وجهة نظر

لا يتعلمون ولا يعتبرون ولا يعتذرون

مواقع التواصل الاجتماعي “بيئة اجتماعية” يعطيها طابعها الافتراضي خصائص حيوية تسمح بتسارع نمو وانتشار ظواهر اجتماعية عديدة، وبانبثاق أخرى جديدة. ومن بين الظواهر المثيرة للفضول والاهتمام ظاهرة ترويج الأخبار الزائفة.

و في هذا المقال لن نخوض كثيرا فيما يتعلق بظاهرة الترويج الآلي لتلك الأخبار في حد ذاته، بقدر ما سنتوقف عند ظاهرة مفارقة تتعلق بالكيفية التي يتصرف بها كثيرون مع الخبر الزائف بعد ظهور ما يفنده.

يمكن من خلال رصد بسيط لما يجري على شبكات التواصل الاجتماعي ملاحظة وجود قطاع عريض من روادها، إن لم نقل غالبيتهم العظمى، تنشط في “التعليق على الأخبار”، وخاصة اعتمادها في بناء تحليلات والخروج باستنتاجات، بل واتخاذ مواقف. فتتحول تلك الأخبار إلى وقود نقاشات عريضة يتحول معها الخبر إلى قضية رأي عام. وهذا يلخص بعض الأدوار الحيوية التي أصبحت تلعبها مواقع التواصل الاجتماعي في صناعة الرأي العام، والتأثير في توجهات المواطنات والمواطنين.

والمشكلة في انتشار ظاهرة “الاشتغال بالتعليق على الأخبار” في مواقع التواصل الاجتماعي في ظل الضعف الشديد في ثقافة التمحيص، هي في كونها تُخضع لآلتها كل ما يقع بين يديها من أخبار دون تمييز الزائف منها عن الحقيقي. وكما هو معلوم بالضرورة في هذا المجال، فالأخبار الزائفة تحضر في مواقع التواصل الاجتماعي ست مرات أقوى من الأخبار الصحيحة، كما أكدت دراسات عدة في هذا المجال. ومعظم الناس ثقافة تمحيص الأخبار لديهم ضعيفة جدا أو منعدمة، كما أن “الادمان السلوكي” المتعلق بالنشر الدائم، وما يرتبط به من تنافس على السبق، ومن البحث عن الأخبار المثيرة، والسعي الحثيث إلى جلب أكبر قدر ممكن من المتابعين والمعجبين، … لا يدع فرصة للقيام بواجب التمحيص حتى عند من ليدهم حدا أدنى من الخبرة في ذلك، وحدا أدنى من الوازع الأخلاقي أو المهني في هذا الباب. وهو ما يجعل احتمال وقوع كثير من نشطاء “التعليق على الأخبار” في فخ الأخبار الزائفة احتمالا كبيرا جدا.

والظاهرة المفارقة في انتشار “التعليق على الأخبار” سوف نلخصها في ثلاثة أمور، نفترض أنها تقع بجهل وحسن نية:

الأمر الأول يتعلق بكون عدد كبير من “المشتغلين بالتعليق على الأخبار”، لا يتعلمون من أخطائهم في التعاطي مع الأخبار الزائفة بعد ظهور ما يفندها، فنراهم لا يقومون من “ورطة” في هذا الشأن إلا ليقعوا في أخرى جديدة وقد تكون أفظع. وغياب التعلم من الأخطاء مؤشر مقلق، ليس فقط على درجة وعي هؤلاء بخطورة الوضع الذي أصبحوا فيه، بل على ضعف حس النقد الذاتي لديهم، مما يحرمهم من فرص التطور والتعلم.

الأمر الثاني، وهو نتيجة للأول، يتعلق بكون هؤلاء لا يعتبرون من أخطائهم، فحتى حين يوجه إليهم النقد، كثيرا ما يلجؤون إلى الصمت، ليعودوا مرة أخرى إلى ما كانوا عليه. وهذا قد يؤشر على ضعف الحس بالمسؤولية لديهم. وهو خلق فكري أساسي في تحفيز عملية التعلم المشار إليها سابقا، وفي ترشيدها وتعزيزها، وفي استحضار العواقب الذي من شأنه تشكيل حس يقظ رافض للأخبار الزائفة.

الأمر الثالث، ويتعلق بكون كثيرين ممن نتحدث عنهم، لا يعتذرون عن أخطاء التعليق على الأخبار الزائفة حتى حين يبنون عليها أحكام قيمة قد تكون تهما ثقيلة ضد أشخاص أو مؤسسات. وغياب خلق الاعتذار أو ضعفه، رغم حصول الإضرار بالغير، أمر مقلق للغاية وينطوي على دلالات صعبة فيما يتعلق بجودة العلاقات الاجتماعية، وتعزيز احترام الحقوق، ونبذ الظلم.

“لا يتعلمون ولا يعتبرون ولا يعتذرون” توصيف صادم لواقع مر تتسع رقعته يوما بعد يوم في مواقع التواصل الاجتماعي، ويكفي تخيل كل واحدة من تلك الصفات، او تخيل اجتماع أكثر من واحدة منها في أي شخص، لندرك أننا أمام صناعة “روبوتات بشرية”، تنشط بشكل خطير وغير أخلاقي ويستعصي على المعالجة في نشر الأخبار الزائفة والإشاعات. إنها أعراض مرض اجتماعي جديد ينتشر كالجائحة في مواقع التواصل الاجتماعي، يؤجج نار انتشار الأخبار الزائفة، ويرفع من مخاطرها المدمرة لكل شيء، للعلاقات الاجتماعية، للسياسات العمومية، للخصوصية… هذا المرض بالضبط هو من أمراض مواقع التواصل الاجتماعي التي يستثمر فيها أعداء الأوطان بشكل مميز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *