وجهة نظر

على هامش فوضى سوق الماشية: هل نحن شعب “شفار”؟

اعتداء على الكسابة بالحي الحسني

سألني صديقي في رسالة عبر تطبيق الواتساب معلقا على الفيديو الذي تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي عما تعرض له سوق للماشية بنواحي الدار البيضاء من نهب وسرقة، تعيدنا إلى عهد الجاهلية، كما ورد في رسالة الصديق، “هل نحن شعب شفار” (أي لص). في الفيديو عنف، فتنة، رعب، تسابق من أجل إقامة شعيرة لا يزال الكل يؤكد أنها سنة. ولنا ان أن نعود إلى موقع السنة في ديننا الحنيف، التي هي عكس الاتجاه السائد الذي يجعلها في الغالب الأعم في درجة أعلى من مبادئ الدين السامية، وإلا فما معنى أن نختار الفتنة، وهي اشد من القتل حسب منطوق القرآن الكريم، لإقامة شعيرة تبقى، مهما علا شأنها، سنة.

الجواب عن تساؤل الصديق، لا يكون بنعم أو لا، لأنه حمال أوجه، كما أنه يستحضر محطات وإشارات مشابهة، القديم منها والحديث. كما أنه جواب يعمل على بسترة القضية والذهاب بها نحو النمطية، وهو سؤال يدفعنا في المقابل إلى تقليب الأمر من كل جوانبه، والتعاطي معه بحذر، لكن بعمق.

لم يجف مداد الدهشة والتنديد بحادث السوق، حتى وصلتنا أخبار من مدينة بن سليمان، حيث كانت عناصر ما بين الحياة والموت، في حالة من التهالك والخوف الذي قد يصل إلى الرعب المؤدي إلى الرهاب، قادمون من مناطق مختلفة، كان كل همهم هو التعافي من مرض لعين، وكان كل أملهم أن يعودوا إلى أهليهم سالمين، لكنهم في المقابل أصروا على تصحيح العبارة، وعادوا سالمين غانمين، بعد أن أتوا على الأخضر واليابس، فسرقوا ونهبوا ما وجدوه أمامهم في المستشفى، ولم تسلم من عبثهم حتى صنابير الماء.

هل من رابط بين الحالتين؟ طبعا هناك رابط قوي بينهما، يظهر بقوة عند استحضار الجانب الديني، فحادث سرقة أضحية العيد، مرتبطة بشعيرة دينية، مشبعة بقيم التضحية والتضامن والتقرب إلى الله، أما الحدث الثاني، فإنه يضع المرء مباشرة أمام لقاء خالقه، يستعرض أمامه شريط حياته، فرحا بما قدمت يداه من حسنات، أسفا عما بدر منه من أعمال قد تعكر عليه هذا اللقاء. فإذا بالطابع الدنيوي والقيم الباهتة تتغلب عما سواها وتحضر الأنا بجبروتها وتكبرها ورفضها الدين كقيم وأخلاق جاء بها النبي الكريم ليتمم مكارم الأخلاق وتفسد هذا الجو الروحاني.

للأسف الشديد، فإن حادث سوق الأغنام بالبيضاء، ومستشفى بن سليمان، لا يشكل حدثا استثنائيا، شاذا نطبق عليه قاعدة الشاذ يُحفظ ولا يقاس عليه. وبالتالي فلا يأتينا من يدعونا إلى تجنب التعميم، وعدم جعل ما وقع قاعدة نبني عليها ما يمكن من استنتاجات، معتبرين، كما هو الحال حينما تطفو على السطح سلوكات ومواقف لا تروق للبعض منا، أن تلك الوجوه التي ظهرت في سوق الأغنام، والتي لم تظهر من بين مرضى كوفيد 19 ببن سليمان، لا تمثلنا، ولا يمكن بأية حالة من الأحوال أن نجعلها عينة نسقط عليها أحكاما تلحق بالمغاربة. لكن لن نكون في المقابل أكثر من عبد الكريم الجويطي في الخوض في أعماق المغاربة في روايته “المغاربة”. حتى نخرج بخلاصات معمقة، ولا بعمق عالم الاجتماع بول باسكون الذي توصل بعد دراساته وأبحاثه الرائدة في مجال علم الاجتماع بالمغرب، إلى أن المجتمع المغربي مجتمع مركب يصعب ضبطه، بل سنشير إلى حوادث مماثلة، منها ما وثقتها مواقع التواصل الاجتماعي، ومنها السابقة التي لم توثق بما فيه الكفاية، لكنها تبقى قابلة للإدراك بحيث إنها قد تقع هنا أو هناك، عن اللهطة التي نصادفها في مدننا أو قرانا، المصحوبة بغياب تام لأي وازع ديني أو أخلاقي.

كالتسابق المحموم على نهب محتويات شاحنة انقلبت في الطريق العام محملة بالحليب، أو البرتقال، أو حتى الزيت والدقيق، بعضها تزامن مع شهر رمضان، شهر العبادة والطهر، شهر لم يمنع من حضر الواقعة من التسابق المحموم لنهب ما يمكن نهبه بشكل يندى له الجبين. وفي ارتباط بالدين، لا تغفل العين السرقات التي تستهدف الأحذية داخل بيوت الله، وهي ظاهرة لن تحول دونها نظرية المؤامرة للدكتور الفايد الذي أنكر وجودها وربط الكلام عنها بمحاولات لتشويه الإسلام.

حتى بعض الحوادث التي تعطي انطباعا بأن الأخلاق والنخوة هي محركها الأساسي، لم تخل من سرقة أو ما شابهها، كما هو الشأن في مثلي مراكش، وفاس، وفتيات مراكش المرتديات للباس غير محتشم حسب المتدخلين، هذه الحوادث كانت مسبوقة بسرقة، أو محاولة فاشلة للتحرش. وفي نفس الاتجاه، أدعو إلى القيام بجولة بسويقة شعبية من تلك المنتشرة بمدننا، ونركز على تصرفات المتبضعين، سنكتشف وقتها ما يدعو إلى العجب، سرقات بثقة من الجنسين، لأشخاص يظهر من هندامهم ومظهرهم الخارجي، أنهم يخترقون كل الطبقات، كما أدعو بالمقابل إلى زيارة للمساحات الكبرى للتسوق، وبالتحديد في المساحات المخصصة للأجهزة الإلكترو منزلية من قبيل الثلاجات والخلاطات الكهربائية وسنكتشف أن أغلب المعروض تعرضت عناصر أساسية منه للسرقة بحيث لا يمكن أن تُباع عقب ذلك، سرقات تكون مدفوعة إما بالرغبة في تعويض الأجزاء التالفة لدى الفاعلين، أو فقط كفرصة لاستعراض القدرة على مغافلة كاميرات المراقبة. ويمكن أن نسترسل في استعراض نماذج دون أن نعطي الموضوع حقه. وأعود إلى تساؤل ذلك الصديق عما إذا كنا شعبا “شفار”، هل أجيب بنعم، أم بلا؟

هذا ليس أوان الجواب، لكنه أوان تعميق الرؤية والبحث في معتقدات الشعب وأولوياته وأمثاله التي يجعلها نصب عينيه، لنشير إلى أن المثل الذي يقود المغاربة في تعاملاتهم، التجارية خاصة، هو: “الله يجعل الغفلة بين البايع والشاري” وهو ما يجعل من إتمام عملية تجارية، مهما صغر شأنها، شبيها بخوض حرب بكل ما فيها من استراتيجيات وخطط وتكتيكات توظف الشكل والمضمون لتسجيل نقط ضد الخصم، عملية انتبه إليها حتى السائح الأجنبي التي أصبحت بلاده توجهه إلى سبل التعامل مع هذا الواقع، ولنا أن نلقي نظرة على الأدلة التي تنشرها بعض الحكومات المصدرة للسياح الأجانب على مواقعها الرسمية المليئة بالنصائح والتوجيهات توضح بالملموس أنه لا ينبغي الثقة في أي كان، للتبضع والتجول والعودة إلى أرض الوطن سالما غانما.

ويبقى السؤال يفرض نفسه علي، هل نحن شعب “شفار”؟ ومرة أخرى أؤكد أنه لا يهم الجواب، بقدر ما يهم البحث عن وصفات تمكننا من إزالة ما علا وجوهنا من خدش وبثور تجعل صورتنا ليست بذلك الجمال التي نتمنى، وصفات تحقق أولا تصالحنا مع ذاتنا وتبعد عنا اللهطة والجشع وحصر الدين في طقوس فارغة بدون مضمون راقي رقي ديننا الحنيف الذي بفضله تحول عرب الجزيرة بعد الرسالة المحمدية من حال إلى حال، والوقت اليوم أكثر من مناسب لمراجعة الذات، وتقويم اعوجاجها، بجعل القيم تتفوق على الشكليات، ونبذ السلوك المعوج قولا وفعلا، واستحضار السلوك المدني، وأخلاق المواطنة وجعلها العمدة في الحكم على المرء. الوقت مناسب اليوم ونحن نبحث عن نموذج تنموي جديد بدل ذاك الذي أصبح غير قادر على تلبية حاجيات المواطنين، وإبداع نموذج تنموي جديد يعيد المغاربة إلى السكة الصحيحة، نموذج يضع أولويات بدل مخططات لا تعرف حتى إنجاز نصف أهدافها، فكثيرة هي المخططات الطموحة بأهدافها، الرائدة في افكارها، البكر في مجالاتها، ما أن أعطيت انطلاقتها حتى عرفت نكوصا عن أهدافها، وأصبحت شكلا بلا روح، بعيدة كل البعد عن خطاب تنزيلها. نحن الآن لسنا في حاجة إلى نموذج تنموي جديد يعوض نموذجا قديما فاشلا، نحن في حاجة إلى ثروة من نوع خاص، نحن في حاجة إلى ثورة ثقافية تحرك فينا العقل ونمط اشتغاله، وتضع سلما جديدا للأولويات، ثروة تجعلنا نضع السكة أولا ونتبعها بعد ذلك بالقاطرة، ثروة تبدأ بالعلم والثقافة وأخلاق المواطنة، ثروة نضع فيها حدودا بين المجال الخاص والفضاء العمومي، ولا نمر إلى السرعة الموالية حتى تظهر أولى ثمرات أولوية العلم والتعليم والبحث العلمي وملكة التحليل النقدي ووقف زحف الديماغوجية، وعلينا أن نفهم أن الصين التي تعامل الولايات المتحدة الأمريكية اليوم بالمثل، رافضة القبول بترك ترامب يسير العالم حسب هواه، كانت قد بدأت ببناء نفسها بالثورة الثقافية.

* إعلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *