منتدى العمق

“التسكع على هامش الدين”

وددت لو أنني أجد مدخلا جاهزا لهذا الموضوع لأتسلل من خلاله خلسة، دون أن أثير ضجة، غير أن موضوع الدين أين ما سمع حسه يثير الكثير من الضجيج، وخاصة في مجتمعاتنا الذي يشكل الدين مرجعا لكل شئ، ومكونا مرجعيا كذلك للشخصية الأساسية لكل فرد، ومكونا للوعي الجمعي للمجتمع. فالمساس به ولو بالمساءلة والتحليل الخاضع للمناهج العلمية، يعتبر ضربا من ضروب الضرب في الدين والمساس به. فهذا الحديث يمكن إنكاره من طرف الكثير لأنهم يودون أن يسمعوا ما يحبون، فنفس تميل لما تهواه، وتلتصق بما استقرت عليه، فمن الصعب أن تستوعب غيره، حتى لو تبين أنه الحقيقة، وخاصة ما يوحي إليه العنوان، وأسوء ما يمكن أن يحدث هو البدء والنفس مسبقة بالعداء، غير أن هذا الأمر لا يمنعني من تسجيل ملاحظاتي حوله، ليس الدين في جوهره، ولكن الدين كما يأخذ شكله في المجتمع، أي الدين على شكل ممارسات وتطبيقات – أي التدين – مناقضة لأسسه المرجعية – أي الدين -. فهذا الأمر يجعلنا نطرح سؤالا أوليا حول التدين بالمغرب؛ هل هو تدين يقترب من جوهر الدين ومركزه أم تسكع على هامشه؟.

إن حديثي هنا عن مفهومي التسكع والهامش، جاء مقصودا لأنهما يعبرا بشكل واضح عن الموضوع الذي سأتناوله، على اعتبار أن مفهوم الهامش أي ضد المركز غالبا ما يرتبط بالتسكع، فهذا الأخير حسب معجم المعاني يحيل إلى التيه والضلال، والتشرد، والتلكؤ، فتسكع لغة أي تخبط وضل أو تمادى في الباطل، واصطلاحا حج التسكع وهو أن يذهب للحج بأي واسطة ولو مع عدم حصول الاستطاعة الشرعية. أما الهامش فيحيل غالبا إلى حاشية الكتاب أي ضد مركزه، ومحيط المجتمع بذل مركزه.

يقول الشاعر أوس بن حجر؛

أم مَنْ لأهلِ لويٍّ في مسكَّعة……………….. في أمرهِمْ خالَطوا حقاً بإبطالِ

إن هذا تحليل للممارسات التدينية اليومية، ومقاربته على المستوى الإجتماعي أي سوسيولوجيا، وبطريقة موضوعية غير نابعة من هوى، بحيث لا يمتد قلمي إلا حيث لا يمتد عقلي، أو أن أمد خيالي متجاوزا الحقيقة أو منقصا منها بالإهمال، فهذا تحليل نقدي للتدين كممارسة وتطبيق على أرض الواقع، وليس تحليل ونقد للدين والإيمان والعقيدة، وتحليل لتدين المسلمين لا تحليل للدين الإسلامي.

وكما هو معلوم، فإن مستويات التفكير بين الناس ليست متساوية، أي أن فهم الناس للتعاليم الدينية تخضع لنفس هذا المنطق، وهو قدرة العقل على استيعاب القيم والمعايير المتعارف عليها من طرف المجتمع، فيختلف الأفراد في فهم الدين، ولهذا فتطبيقه في حياتهم يختلف أيضا، ويرجع هذا الاختلاف إلى كون الدين رغم وحدته يتفرع إلى عناصر متعددة، ففيه الجانب الإعتقادي والعبادات والمعاملات والأخلاق، وكل شخص يأخذ من هذه الجوانب بقدر يختلف من شخص إلى آخر. كما أن الأفراد يتميز بعضهم عن بعض في التكوين النفسي وكذا نمط التفكير، ففيه الشعور واللاشعور، وما تحت الشعور، وفيه الهو والأنا، وفيه ذات الطفل، وذات اليافع وذات الوالد، وفيه الذات الواقعية والذات الحقيقية، وحتى بالمعنى الديني الإسلامي يوجد فيه النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة، والنفس المطمئنة.

ومنه فإن المتأمل في حياة المتدينين وخاصة المسلمين، وممارساتهم التدينية اليومية، سنجدهم مجرد متسكعين على هامش الدين، متشبثين فقط بشكليات الإسلام وهوامش الدين، هذه الإشكالية نجدها مرتبطة بثلاث تناقضات مركزية وهي؛ الأولى: ويتعلق الأمر بمسألة التنشئة الدينية حيث أن تعلم مبادئ الدين وركائزه الأساسية تتم عن طريق الأسرة، وليس مؤسسات تبث المحتوى الديني بمعناه الصحيح والقويم، هذا الأمر بدوره سليل للمشكلة واستمرارية لها كون الأسرة لها نفس المعرفة الدينية، ويختلط فيها الديني بالسحري، بالأسطوري، بالوثني. كما أن معضلة التنشئة الدينية السائدة عندنا كثيرا ما تعيق حق الفرد في النمو حين تقيده بقوالب جاهزة وتجهض نموه الخاص، من قبيل التركيز على القدوة الحسنة بدل تحقيق الذات أولا، والتركيز على رضى الوالدين بدل رضا الذات أولا، والثقة في السلف بدل الثقة في النفس أولا، والطاعة بدل الاحترام أولا، وما الى ذلك، الثاني: يتمثل في كون أنه توجد مفارقة بين ما يقوله المتدين والممارسة الواقعية حيث نجد شرخا كبيرا بين هذا وذاك، حيث أن المتدين يأخذ من الدين فقط ما يتماشى مع مصالحه اليومية. الثالث: يتمثل في أن بعض الرموز الدينية كفقهاء المساجد والقريبين من الدين، والذين يعتبرون قدوة للمتدين، يمارس هو نفسه ممارسات بعيدة كل البعد عن الدين.

وعليه فإن التعبيرات التي تؤكد وتوضح أن تدين المغاربة هو بمثابة تسكع على هامش الدين هي متعددة؛ فالصوم بدون صلاة يعتبر تسكعا على هامش الدين، على اعتبار أن الصلاة كركن أساسي من أركان الإسلام يسبق الصيام، الجهر بما ينبغي على المسلم المتدين القيام به دون ممارسة أبسط الشعائر الدينية يعتبر تسكعا على هامش الدين، شرب الخمر مع وجود تحريمه يعتبر تسكعا على هامش الدين، ممارسة الجنس خارج إطار الشرع والارتياد على المواخر والتفاخر به يعتبر تسكعا على هامش الدين…إلخ، فهذه كلها مؤشرات دالة على نوعية التدين الذي يسود من داخل المجتمع المغربي، حيث يتطلب دراسة هذه الممارسات التدينية اليومية إطلاع جد متجذر في الواقع، لإستنكاه هذا المعيش التديني والانتقال به من المعطى إلى المبنى ومن الاجتماعي إلى السوسيولوجي بطرق علمية تنهل من مناهج البحث والتقليد السوسيولوجي المتعارف عليه.

كما أن القيام بنضرة متفحصة للوضع الآن بالمغرب يجد أن المتدينين المغاربة مصابين بهوس التدين الظاهري والشكلي المتمثل في طريقة الملبس والمأكل وغيرهما دون أن يلامس هذا التدين جوهر حياة الناس، لأنه رغم حالة التدين التي نراها في المجتمع إلا أننا نجد أن نسب الجريمة والفساد والرشوة وحتى القتل والدعارة وغيرها من الجرائم التي يندى لها الجبين في ازدياد يوما بعد يوم.

فالكثيرون يؤدون فرائض الدين الإسلامي بإخلاص، لكنهم في حياتهم اليومية يتصرفون بطريقة أبعد ما تكون عن الدين؛ هم يصومون ويصلون ويتصدقون ويحجون ويحيّون الناس بتحية الإسلام ويلزمون زوجاتهم وبناتهم بالحجاب والنقاب.. وهم يعتقدون بعد ذلك أنهم قد أدوا واجبهم الديني كاملا غير منقوص.

في المقابل تنظر شرائح كثيرة في المجتمع البشري إلى كل شخص يتحلى بعلامات التدين – من “اللحية الشرعية” وهي في حجم قبضة اليد على الأقل، وملابس الصلحاء المتمثلة خاصة في قميص قصير وأمارات السجود في الجبهة، وما إلى ذلك – على أنه كائن يختلف عن بقية البشر ومعصوم من الخطأ وارتكاب الذنب؛ فالشيطان لن يجد إليه سبيلاً.

هذه الثقافة التي يتبنّاها المجتمع حول التدين ومقياسه الشكلي ومعياره الظاهر، ثقافةٌ متأصلة فيه وظلّت من أهم العوامل التي ساعدت أناساً على أن يتخذوا من تلك المقاييس وسائل لتمرير مخططاتهم المغرضة وغاياتهم الرخيصة.

تكمن خطورة هذا النوع من التدين في عدم حصول الشخص على سلامه النفسي، بل إنه يصبح رغمًا عنه يعيش بازدواجية، فهو مطالب بالظهور أمام الناس بصفته الدينية التي تعطيه هالة من الوقار يلاحظها في نظرات من حوله، فتشبع غروره، بل قد يتمادى ليحاكم الآخرين على تقصيرهم في أداء واجباتهم الدينية، ويُبوّئهم مكانة دونية.

خلاصة القول إن واقعية التديّن في مجتمعنا مصلوبة في ثالوث مركزي، الأول: التقليدية – بمعنى التقليد -، حيث يكون التدين عبارة عن طقوس، مثل أن يكون ثوبه قصيرا، ومن دون عقال، وذو لحية، وعنده مسواك، أمّا أخلاقياته وسلوكياته وعلاقاته مع ربه فالمفترض أن تُبنى على المسامحة وعلاقاته مع العباد على المشاحاة، والضلع الثاني هو التطرف والغلو، حيث نجد لدينا تكريس لغة أن تكون متديناً بمعنى أن تكون متشدداً، وكلما حرّمت أكثر أصبحت في المجتمع متديناً أكثر، والضلع الثالث هو الحزبية، وتعني الحزبية التنظيمية الحركية، وقد تكون حزبية قبلية، أو إقليمية، أو طائفية، أو مذهبية.

فالغالبية من المتدينين يتمثلون معتقداتهم الدينية بكيفيات مختلفة ومتعددة، حيث نجد تأكيدا على الانتماء للدين الإسلامي وإن كان هذا الانتماء في غالبيته لا يتقيد بأحكام الشريعة، فعدم المواضبة على طقوس دينية معينة كصلاة أو ربط علاقات صداقة حميمية مع الجنس الآخر خارج مؤسسة الزواج، ليس أمرا كافيا للخروج أو الاقصاء من حظيرة هذا الدين الذي يجسد من منظورهم الدين الحق والصحيح.

* طالب باحث في ماستر الهشاشة والسياسات الاجتماعية : كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز -فاس –

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *