وجهة نظر

نظام التفاهة وليد الطغيان

إن كل ما جاوز الحدود قيل عنه (طغيان)، فعلى سبيل المثال يذكر ابن سلام وغيره أنه جاء في القرآن الكريم إما للتعبير عن: الضلال؛ العصيان؛ الإرتفاع والتكثر؛ الظلم. فيما التفاهة هي انعدام الطعم والخلو من الأهمية والعقم وعدم الجدوى والانحطاط. لدرجة التباس الهزل بالجد.

ويبدو أن كتاب الطاغية لصاحبه إمام عبد الفتاح إمام، طرح متقاطع مع ما رمى إليه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الإستعباد، وهو الأمر الذي ذهب نحوه فيما قبل محمد الغزالي في نبذه للاستبداد والطغيان، بل حاول عدة من الفلاسفة والمفكرين لفت الإنتباه إلى أن التخلف والأمية وقلة الوعي… مكونات أصيلة للتربة التي ينبت فيها الطاغية (أكان فردا أو جماعة)، فكل تلك الأطاريح إنما هي سيف موضوعي مسلط على فكرة (المستبد العادل)، إذ متى تعايش الضدان؟، والواقع أن الإبداع وليد المعاناة.

1- من أبرز أسباب الطغيان

أسباب الطغيان عديدة؛ إذ منها ما يرجع لمرض نفسي استحوذ على قلب الطاغية نفسه، فما من طاغية إلا وكان التكبر والعلو والغرور رفقة له، بما يؤدي لجنون العظمة، مهما بلغ من ذكاء، كذلك فإن غذاء الطغيان وشرابه، هو غفلة الناس عن حقوقهم وتعايشهم مع الظلم، أو قد لا تكون غفلة بل هي تنازل طوعي ناتج عن ترويض تراكمي، تحكمه الرغبة في الأمن، أو أنه تكريس للإنسان الحيوان، على حساب الإنسان الإنسان بواسطة تغذية آليات وقنوات التفاهة، التي تربى بين أحضانها اللاجدوى وانعدام الطعم.

2- شعوب تعشق الاستبداد والطغيان أم تم تدجينها؟

في الحقيقة، لطالما تساءلت عن مصدر ميلنا كشعوب (شرقية)، إن صح القول، كما نعتنا أرسطو، وصنفتنا خريطة التنمية كجنوب، للاستعباد؟ هل لأننا عبيد بطبعنا كما يقول المعلم الأول؟، هنا جاء قلم فلسفي، وما أقل هذه الأقلام، ليطلعنا عن السبب في مقدمة كتابه قائلا: (ولطول إلفنا “بالطاغية” لآلاف من السنين، لم نعد نجد حرجا ولا غضاضة في الحديث عن “إيجابياته”، وما فعله من أجلنا من جليل الأعمال…)، الواقع إن الكاتب كان موفقا في إبراز أن الطاغية مهما حقق من نتائج فإنه هدام للإنسان، فالتنمية اليوم لا تكون إلا من الإنسان وإليه، والكتاب الذي نشر في تسعينيات القرن الماضي ينبئ بواقعنا، حيث أنتج الطغيان إنسانا تافها غير مبدع خائف من الإختلاف، همه خدمة السيد، ونيل الرضى والعطف وإن بلسان يرصع الأوهام.

مهما يكن، فإن أرسطو وصف الواقع لكنه لم يحلل الأسباب فكان حكما مسبقا، كيف لا وهو الذي قسم السلط بما بدا له في مجتمعه: سلطة سياسية؛ سلطة أبوية؛ سلطة السيد على عبده.

ينبغي أن نشير إلى الاعتراض على قول أرسطو أعلاه، من خلال رصد عدة أمثلة التاريخ، أبرزها وقوف الحسن البصري في وجه الحجاج بن يوسف الثقفي ناصحا له متصديا لطغيانه، وابن تيمية في وجه ظلم ملك التتار غازان، وعلاء الدين الجمالي في مواجهة السلطان سليم الأول، بل إن دعوة الأنبياء كانت ضد الطغيان، فموسى عليه السلام واجه فرعون في الشرق، وقبله إبراهيم عليه السلام واجه نمرود في الشرق… لذلك فإن خوف الناس هو الذي يذهب بهم نحو القبول بالطغيان، فعلى سبيل المثال يذكر هوبس أن بلاد فارس كانت لهم عادة بعد موت الملك وهي: (خمسة أيام بلا ملك أو نظام ولا قانون) لتسيطر الفوضى، فيكون ولاء الناس للحاكم مطلقا يزكيه الخوف ولو كان طاغية، وغير بعيد فإن مثال مغربي قديم يتقاطع معه: (اللهم مخزن ظالم ولا قبيلة سايبة)، على ذلك فإن مبرر السلطة يجد موطنا له في هذه الحالة الشادة عن الشرعية.

ما نعيشه حقا، هو نتاج للخوف، الذي لم يكن ليتملك الناس إلا بما رأوه من الطغاة أنفسهم، أو بما أريد لهم أن يروه، حيث يظهر الانفلات عمدا لتمرير رسالة أن انعدام النظام دلالة على أن هذا الشعب أو ذاك غير راشد لا يحكم إلا بالسوط، والحاصل أن ما يقع نتيجة استراتيجية بعيدة الأمد، نتاج عقود من الزمن، وأي خوف هذا، إنه ليس الخوف من اقتراف جرم هو حقا جرم، بل خوف من الخروج عن الرأي السائد، خوف من الخوض في جوهر السلطة وقلبها، خوف من قصد الدفاع عن مظلوم مستهدف في حريته…

3- الانفلات من المساءلة سمة الطاغية

لقد برر القدامى السلطة، بواسطة فكرة علو إرادة الحاكم عن المحكومين للقدرة على إلزامهم، فالسلطة الإلهية أو التي فوضها الله بطريقة غير مباشرة مبرر للإلزام بالخضوع.

وإذا كان ابن رشد قد قال: (إذا أردت التحكم في عقول الجاهلين فغلف لهم كل باطل بغلاف ديني)، فإن رؤية الكواكبي تشربت من نفس الشرعة إذ يقول: (ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ لنفسه صفة قدسية يشارك بها الله)… قد تكون بادية في زمن الفراعنة وقبلها بابل في عهد النمرود وعهود كسروية بفارس بل في عصر الإسكندر الأكبر…، أي في عهد السلطة الثيوقراطية التي يدعي بموجبها الحاكم أنه إله أو ابن إله، وقد تبدو خلال الحاكم المدعي بأنه نتاج عناية إلهية، وقد تبرز في مدعي العصمة… لكنها في عصرنا تتوضح من خلال ما قاله إمام عبد الفتاح إمام: (قد تكون خافية مستترة_أي: الصفة القدسية_ وإن كان مضمونها ظاهرا في سلوكه، فهو على أقل تقدير “لا يسأل عما يفعل وهم يسألون”.)، وهذا ما يتنافى مع تلك المقولة الإنجليزية الأساس: (من يحكم يسأل).

إن القول بالنظرية الدينية، لوصف الحكم الثيوقراطي المطبوع بالاستبداد، كما يقول صاحب كتاب الطاغية، لفيه ظلم في حق الدين، فما من دين يدعوا للطغيان والتجبر، وإنما التفسير ولي عنق النصوص، لتبرير ذلك هو السبب، وإلا فإن الآيات الكريمة: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُم وَلَا تَطْغَوا فِيهِ فَيَحُلّ عَلَيْكُم غَضَبِي وَمَنْ يَحْلُل عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَد هَوَى)؛ (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ)؛ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)… نهت عن ذلك بصريح العبارة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم، فلا يستجاب لهم)؛ كذلك فقوله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة)؛ (أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر) يصب في نفس المنحى، لهذا فالأصل هو النصح بالحق.

4- الطغيان الجماعي كوجه من وجوه الاستبداد

في رأيي المتواضع جدا، لا يكون الطاغية في الأعلى فردا، فقد تكون جماعة تستأثر بادعاء صحة طرحها، فلا تقبل أي مختلف عنها (كمثال الجماعة الدينية؛ الايديولوجيا المستعلية؛ الحزب الوحيد…)، وهذه الطريق منتجة حتما لنفس النتائج، فلئن تفرقت الطرق فالنتيجة واحدة، وما دام الأمر باطلا فلا عجب في تعدد سبله، إننا ننتج بهكذا فعل أناسا يتسابقون نحو الطاعة المزيفة، والإيمان المغشوش، والتدين الفلكلوري…، الذي يؤسس على غير اقتناع، وإنما لغاية برغماتية، لذلك نعتقد شيئا وأفعالنا تناقض ما اعتقدناه، هكذا هي صنعة الطغيان أكان من حاكم أو مسؤول أو مجموعة معينة.

5- الجهل أصل الداء

لا يمكن أن يتولد نظام التفاهة إلا بتغذية الجهل، وإذا كان الطغيان ضد الحرية، فإن فيكتور هيجو يقول: (إن منح الحرية لجاهل كمنح مسدس لمجنون)، ولما كان نهر العقلانية واحد، فإن النتيجة نفسها كما قيل قديما: (تبدأ الحرية عندما ينتهي الجهل)…

لذلك فإن الطغيان والاستبداد منتج للتفاهة، عبر تشجيع الجهل، كيف لا ومن كان تافها فهو آمن، فبعد تدمير العقل الناقد وتنميط العالم (وهذا نقاش آخر هو استبداد نظام العولمة)، وتدمير القيم والأخلاق، لنصبح في زمن الأنانية، البعيد تماما عن مصطلح الفردانية، التي يعيش فيها مواطن يعي جيدا تلازم حقوقه بواجباته، وهذا عكس التفاهة، فلا يمكن للطاغية إلا أن يحكم في ظل التفاهة، لأن أمثال الحسن البصري وابن تيمية… بل وكثير من المحسوبين على الجناح العلماني لم يكونوا تافهين، بل تصدو للظلم بعلمهم، وإني لأعجب للعلم الذي لا ينفع في مجابهة الظلم، والعلم إنما هو مقارعة بالحجج لا بالأحكام المسبقة، وإلا فالعلم بدليله لا بقائله، ولئن قول علي رضي الله عنه أبلغ: (اعرفوا الرجال بالحق، ولا تعرفوا الحق بالرجال).

6- سبيل ضائع

الأصل إذا ما أردنا إصلاحا ليس في ادعاء جهل الآخرين كمبرر لسيادة الطغيان، بما يخول للبعض تخطي الإرادة الشعبية، وإنما الأصل أن نحارب هذا العدو، من داخل مقوماتنا الحضارية، التي تقبل تعدد الرأي، حيث المسألة دوما ما كان فيها أقوال واجتهادات، فأحزابنا التي لا يبدو أنها نفسها مقتنعة بما تقدمه، ولا بما تقوم به، إذ ليس المعيار بحجم المحاضرات بل المعيار بمن تقدمهم، والمعيار إنما بقبول من تدعي تنشئتهم لاختلاف الآخرين عنهم، لذلك فبداية الطريق هي تنمية روح النقد البناء المؤسس على الاحترام، وتقبل الاختلاف واستيعابه حتى يصير بإمكاننا التطلع لإنسان مبدع لا يخشى استبداد الجماعة بالرأي المخطئ، فلم تكن أوروبا لتتقدم لولا شدود (غاليلو)، وثورة لوثر الإصلاحية بين جدران الكنيسة… مع حفظ أنه لا قياس بين الفارق، وإذا كان الدين استغل في جانبنا الشرقي لتبرير السلطة فإنما باستيراد أدوات فارسية كسروية وأخرى رومانية.

الخلاصة أن رأي صاحب كتاب الطاغية، لا يختلف على أي رأي كيِّس، حيث الديمقراطية كتجربة إنسانية هي المخرج، وسلوك ما سلكته الأمم المتقدمة اليوم، المتخلفة بالأمس، على أن الديمقراطية تجربة إنسانية، وأقل الشرور ضررا، وإن كان لا بد منه، فهي ليست أفضل السبل ولكنها الأقل ضرر، فديمقراطية عرجاء خير من استبداد يدعي الإصلاح، لكن الحكم الديمقراطي هو من يستطيع التوفيق بين السلطة والحرية، على أن السلطة هي القدرة على الإلزام، فيما الحرية مناط التكليف وركن الأهلية الأصيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • غير معروف
    منذ 4 سنوات

    احسنت