وجهة نظر

“ولكن قست قلوبهم”، أو في أسباب انحطاط الحضارة المعاصرة

لا أجد وصفا جامعا مانعا للحضارة الغربية المعاصرة أحسن من وصف السوسيولوجي الفرنسي “آلان تورين” حين قال إنها: “متخمة بالوسائل والأدوات، ومعوّقة من المقاصد والغايات”، كيف لا وهي مفلسة في مجال الأخلاق والقيم، فمنظومتها الأخلاقية لا تقوم على أسس ثابتة ومطلقة، وبعيدة عن ربط العلم والثقافة بقضية الإيمان والوحي وهذا من لوازم تبني العلمانية الشاملة، كما أنها تجنح للعنف في تعاملها مع الشعوب الأخرى، فردية النظرة، مادية النزعة، أو كما قال د. طه عبد الرحمن “حضارة ناقصة عقلا، ظالمة قولا، متأزمة معرفة، ومتسلطة تقنية”.

ولذلك فهي، بحسب نظرية الفيلسوف الألماني “شبينغلر”، تعيش مرحلة احتضار، ذلك لأن الحضارة في نظره تمر بنفس المراحل التي يمر منها الكائن الحي، يقول “شبينغلر”: “إن الحضارة الغربية اليوم بدأت تواجه مشكلات متعددة في غاية الخطورة والتعقيد لعل أبرزها الإرهاب، والأزمة الاقتصادية، والمخدرات، والعنف، والتفكك القيمي والتشرذم في النسيج الاجتماعي، والفساد الأخلاقي، وجائحة التلوث البيئي”. وهذه العوامل والآفات دليل على بداية أفول شمس الحضارة الغربية، ودخولها في ظلام دامس.

ولما كان الله مغيبا، عن قصد وإرادة، في بنية الحضارة الغربية الحديثة وفي تشكيل هويتها ورؤيتها للوجود، كان كل شيئ مباحا لديها بشرط تحقق منفعتها الخاصة، ولو على حساب البشرية كلها، ولا شك أن من بين وسائل الهيمنة الغربية على شعوب العالم تنميطها وإخضاعها لبراديغم ثقافي وفكري واحد، بحيث يكون مرجعا لتحديد ماهية الإنسان المعاصر، الذي يجب تسويقه، والترويج له في كل الوسائل وعبر كل المؤسسات، وتصديره إلى كل المجتمعات، وبالتالي تحصل التبعية تلقائيا لهذا النموذج الإطار، ومحاولة استلهامه في تفاصيل الحياة والتمثلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، وهو ما أدى إلى نوع من الانسلاخ العام عن خصوصيات الثقافات الأخرى والسرديات التي تنتمي إليها تلك الشعوب بوصفها ثقافات وسرديات طوتها وقطعت معها الأسس النظرية والفلسفية للحداثة وما بعدها كما يروج دعاتها في بلداننا، بل إن تقليد نمط الثقافة والحضارة الغربية المعاصرة هو عينه جوهر الحداثة على الأقل في نظر الكثيرين من المروجين لها في الداخل الإسلامي، وهذا تناقض داخلي في طرحهم، لأن الحداثة تنافي التقليد، وتتماهى مع الإبداع أي الإتيان بشيء على غير مثال سابق، بينما دعاة الحداثة عندنا يقلدون تقافة الغرب ويعيدون طرحها في قالب لغوي عربي تحت مسمى الحداثة.. وهذا برادوكس صارخ كما ترى ..

حين نحاول قراءة المنتجات الثقافية والفكرية للحضارة الغربية المعاصرة على ضوء نصوص القرآن الكريم، سنلاحظ أنها هي نفسها عوامل سقوطها وانهيارها الحتمي، وأنها على شفى جرف هار، لأنها لم تتأسس على مبادئ التقوى والإيمان في نظرتها للوجود والمعرفة والأخلاق، التي تدفع في اتجاه تحقيق مراد الله من الوجود الإنساني أو الهدف الغائي من خلق الإنسان، وهذه هي أسس البقاء والديمومة الحضارية في نظر القرآن الكريم، بل قامت على أسس فانية، أسس مادية محضة تنزع إلى نزع القداسة عن العالم، وتأليه الإنسان الغربي، وتحقير ما دونه واستعباده. بل شرعنة الظلم والاعتداء عليه وعلى مقوماته الثقافية والحضارية وثرواته الطبيعية، عبر توظيف الآلة العسكرية والتطورات العلمية والتكنولوجية، والهيمنة الرأسمالية، لقد صدق الصحفي فيصل القاسم مقدم برنامج الاتجاه المعاكس في قناة الجزيرة حين قال مرة: “لماذا لم يستطع الغرب مواءمة التفوق التقني العظيم مع الارتقاء الأخلاقي؟ لماذا وصل أعلى مراحل التقدم التكنولوجي والصناعي والعلمي ثم انحط قيمياً وإنسانياً وحضارياً؟ أ لم تتوج القوى الدولية العظمى تقدمها التكنولوجي والعلمي والصناعي والاقتصادي الهائل بأفعال منحطة وساقطة لا تمت للإنسانية بصلة، كأن تضطهد مثلاً الأمم الضعيفة أو تستقوي بإنجازاتها الصناعية والعسكرية الرهيبة على غيرها بالغزو والاحتلال والاستعمار والإرهاب والتدمير والتخريب والاستغلال والنهب والسلب. بعبارة أخرى كلما ارتقت تلك القوى عسكرياً واقتصادياً وعلمياً انحطت أو هبطت أخلاقياً إلى الدرك الأسفل وغدت مجرد هياكل حديثة متطورة من الخارج ومتوحشة ومتغولة من الداخل”.

من بين الأمور التي أكدت لي على المستوى الشخصي هشاشة البنيان الحضاري الغربي ما نعيشه اليوم جراء جائحة كورونا وتداعياتها على جميع المستويات والأصعدة، وكيفية تعاملهم معها علميا واقتصاديا وسياسيا، كما كشفت أيضا عن حجم تأثيرها أو إن شئت فقل تغلغل ذلك البراديغم الغربي الآيل للسقوط في وعي الكثير من المنبهرين به من بني جلدتنا، وكيف ينظرون إليها بوصفها المرجع النهائي الذي سينقذ الإنسان من هذا الوباء بعيدا عن أي تدخل إلهي في التاريخ البشري، بل وصل ببعضهم الحال إلى إنكار وجود صلة بين ما يحدث في العالم وبين الإرادة الإلهية، وبالتالي يرى أن الغرب بقدراته العلمية والتكنولوجية وحده القادر على إنهاء هذه التراجيديا العالمية، دون الحاجة إلى الله، أو أي تفسير سببي يربط بين ماجريات الواقع الموضوعي والفعل الإلهي، هذا في الوقت الذي يرى فيه عجز تلك الحضارة عن السيطرة على الأوبئة والكوارث الطبيعية والإنسانية مع تقديمها لخسائر بشرية هائلة وهي التي تدعي تملكها لوسائل بقائها.

في القرآن الكريم آية عظيمة وكله كذلك، تتحدث عن السبب وراء نزول البأساء والضراء على البشرية، وكذلك عن أسباب رفعها متى تحققت شروط الرفع وانتفت موانعه، يقول الله تعالى في سورة الأنعام:

[وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ {42} فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{43} فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ {44} فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {45}].

من تأمل الآية يلاحظ أن إرسال الرسل بالوحي الإلهي يعقبه الأخذ بـ { البأساء } أي الفقر والضيق في العيش { وَالضَّرَّاءِ } وهي الأمراض والأسقام والآلام، حال كون المُرْسَل إليهم لم يصدقوا ويؤمنوا بما جاءت به الرسل رغم ظهور البراهين والحجج التي تثبت صدق رسل ورسالات الله أي بعد إقامة الحجة الرسالة عليهم، والغاية من هذا الأخذ أو الكوارث التي تضرب الاقتصاد وتهلك البشر هو التضرع { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أي: يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون. (انظر ابن كثير). ومن أحسن ما قين في معنى التضرع، قول الفِيْرُوْزَابَادِي في قاموسه: وقوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)، أَي: يَتذلَّلُون في دعائهم إِيّاه. والدُّعاء: تضرُّع؛ لأنّ فيه تذلُّل الرّاغبين. وقوله تعالى: (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)، أي: مُظهرينَ الضَّرَاعة، وهي: شِدَّة الفقر إلى الله تعالى. وحقيقته: الخشوع.

فالدعاء والتضرع والخشوع والتوبة عبادات عظيمة، قد تتغير أحوال الناس وتتبدل إلى الأسوء كلما ركنوا واطمأنوا إلى الدنيا ونسوا ما ذكروا به من قِبَل رُسُل الله، أو كلما طغت النزعة المادية على وعي الأمم، واكتفى الناس بالعمل للدنيا على حساب الآخرة، وسلكوا مسالك العقل المجرد وما نتج عنه على حساب الوحي الإلهي، فالنتيجة الملازمة لهذه المظاهر هي الأخذ بالبأساء والضراء لعل البشرية تتضرع وتعود إلى الله وتعترف له بالهيمنة المطلقة على الوجود وعلى تدبيره، وتصدق بفاعلية الوحي وأحقية اتباعه، ومن ثم يرجع التوازن إلى حياة الناس، وذلك بالعمل على تحقيق متطلبات الروح من جهة الإيمان بما جاءت به الرسل، ومتطلبات الجسد من جهة الالتزام بتطبيق شرائع الله في الحياة العامة والخاصة مع مراعاة الأخذ بالأسباب المادية التي قصد الشارع إليها.

الملفت هنا أن قسوة القلب تمنع الناس عن تحقيق الغاية من نزول البلاء وهي التضرع، {وَلَٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، بل إن قسوة القلب تغلق أعينهم عن ملاحظة وجوب استحضار الأبعاد الإيمانية في دوامة الصراع مع الإبتلاءات، وملازمة الأخذ بالأسباب المادية للتغلب عليها، مع تعلق القلب بمسبب الأسباب سبحانه وتعالى، والتخفف من الثقة الزائدة في قدرة الإنسان على التغلب وحده عليها، لأن هذا من تزيين الشيطان لأعمال الناس، وصرفهم عن الحقائق الإيمانية التي تعكس الصورة الحقيقية لحدوث تلك الظواهر.

قد يقول قائل، ماذا لو تضرع الناس وبقي البلاء؟، هنا يأتي الإمام القرطبي بلفتة جميلة تحدث فيها عن كوابح وموانع رفع البلاء، يقول رحمه الله: “وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا تَضَرَّعُوا تَضَرُّعَ مَنْ لَمْ يُخْلِصْ، أَوْ تَضَرَّعُوا حِينَ لَابَسَهُمُ الْعَذَابُ، وَالتَّضَرُّعُ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ غَيْرُ نَافِعٍ”.

أما في حال ارتباط الوعي بالأسباب المادية والعلمية فقط ووقوع الخلل في هذه الرؤية الإيمانية التي تجمع بين الأمرين، ستنتقل النتيجة إلى مستوى أكبر من مجرد الأخذ بالبأساء والضراء أو ظهور آفات الفقر والضيق والأمراض والأسقام والآلام، وهي طَيُّ صفحة تلك الحضارات واستئصال شأفتها، وتوقيف عدادها الزمني وقطع دابرها، واستبدالها بحضارة أخرى تعيد التوازن إلى عالم الإنسان عن طريق تتبع خطى الوحي الإلهي في تصور الوجود وقيام المعرفة وتأسيس الأخلاق {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم}. هذه سنة الله في الذين خلو من قبل، والذين سيأتون من بعد.. ولن تجد لسنة الله تبديلا. والحمد لله رب العالمين..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *