعتباره أحد المرتكزات القوية للجهوية المتقدمة، موضحا أنه لا ينبغي اختزال هذه الأخيرة في مجرد توزيع للسلطات بين المركز والجهات. فالتنمية الجهوية لن تكون متكافئة وذات طابع وطني، إلا إذا قامت على تلازم استثمار كل جهة لمؤهلاتها على الوجه الأمثل، مع إيجاد آليات ناجعة للتضامن المجسد للتكامل بين المناطق في مغرب موحد.
كما أن القانون التنظيمي للجهات، يوضح أن التنظيم الجهوي للمغرب يرتكز على مبدأ التعاون والتضامن بين الجهات، وبينها وبين الجماعات

الترابية الأخرى، من أجل بلوغ أهدافها وخاصة إنجاز مشاريع مشتركة وفق الآليات المنصوص عليها القانون المنظم لشؤون الجهات (رقم111.14).

التوازن:

على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، يعني التوازن في منطوق الجهوية المتقدمة، القضاء على التناقضات الاقتصادية والاجتماعية داخل تراب كل جهة وبين الجهات. ويعني أيضا، إحداث التناسق بين هذه الجهات والتي لا ينبغي أن تسير بسرعتين، جهات محظوظة وجهات فقيرة. وهو ما عبر عنه ملك المغرب في خطابه المؤرخ في 30 يوليوز 2015 حيث قال:

” ورغم التطور الذي حققته بلادنا، فإن ما يحز في نفسي، تلك الأوضاع الصعبة التي يعيشها بعض المواطنين في المناطق البعيدة والمعزولة، خاصة بقمم الأطلس والريف، والمناطق الصحراوية والجافة والواحات، وبعض القرى في السهول والسواحل(…)”.

كما ذكر الخطاب ذاته، بضرورة التوازن والتكامل بين مناطق كل جهة وبين مدنها وقراها بما يساهم في الحد من الهجرة إلى المدن.

إن ما يتأكد منذ بداية الحجر الصحي وإلى اليوم، وهو حقيقة لا غبار عليها في بلدنا، هو انعدام التوازن بين الجهات. وهو ما لم تنجح كل النماذج السابقة في إيجاد حلول واقعية له.

التدبير الحر:

يكمن جوهر هذا المبدأ في تمتيع الجهات بصلاحيات تسمح لها بإدارة وتدبير أمورها الإدارية والمالية، بهامش أكبر من الاستقلالية والحرية. حيث لا تكون أمورها خاضعة للوصاية لنظام إداري مغلق. بل، تكون خاضعة للمراقبة الإدارية التي يحددها القانون بشكل واضح.

ويخول هذا المبدأ لكل جهة في حدود اختصاصاتها أمرين: سلطة التداول بكيفية ديمقراطية، وسلطة تنفيذ مداولاتها ومقرراتها. وعلاوة على التنصيص عليه في القانون التنظيمي للجهات، فقد تم التنصيص عليه (وكذا على التضامن والتعاون) في الدستور حيث مما جاء في الفصل 136 منه: ” (…) يرتكز التنظيم الجهوي والترابي على مبادئ التدبير الحر، وعلى التعاون والتضامن (…)”.

ويؤكد واقع الحال، أن هذا المبدأ مازال موضوع نقاش بين من يرى أنه مكن المجالس الجهوية من جزء من استقلاليتها ولو أنه ضيقا. ومن يرى أن أنه مازال حبرا على ورق.

نعتقد أن المثل القائل ” رب ضارة نافعة ” يصدق في حالة المغرب، حيث بالرغم من الأضرار التي مازالت مستمرة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية من جراء تبعات جائحة كورونا، فإن من منافع هذه المرحلة إعادة الكشف عن حقائق لا يمكن تجاوزها ونحن نريد بناء النموذج التنموي المرتقب على مرتكزات قوية. وهي باختصار شديد: التناقضات والتفاوتات الصارخة بين الجهات وبين المدن والقرى، وبين السهول والجبال. كما أبانت المرحلة الأولى من الحجر الصحي أن شرائح واسعة من المجتمع المغربي تعاني يوميا من قساوة العيش. وأن هناك فئات اجتماعية لا تتوفر على أي ضمانات صحية ومستقبلية (…).

من جهة ثانية، لا يمكن البتة تجاوز الجهود الكبرى التي تم بذلها منذ تنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية المتقدمة في يناير 2010، من أجل بناء نموذج جديد ينبني على المستوى الجهوي. وهو نموذج الجهوية المتقدمة. واليوم تشكل الجهوية المتقدمة مدخلا حقيقيا، لا يمكن القفز عليه، لبناء النموذج التنموي المرتقب. فالدول التي تطمح إلى التقدم، لا تهدر الأموال العامة، ولا تهدر الزمن الاقتصادي والاجتماعي.

ويرى مجموعة من الباحثين المغاربة أن التأثيرات التي فرضتها وتفرضها جائحة كورونا، تفترض خاصة في ظل التحولات العالمية والوطنية المعاصرة، إعادة التفكير في بناء نموذج تنموي جديد للدولة أقرب أكثر من الجماعات الترابية ( الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات) ومن أدوارها التنموية، دعاه البعض ” بالدولة الترابية ” (Etat territorial).

إن مشكلتنا الحقيقية لا توجد في النصوص القانونية، ولا في الدراسات الاقتصادية والسياسية. فنحن نمتلك زخما كبيرا في هذا الصدد. ولنا من الكفاءات الوطنية ما يكفي لتحقيق التقدم.

إنها في العقليات المدبرة. فإذا اقتضى الأمر سابقا، اعتماد مفهوم جديد للسلطة. فالأمر يقتضي اليوم، اعتماد مفهوم جديد لتدبير الشأن العام الجهوي أولا وقبل كل شيء. فلا تنمية مستدامة على المستوى الوطني، في غياب تنمية مستدامة على مستوى كل جهة على حدى. وتشكل ألمانيا نموذجا متقدما يمكن الاقتداء به.

وأخيرا، دعنا نؤكد مرة أخرى مع الخبير ” دراكار ” (P. Drucker) ما مضمونه: ليس هناك دول متخلفة وإنما هناك دول تسيء التدبير.

* إعلامي وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *