وجهة نظر

“دبلوماسية” الأرشيـف

إذا كان المشــرع الأرشيفي قد حصر مجـال تدخل “أرشيف المغرب” في نطاق “الأرشيف العامة” التي تكونها – في إطار مزاولة مهامها وأنشطتها – “الدولة” و”الجماعات المحلية” و”المؤسسات والمنشآت العامة” و “الهيئــات الخاصة المكلفة بإدارة مرفــق من المرافق العامة فيما يتعلق بالأرشيف الناتـج عن نشاط هذا المرفق”، وكذا “الأصول والفهـــارس التي يكونها الموثقــون والعدول وسجلات الحالة المدنيـة وسجلات مصلحة التسجيل” (المادة 3 من القانون 69.99 المتعلق بالأرشيف)، فقد منحها بالمقابـل، الأهليــة القانونيــة لتملك “الأرشيف الخاصة”، إثــراء وصيانـة للتــراث الأرشيفي الوطنــي، وذلك عبر عـدة تصرفات قانونيـة حصرتها المادة 24 في الشــراء أو الهبـــة أو الوصيــة أو الوديعــة القابلــة للاسترجـاع، وكلها تصرفات تعاقدية تتم باسم الدولــة ولحسابهــا.

ونرى أن الآليات القانونيــة بمفردها، لا تكفي لوضع اليــد على بعض الأرشيفات الخاصة التي من شأنها إثـــراء التراث الأرشيفي الوطني، سواء تعلق الأمر بالشراء أو بالهبــة أو الوصيـة أو الوديعة القابلة للاسترجاع، اعتبارا للارتباطات المباشرة بين هذه التصرفات القانونيـــة وشروط موضوعية أخــرى، مرتبطة بالأساس بمــدى حضور ثقافة الأرشيف ومدى ترسخ الوعي بأهميــة الأرشيفات في صون الذاكرة الجماعية وحفظ التاريخ الوطني ورعاية الهويــة المشتركة، ومدى توفر الثقـــة في المؤسسة الحاضنة للتراث الأرشيفي الوطني، وكلها مطبات يمكن تخطيها أو تجاوزها إذا ما تملكت “أرشيف المغرب” القــدرة على التواصل والتأثيــر والإقناع والجذب، في إطار ما يمكن توصيفه ب”دبلوماسية الأرشيف” التي بدونها، يتعذر أو يصعب الوصول إلى عدد من الأرشيفات الخاصة بعدد من رموز الفكر والسياسة والآداب والعلوم والفنون، ســواء الذين قضوا أو الذين لازالوا على قيد الحيـــاة.

كباحثين ومهتميــن بالشأن الأرشيفي، نــرى أن مؤسسة “أرشيــف المغرب” رغم عمرها الفتي الذي لم يتجاوز بعد عقده الأول، نجحت إلى حد ما، في وضع اليد على عدد من الأرشيفات الخاصة التي تم تسلمها بشكل مباشر من أصحابها عبر إبرام عقود هبة، أو عبر ذوي الحقـــوق من أرامل وأبناء، ويكفي الإشارة على سبيل المثال لا الحصر، إلى تسلم المؤسســة لأرصدة عدد من رجالات الفكر والسياسة والثقافة والإعلام من قبيل “شمعون ليفي”، “محمد العربي المساري”، “عبدالصمد الكنفاوي”، “عفيف بناني”، “محمد جسوس”، “محمد المقري”، “محمد بن الحسن الحجوي”، “عبدالله عــواد”، “عبدالحق المريني”، “عبدالله شقــرون”، “مولاي أحمد الوكيلي” … إلخ، وهي أرصدة أرشيفيــة تم نشر مضامينهـا – قبل أسابيــع – إلى جانب أرصدة أخرى، في إطار خطـة عمل، ترمي من خلالهـا المؤسســة الأرشيفية إلى تقريــب مضاميــن أرصدتهــا الوثائقيـة من الباحثيــن والمهتمين وعـموم المرتفقيــن، تكريســا لأرشيف القرب وتيسيــرا لسبل البحـث العلمي، وقد تجســدت آخر الإنجازات المحققة في هذا المجال، احتضان على التوالــي لكل من رصيـد :

– المهنــدس المعماري الكبير “باتريــس دومازييـر” الذي ائتمــن “أرشيف المغرب” على جــزء مهم من أرشيفـه الخــاص (قبل وفاته بتاريخ 9 يونيو 2020) بموجـب اتفاقيــة هبــة موقعــة بتاريــخ 21 فبرايـر 2020.

– المهنــدس المعماري الكبيـر الراحل “عبدالرحيم السجلماســي” (المتوفى بالدار البيضاء سنـة 2013)، بموجب اتفاقيــة هبــة بيــن مديـر أرشـيف المغرب، السيـد جامع بيضــا، والسيــدة سلمـى الزرهـوني (حــرم الفقيـد) وقعــت بالرباط يــوم 17 شتنبـر الجاري.

مكاسب أرشيفية من ضمن أخــرى، لم تكن لتتحــقق على أرض الواقع لولا حضور ملامح “دبلوماسيــة أرشيفية” واضحـة المعالم، عاكسـة لمجهودات تبـذل في صمت من قبل “أرشيـف المغرب” ومديرها الأستاذ “جامـع بيضـا”، يتقاطع فيهـا التواصل الفعال والبحث والتحري وفن الإقناع وقــوة التأثيـر والجــذب، وفي هـذا الصدد، واعتبــارا لمحدودية ثقافــة الأرشيف وعدم تشكـل ما يكفــي من الوعي الفــردي والجماعي بأهميــة حفظ التــراث الأرشيفي كإرث مشتــرك، بالنظر إلى فتــوة التجربـة الأرشيفيــة الوطنيـة، يبقــى الرهان على “الدبلوماسية الأرشيفيـة” كخيــار لا محيد عنه لمــد جسـور اللقاء والتواصل مع رجالات الفكر والسياسة والثقافة والعلوم والفنـــون أو مع ذوي الحقــوق (أرامل، أبنـاء ..) لتقريبهم ليس فقط، من الأدوار الاستراتيجية المنوطة بمؤسسة أرشيف المغرب في حفظ التراث الأرشيفي الوطنــي وتثمينـه، بل وتحفيزهـم وإقناعهـم بائتمـانها علــى ما يذخرونــه من أرشيفات خاصـة، بقصـد حفظهـا ومعالجتهـا والتمكيـن من الاطـلاع عليها، من باب الإسهــام الفردي والجماعـي في دعم هـذه المؤسسة الوطنيــة الاستراتيجيــة، وتيسيـر سبل مهامها وأدوارها المتعــددة الزوايـا.

وإذا كانت “أرشيـف المغرب” تتحمـل وزر تفعيـل مقتضيات المـادة 24 المشار إليها سلفـا، فيما يتعلــق باحتضان الأرشيـف الخاصة وفق التصرفات القانونية المتاحة (شراء، هبــة، وصيـة، وديعـة قابلـة للاسترجـاع)، فهي مطالبــة بالتعويـل على ما تتيحـه “دبلوماسيـة الأرشيـف” من أدوات وفـرص تواصليـة، لاعتبــارين اثنيــن :

– أولهما: أن ما تم احتضانــه منـذ تأسيــس المؤسسة سنـة 2011 من أرشيفات خاصـة، يبقــى متواضعـا قيــاسا لحجم الأرشيفات التــي لازالت في أحضــان أصحابها أو ذوي الحقــوق، خــارج دائــرة الاهتمـام الرسمي والمجتمعي رغـم ما تكتسيــه من منفعـة عامة.

– ثانيها: يرتبط برحيـل عدد من الشخصيات البــارزة في مجال السياسة والفكـر والثقافة والإعلام والفن والإبــداع، لا منــاص من توجيــه البوصلــة نحو ما يكونوا قـد خلفــوه من أرشيفــات مهمـة، من أمثــال “محمد بوستـة” (أحد رجالات الحركة الوطنية، رجل دولة)، “محمد عابد الجابري”(مفكر)، “المهدي المنجرة”(مفكر، أحد رواد علم الدراسات المستقبليــة)، “ميلـودي حمدوشي” (أمني بارز، كاتب ورائد الرواية البوليسيـة)، “الطيب الصديقي” (قامة من قامات المسرح المغربي)، “مصطفى العلـوي” (قيــدوم الصحافيين المغاربة)، “عبدالرحمان اليوسفي” (أحد رجالات المقاومة، رجل دولة بارز)، “محمد أديب الســلاوي” (كاتب وإعلامي)، “ابراهيم أبو بكر حركات” (أكاديمي، أحد أعمـدة المدرسـة التاريخيـة المغربيـة)، “محمـد وقيــدي” (كاتب، أحد أعمـدة الفكر الفلسفـي)، “عبدالرحمان المـــودن” (مؤرخ)، “ثريا جبــران” (رائدة من رواد المسرح والسينما والتليفزيون..) و”حسن وأنور الجنــدي” ( من رواد المسرح والسينما والتليفزيون)… إلخ.

لكن في ذات الآن، نعتقد أن “دبلوماسية الأرشيف” مهما بلغت من الفاعليـة والنجاعة، فلــن تحقق الأهـداف والطموحات المرجـوة، ما لم تحضر مفــردات الاستعداد والقابلية والجاهزية والمبـادرة، ســواء من جانب المفكرين والمبدعين أنفسهــم، أو من جهـة ذوي الحقـــوق، ومن واجبات المواطنة ومن باب المسؤوليات الفرديــة والجماعية في حفظ وصيانــة التراث الأرشيفــي الوطني كإرث مشتـرك، بات من الضــروري على هؤلاء، الانفتـاح على مؤسسـة “أرشيف المغرب” وخلـق جسـور تواصلية معها، من باب طلب المشــورة أو الخبـرة أو لائتمانهـا على ما يوجـد تحت عهدتهـم من أرشيفـات خاصة، أما الانغــلاق على الذات، وانتظــار أن تأتي المبــادرة من جانب “أرشيف المغرب”، فهـذا من شأنه أن يعــرض هذه الأرشيفات إما إلى الإهمـال أو التلف أو الضيــاع لسبب أو لآخـر، خاصــة وأن المؤسسـة الأرشيفيـة يصعب عليها استهـداف كل الأرشيفات الخاصة بعدد من رمـوز الفكر والسياسة والثقافة والإبـداع، ســـواء الذين قضوا منهم أو الذين لا زالـوا على قيــد الحياة، في ظـل الإكراهات الماديـة والبشريــة، وما يعتــري هذه التدخـلات من صعوبات موضوعيــة مرتبطـة بالأسـاس بمـدى ثقـة الطرف الآخر (مفكرون، سياسيون، مبدعون، ذووا الحقوق) في أرشيف المغرب، ومدى وعيه بأهميـة استئمان المؤسسـة على أرشيفـه الخاص، وهي مناسبة، للتنويــه بكل المفكرين والسياسيين والإعلاميين والمبدعين المغاربـة منهم والأجانب، الذيــن وهبوا بشكل مباشـر أو عبر ذوي الحقــوق، ما يذخرونـه من أرشيفات خاصة لأرشيف المغرب، معبرين بذلك عن ثقتهم في هذه المؤسسـة الوطنية ذات الطابــع الاستراتيجي وعن دعمهم لها ولاستراتيجياتهـا الأرشيفية، وبــدون وعيهم وثقتهـم وبــدون أريحيـة وحسن استعـداد ذوي الحقـوق، ما كان للمؤسسـة الأرشيفية أن تحتضن أرشيفاتهم الخاصة التي عززت الإرث الأرشيفي الوطني، ومقابل ذلك، نديــن بعض المفكريـن والمبدعيـن المغاربة الذين تنكــروا للمغرب وأعطوا الظهر لأرشيف المغرب، وفضلـوا وهب ما يملكونه من أرشيفات إلى مؤسسـات أرشيفيـة أجنبيـة.

وفي هذا الإطـار، وبقـدر ما نقـر أن الأرشيفات الخاصة هي ملك لأصحابها ويحق لهم التصــرف فيها كما يشـاؤون، فإن “هرولة” مفكرين مغاربة نحو بعــض المؤسسات الأرشيفيـة الأجنبيــة واستئمانها على الأرشيفات الخاصة بهم، بـدل المؤسسـة الأرشيفيـة الوطنية، هـو تصــرف غير مقبول إطلاقا، من باب المواطنـة، التي تقتضي ليس فقط، الثقة في المؤسسات الوطنية ودعمها وتشجيعها والحرص على إشعاعهـا الوطني والإقليمي والدولي، بل والإسهــام في خدمة كل قضايا الوطن والانخراط الإيجابي فيما يعــرفه من ديناميــة تنمويـة متعـددة الزوايـا، ومن الصعب تفهــم ثقـة مفكرين أجانب في أرشيف المغرب وائتمانها على أرشيفاتهـم الخاصة، في وقت هــرول فيه بعض المبدعين المغاربـة نحو مؤسسات أرشيفية أجنبيــة.

إذا ربطنا احتضان “أرشيـف المغرب” للأرشيفات الخاصة، بمــدى حضـور ما وصفنـاه بدبلوماسيـة الأرشيف، فنــرى أن ذات الدبلوماسية، يمكن الرهــان عليهـا لوضــع اليد على الأرشيف الوطني المغترب بالخــارج في عدة دول على رأسها فرنسـا وإسبانيـا، كمـا يمكن الرهــان عليها لدعم “الدبلوماسيـة الموازيـة” تعزيـزا للعلاقات المغربية الثنائية والمتعـددة الأطراف، وخدمـة للقضايـا الوطنيـة وعلى رأسها قضيـة الوحـدة الترابيــة، وفي هذا الإطار، ومواكبــة وتعزيزا للعلاقات بين المغرب وعمقـه الإفريقي، يمكــن استثمار “دبلوماسية الأرشيف” لدعم المؤسسات الأرشيفيــة في إفريقيا وتجويد خدماتها وتعزيــز قدراتها، ونــرى أن “أرشيف المغرب” ورغـم عمرها الفتــي، راكمت ما يكفــي من الخبرات والتجـــارب، التي يمكـن تسخيرها واستثمـارها لخدمـة إفريقيــا وأرشيفهـا، فكمـا استطاع المغرب الجواز المتبصـر إلى البلدان الإفريقيــة عبر لغــة المال والأعمال والتنميـة في إطار مبدأ “رابح رابح”، فيمكن أن يكــون “الأرشيـف” آليـة أخرى لمد جسـور التعاون والتضامن والتآخي بين المغرب وإفريقيـا، وهـذا لن يتأتى إلا عبـر “دبلوماسية أرشيفيـة” ناجعـة وفاعلــة ومتبصــرة واستراتيجيــة، ونختـم، بدعـــوة مفكرينا ومبدعينـا في الداخل كما في الخـارج أن يلتفتــوا إلى ما راكمــوه من أرشيفـات خاصة خلال مسـارهم الفكري والسياسي والثقافي والإبــداعي، وألا يتــرددوا في التحـول إلى واهبيــن للأرشيــف، اقتـــداء بكل رمــوز الفكر والسياسـة والآداب والعلوم والفنــون المغاربــة منهم والأجانــب، الذيـــن وضعـوا ثقتهــم في مؤسســة “أرشيــف المغــرب” منـذ تأسيسهـا، وائتمنــوهـا على ما راكمــوه من أرصــدة وثائقيـة خاصـة، وهــم بذلك، يسهــمـون فـي بنـــاء صـرح التاريخ الوطني والهويــة المشتركــة والذاكــرة الجماعيــــة.

– كاتب، باحث في قضايا الأرشيف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *