وجهة نظر

مباراة الطب… الوجه الآخر لتفاوت الفرص

باعتمادها معدل “12” كعتبة لاجتياز مباراة كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان تكون وزارة التعليم قد أتاحت الفرصة لعدد إضافي من التلاميذ للمشاركة في مباراة هذه الكليات ذات الولوج المحدود. لكن هل إتاحة الفرصة يعني تكافأها؟ ولماذا قامت الوزارة بتخفيض عتبة اجتياز مباراة كليات الطب؟؟

الأكيد أن تكافأ الفرص أوسع بكثير من مجرد إتاحتها؛ فالإتاحة هي تسهيل الطريق للوصول إلى الشيء وهذا ما حققه قرار الوزارة. أما التكافؤ فهو تساوي القدرات على الاستفادة من الفرص المتاحة، وهذا يتناقض مع منطق المباراة الذي يبنى على مبدأ الاستحقاق القائم على التباري على مقاعد محدودة من خلال آليات التصنيف والانتقاء والإقصاء.

فهل فعلا التلاميذ الحاصلون على معدل “12” أو “13” قادرين على النجاح في مباراة الطب؟ علما أنهم في منافسة وتباري مع تلاميذ حاصلين على معدلات “17” أو “18” أو “19”؟؟ إذا كانوا قادرين على ذلك فهذا يضع معدلات البكالوريا وميزاتها رهن سؤال المصداقية والنجاعة. بمعنى ما الفرق بين ميزة “حسن جدا” وميزة “مستحسن” إذا كانت القدرات متساوية؟ وإذا كانوا غير قادرين فهذا يعني أنه ليس هناك تكافؤ للفرص، وأن تبرير قرار تخفيض عتبة اجتياز المباراة بتكافؤ الفرص تبرير غير متماسك وخطاب غامض يخفي ما لا يظهر.

ومما يزيد الأمر التباسا أمران هما:

أولاـ العدد الكبير جدا من المترشحين لاجتياز المباراة مقابل هزالة العدد المطلوب. نتحدث هنا عن انتقاء حوالي 56 ألف و600 مترشحا ومترشحة لاجتياز المباراة، والتي ستسفر على قبول حوالي 3000 مترشح فقط، ما نسبته 5.30%. مما يعني أن المنافسة شديدة ومؤشراتها المعيارية مشتتة. قد يكون تصحيح الأوراق آليا شجع على انتقاء هذا العدد المرتفع من المترشحين، لكن بعض الانسجام مع منطق المباراة وواقعيتها يبقى مطلوبا حتى لا نبيع وهماً.

ثانياـ غياب أو إخفاء المعلومة. حيث أن نتائج المباراة لم تصدر لوائحها للعلن كما كان معمولا به في السنوات الماضية، وتم الاكتفاء بإخبار كل مترشح بنتيجته الخاصة، مما جعل النتائج أقرب إلى السرية منها إلى الشفافية. يحدث هذا في الوقت الذي كنا ننتظر تفاصيل أكثر من مجرد نشر لوائح تفصيلية للناجحين، تفاصيل تطلعنا على نسبة التلاميذ أصحاب ميزة مستحسن الذين استطاعوا فعلا الاستفادة من هذه الفرصة التي أتيحت لهم، وتمكنوا من النجاح حتى نقيس مؤشر “التكافؤ”. فإذا كانت نسبتهم ضعيفة أو منعدمة فهذا سيعيدنا إلى النقاش الحقيقي والمجال الطبيعي لتحقيق “تكافؤ الفرص” والعدالة الاجتماعية في المنظومة التعليمية، والذي يمر أساسا عبر محاربة التفاوتات الأصلية في المؤسسات التعليمية قبل ولوج قاعة التباري. من حيث المساواة وتكافؤ العرض التربوي وما يرتبط به من شروط ومستلزمات التحصيل الدراسي والعلمي. أما وأن التفاوت حاصلا وطافحا على هذا المستوى بين الفئات والطبقات والمناطق فلا يليق أن نتحدث هنا عن التكافؤ، لأن الأمر عندها أشبه بدفع متسابقين إلى حلبة الجري السريع بقدرات بدنية متباينة جدا وإعدادات وتداريب وتغذية غير متكافئة، ثم توقع التكافؤ في السباق!!! بل وتحميل ذوي البنية الضعيفة مسؤولية الفشل لأنهم لم يتمكنوا من استغلال الفرصة التي أتيحت لهم !!! إنه نوع من قوننة (من القانون) الإقصاء ليس إلا.

إن اعتماد فكرة “الاستحقاق” تشكل مأزقا حقيقيا أمام أهداف الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم التي رفعت شعار “الإنصاف” وهو المفهوم الذي نحته جون راولز في كتابة “العدالة باعتبارها إنصافا” حيث يشير إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار الفروق أو الاختلافات بين الأفراد، وبناء مؤسسات اجتماعية تبدع في تغطية وتعويض النقص الذي يعتري بعض الفئات بسبب فروق طبيعية أو فروق ناتجة عن سوء تدبير العدالة داخل المجتمع. وهو ما جعل فكرة العدالة الاجتماعية عند راولز تطيح بمفهوم “الاستحقاق” لصالح فكرة “الإنصاف”. فالإنصاف يحتوي مبدأ تكافؤ الفرص ويتجاوزه. حيث أنه يفترض وفرة الفرص أولا، وعدم التمييز في الاستفادة منها ثانيا وهذه درجة التكافؤ. ثم تسهيل الوصول إليها للجميع ثالثا. ثم مراعاة اختلاف القدرات والفروق الفردية التي قد تمنع الفرد من الاستفادة من الفرص المتاحة.

أما “أمارتيا صن” فيعتبر في كتابه “فكرة العدالة”، أن تحقيق العدالة الاجتماعية لا يتم إلا عبر تمتيع كل فرد في المجتمع بالقدرات الأساسية لدخول السباقات والمنافسات على المناصب والمقاعد والوظائف والأدوار الاجتماعية، بما يسمح له باختيار الحياة والوظيفة التي يعتبرها قيمة.

فهل هناك مراعاة لقدرات المتبارين الأصلية في مباراة الطب؟ لا. إنها مباراة غير منصفة ولا تضمن تكافؤ الفرص، ببساطة لأن الإنصاف كان يفترض أن يتحقق قبل المباراة وليس خلالها.

لنعود للسؤال البداية؛ لماذا قامت الوزارة بتخفيض عتبة اجتياز مباراة الطب إذن؟؟

إذا كانت لديها فعلا رغبة في تحقيق الإنصاف وتكافؤ الفرص، فعليها التركيز أساسا على تحقيق ذلك خلال على طول المسار الدراسي لكل التلاميذ بمختلف طبقاتهم ومجالاتهم الجغرافية.

وإذا كان الأمر يتعلق بتقديم هدية لجامعات الطب الخصوصية فالأمر لا علاقة له بتكافؤ الفرص، بل هو التأسيس لاختلال الفرص وترسيخ تفاوتها. وعلى المسؤولين أن يكونوا واضحين بهذا الشأن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • سني زيد
    منذ 4 سنوات

    ان الفترة القصيره التي تم الإعلان فيها عن النتائج؛ لها دلالات؛ وخصوصا عدم التصحيح للأوراق التي ادلي بها من طرف التلاميذ؛ وكذا إحصاءعددالتلاميذ الذين يودون دراسه الطب لتقديمهم اكباش الفداا للقطاع الخصوصي. ولكن حساب الله عسير اذ افلاتوا من حساب الدنيا.