وجهة نظر

الزاوية الكتانية والمخزن من التوافق الى الصراع

هشام الجعادي

دراسة للباحث بسلك الدكتوراه هشام الجعادي/ جامعة عبد المالك السعدي-كلية الآداب بتطوان

ملخص الدراسة: عاش المغرب قبل فرض معاهدة الحماية الفرنسية ، على وقع عدد من الأحداث التي كان لها تأثير على كبير على الأوضاع السياسة للبلد، ولعل أبرزها ما عرف “بالبيعة الحفيظية” التي تعد كتتويج لتردي الأوضاع بالمغرب. على أن هذه الظروف ستكون عاملا على بروز فاعلين جدد/قدامى في المشهد السياسي لهم مواقفهم وقراءتهم الخاصة للأوضاع، وتمثل الزاوية الكتانية أبرز هؤلاء، على أن مواقفها عرفت تجاذبات وتقاطعات اختلفت حسب الشروط والظرفية، سواء في علاقتها بالسلطان عبد العزيز أو حتى مع السلطان عبد الحفيظ خلفه.

الكلمات المفتاح: الزاوية الكتانية – البيعة الحفيظية – السلطان عبد الحفيظ – السلطان عبد العزيز.

Abstract:
Morocco has gone through a number of events that had a significant impact on the country’s political conditions before the imposed French Protectorate Treaty, the most prominent of which is the so called “Hafidi Pledge” which is considered to be the culmination of the deteriorating conditions in Morocco. These conditions will constitute a factor in the emergence of new/old actors in the political scene; with their own readings and standpoints on the conditions. The ‘Kettani Zaouia’ is the most prominent of these, however its standpoints have been characterized by tensions and overlaps that differed according to the conditions and the circumstance; both in relation to Sultan Abdulaziz and even to Sultan Abd al-Hafid afterwards.
Key words: Kettani Zaouia – the Hafidi Pledge – Sultan Abd al-Hafid – Sultan Abdulaziz

على سبيل التقديم:

يمكننا القول في البداية إن الأدبيات التاريخية لا توافينا بتعريف واضح ودقيق للزاوية، إلا أنه بإمكاننا الوقوف على بعض المصطلحات التي ارتبطت بها كالرباط والولاية والكرامة، التي تندرج ضمن حقلين في دلالة المقدس: فبعضها يشير على المجال كالزاوية والرباط ، وبعضها يشير الى التعبد والعبادة . ومهما يكن فإن بروز طموح مؤسسات الزوايا السياسي بشكل كبير كان إبان الغزو الإيبيري للثغور المغربية بعد أن عجزت السلطات الحاكمة آنذاك على مواجهته، ما منح فرصة ذهبية لشيوخها للإعلاء كلمة “الاسلام ومواجهة الكفار الغازين”. في ظل غياب سلطة مركزية قوية تقوم بذلك، من هذا توجه شيوخ الزوايا إلى دعم الأشراف السعديين وإيصالهم الى الحكم.

ورغم أن نفوذ الزوايا اتسع بين مكونات المجتمع بسبب الأدوار الجهادية التي قامت بها، فإنها لم تكد تفصل العمل الديني عن العمل السياسي، ولم تكن على امتداد تاريخها موحدة في مواقفها. فمنها من هادنت السلطة الحاكمة ومنها من عارضته ودخلت معه في صراعات مباشرة، ومنها من جمعت بين المهادنة والصراع على أرضية مطالب معينة، مثل الزاوية الكتانية التي سنتناولها في هذا المقام، فهي توافقت مع المخزن العلوي في بدايتها الأولى وعارضته في ما بعد . فما هي الظروف والعوامل التي ساهمت في بلورة مواقفها إذن ؟.

أولا: ظروف تأسيس الزاوية الكتانية وموقف المخزن منها:

تؤكد المصادر الكتانية على أن بروز طريقتها جاء في سياق تاريخي حرج، مطبوع بنضج الأطماع الاستعمارية بالبلاد ناهيك عن “انحلال أخلاق المغاربة” وابتعادهم عن قيم الدين الاسلامي. كما يوضح ذلك محمد بن عبد الكبير الكتاني لعلماء عصره بقوله : » قد علمتم أن شمس الدين اليوم كورت ،ونجومه انكدرت ،وجباله سيرت ،وعشاره عطلت ،ونفوس العالم زوجت ،كل انتظم إلى هواه ،وصحف الضمائر والأسرار نشرت، وسماء المعالي واقتنائها والمعاني واكتسابها وادخارها كشطت، والجحيم سعرت، جحيم الجهل بالله تعالى وبرسوله الكريم ،وجحيم العوائد الردية ،والأعراف المخالفة للسنة الطاهرة الغراء البلجاء التي لا يزيغ عنها هالك، سعرت وأضرمت وشبت نيرانها وتوهجت، وأقامت في كل ربع حي … « .

ومن هذا المنطلق تكون الزاوية الكتانية في نشأتها قد راهنت على عاملين أساسيين، ارتبط أولهما بإصلاح المجتمع المغربي وربطه بالدين الإسلامي. وثانيهما بمواجهة التدخل الأوربي.من خلال التصدي للضعف الذي كان ينخر دولة السلطان عبد العزيز.

ولم يكن المخزن العزيزي في هذه المرحلة يرى فيها أي خطر عليه، بل إنه كان يعتبرها حرما يجار من لاذ به كما أنه كان يقبل كل مقترحاتها باعتبار قيامها أحيانا بدور الوساطة بين السلطان وبعض القبائل .كما يستشف ذلك من خلال رسالة جوابية صادرة عن محمد المفضل غريط لمحمد بن عبد الكبير الكتاني .بقول – محمد المفضل – فيها » في شأن المحترمين من زاويتكم المباركة من قبيلة غجدامة طالبين ولاية القايد عياد المنبهي عليهم وأنهينا ذلك لسيدنا أعزه الله فساعد على توليته عليهم ونفذ أمره الشريف «.

عموما فقد شكل تركيز الزاوية الكتانية في بدايتها على الجانب الدعوي الأداة الرئيسية لنشر تعاليمها بين عامة المغاربة، بل حتى في صفوف المخزن الذي لم يكن يرى فيها أي تهديد لسلطته السياسية، رغم الحذر الذي كان يبديه في علاقته معها منذ البداية. فمثلا رفض السلطان تفويت مسجد مهمل بطنجة وعلى أهبة السقوط خوفا من تمليكه من طرف الطائفة الكتانية، وهو رفض يمكن تفسيره بخوف المخزن من إمكانية توغلها داخل الأوساط المجتمع المغربي، رغم ما قدمه السلطان من تبرير في إحدى رسائله الى محمد العربي الطريس، يقول السلطان: » وصل كتابك لما تطلبه الطائفة الكتانية بطنجة من الإقرار على الجمع بزاوية تقية لإهمالها وإشرافها على السقوط وتنفيذ ذلك لهم بظهيرنا الشريف وصار بالبال وقد أمرنا بالبحث في الزاوية المذكورة فتبين أنها مسجد حومته تقام فيه الصلاة من جملة المساجد وتنفيذه لخاصة الطائفة المذكورة يؤدي الى تمليكه لهم وتحجيره عن عامة الناس واخراجه عن وصف المسجد وعليه فالطائفة المذكورة والصلاة في المسجد المذكور كغيرهم من المسلمين دون تخصيصهم به ولا استيلاهم اياه بإنزال ضيوفهم به وما يضر بالمسجد وأهل حومته « انتهى.

وبشكل عام فإن الطريقة الكتانية قد حظيت بوقار المخزن في بدايتها الأولى، وهو وقار في نظرنا لا يفسر بموقع علمائها الديني كما روج حينها، بل إن حاجة السلطة المخزنية بها هي التي حددت بشكل أساسي طبيعة تلك العلاقة. خاصة وأن الظرفية تطلبت استمالة علماء من طينة محمد بن عبد الكبير الكتاني لمواجهة كل الصعاب المحدقة بالمخزن العزيزي حينها وبشكل خاص تمرد الجيلالي الزرهوني.

هكذا انتظمت الطريقة الكتانية تحت لواء المواجهة التي خاضها المولى عبد العزيز ضد “بوحمارة”، بل إنها شاركت في مناصرته عسكريا عن طريق تأطير الأتباع وحثهم على المشاركة بأمر من السلطان طبعا. ويتضح ذلك جليا من خلال بعض الرسائل الموجهة الى شيخ الزاوية من وزراء السلطان عبد العزيز التي تحثه على دعوة أتباعه بقبائل زمور الى مواجهة بوحمارة وتشيد كذلك بخدماته الجليلة التي يقدمها للمخزن العزيزي. ومن هذه الرسائل تلك التي وجهها وزير الحربية المهدي المنبهي والتي جاء فيها : » محبنا الاعز الأرضى الشريف الأجل الفقيه العلامة البركة سيدي محمد الكتاني أمنك الله وسلام عليك ورحمة الله …أما جدك في السير فمعدود من خالص نصيحتك وخدمتك الأعتاب الشريفة ،…فلتزد على يدك فيما أنت بصدده من قضاء الغرض الشريف ،الذي توجهت لأجله وفق ما أمرت به ،كما هو المعتقد فيك من حزمك في مثل ذلك ،أعانك الله وقواك « .

وبالإضافة الى هذه المشاركة العسكرية فإن الزاوية الكتانية شاركت في إصدار بيان بخصوص حركة بوحمارة، الذي عده البيان غريبا عن الأسرة الحاكمة وأنه ثائر وفتان خرج عن طاعة السلطان الشرعي. » و أنه تسبب في إهلاك كثير من المؤمنين وشق العصا – وقد – قال الله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ويصلبوا أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ….فعليه لعنة الله والملائكة والناس « .

بل إن الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني تولى بنفسه مناقشة الجيلالي الزرهوني، بخصوص ادعائه المهدوية. من خلال ما قدمه -الكتاني- في إحدى محاضراته الموجهة لأتباعه التي عمل فيها على تفنيد مزاعمه. وسيتلقى مكافأة على انخراطه الإيجابي في دعم السلطة العزيزية، من خلال بعثه الى الحج على نفقة السلطان الخاصة سنة 1903 ما سيمنحه فرصة للاضطلاع على أفكار الجامعة الاسلامية.

ونظرا للمكانة العلمية التي تبوأها شيخ الزاوية الكتانية بين أقرانه، لم يجد المخزن بد من الاستنجاد به اثناء رغبة فرنسا إدخال ملف الإصلاحات مباشرة بعد ابعادها لإنجلترا بموجب الاتفاق الودي، وهي الإصلاحات التي رفضها العلماء بحجة مخالفتها للشرع الاسلامي، وخدمتها الصريحة للمصالح الفرنسية. من أجل ذلك كانت الدعوة لعقد مؤتمر دولي، انتهى وأنهى معه حلم المغاربة في إيقاف الزحف الفرنسي كما هو معلوم .

على أن المصادقة على قرراته من لدن السلطان عبد العزيز شكل بمثابة قطيعة تامة بينه والمغاربة الذين يعارضون التدخل الأجنبي ويؤيدون مقاومته. هكذا تميزت الفترة التي أعقبت المؤتمر بارتفاع عدد الأحداث التي يهاجم فيها مغاربة رعايا أوربيين، والتي ردت فيها القوات الفرنسية الصاع صاعين للمغاربة الذين شاركوا في حملة الهجمات على رعاياها. فقد نتج عن مقتل الطبيب الفرنسي موشان بمراكش احتلال فرنسا لوجدة. لكن مهاجمة ثوار الشاوية لعمال ميناء الدار البيضاء ستشكل عاملا مباشرا لبروز انقلاب داخل الأسرة الحاكمة بعد استنجاد أهل الشاوية بشقيق السلطان عبد الحفيظ لمواجهة الغزو الفرنسي للمنطقة. فما هي إذن حدود مساهمة الزاوية الكتانية في هذه البيعة ؟.

ثانيا: مساهمة الزاوية في البيعة الحفيظية:

تركز مصادر هذه المرحلة من جهتها على كون السلطان عبد الحفيظ سعى في تهيئ الظروف الملائمة لحركته ضد أخيه منذ استخلافه على مراكش .ينقل صاحب فواصل الجمان بهذا الصدد : » أن مولاي عبد الحفيظ جد في الاستعداد لنيل الاستبداد فاتخذ بطانة من كلاوة والرحامنة وأظهرهم على بغيته الكامنة « .ويمكن أن ندرج هذا الموقف من طرف المولى عبد الحفيظ في إطار تخطيطه القبلي لإنجاح حركته، دون أن ننسى تعاطفه مع شيخ الزاوية الكتانية في محنته سنة 1897م .

ولربما هذا التعاطف مع شيخ الزاوية الكتانية يأتي في إطار الوعي الحفيظي بحجم الزاوية الكتانية من الناحية العلمية والسياسية والدينية وسط أعيان مدينة فاس، بل إنه سيعمل على دعوته بشكل شخصي لبيعته خلفا لأخيه في الوقت الذي بادر فيه عدد من المغاربة بمراكش الى بيعته سلطانا على المغرب بعدما اتضح لهم عجز أخيه .هكذا سيبعث السلطان الجديد رسالة الى الشيخ يوضح من خلالها سبب بيعة الناس له ويدعوه لبيعته. جاء فيها: » الشيخ الأجل العارف بالله تعالى، الولي الكامل الشريف البركة الخير السيد محمد بن الشيخ عبد الكبير الكتاني، وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله وبركاته…وبعد، فغير خفي ما حدث بوجدة من مفاجأة العدو لها، وأخذها على غرة، فاتخذ أمرها هزؤا ولعبا وتهتكا وتهكما وسخرية، ولم يجد أهلها ناصرا ولا معينا، ثم لم يكن إلا كلمح البصر، حتى عمد إلى الدار البيضاء التي هي أعظم الثغور بأرض المغرب، ومركز البلاد ووسطها وأخرج منها، واستولى عليها، ووجه عددا من الفلاكيط إلى جميع المراسي بقصد الهجوم عليها كذلك…وذلك حيث علم العدو عدد من يقوم بأمر المسلمين وثغورهم، وشاع وذاع أنه بصدد الحلول بفاس ومراكش…و حيث كان هذا الأمر الهائل الذي تبكي عليه العيون دما، وازدادت به النفوس مرضا وألما، وعلم جميع المسلمين ما يصير الله أمر أنفسهم وأموالهم وبلادهم، جالت أفكارهم ،وخاضت عقولهم وأبصارهم، فيمن يقدمون لهذا المنصب الأعظم ،ويسلك به فيهم السبيل الأقوم، بعد إجماع علماء هذه الحاصرة المراكشية على خلع ربقة بيعة الأول من أعناق هذه الأمة المحمدية ،فهداهم الله للتوفيق والتسديد ،والرأي الصالح السديد، فانعقد الإجماع من هذه الحاضرة المراكشية وما حولها من البقاع على تقديمنا وأمانتنا ،والدخول تحت طاعتنا ،للنظر في مصالح المسلمين ،والدفاع عنهم ،وإخراج العدو من ثغور المسلمين …فلم نجد بدا من مساعدتهم على ذلك ،لما ورد في ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة النبوية ،وبايعونا بيعة انعقد على ألوية النصر عقدها ،وطلع في أفق الهنا سعدها ،حضرها الصدور والأعيان ،وأهل الوجاهة في هذا الزمان ،وذو الحل والعقد ،ومن إليهم القبول والرد ،من عرب البدو والحضر ،وجيوش العبيد والبربر ،فانعقدت بحمد الله مؤسسة على التقوى ،بيعة تامة محكمة الشروط وفية العهود دقيقة الربوط ،جارية على سنن السنة والجماعة ،سالمة من كل كلفة ومشقة وتباعة ،رضي الكل بها وارتضاها ،والتزم حكمها بالسمع والطاعة وأمضاها ،فأجبنا داعيهم لذلك ،ودخلوا تحت طاعتنا ،ونصروا رايتنا ،وأعلنوا بالنصر المؤزر لجنابنا الشريف ،سائلا منه سبحانه أن يعيننا على ما كلفنا ،ويوفقنا لما به طوقنا ،إنه ولي ذلك ،وحسبنا الله ونعم الوكيل، وأعلمناك بهذا لتأخذ حظك من الفرح ،وتوجه بيعتك لشريف حضرتنا ،سائلين منكم صالح الأدعية بإعزاز هذا الدين الشريف وتأييده ،وإعانة جنابنا على القيام بأمور المسلمين ،والله يوفقكم لما فيه رضاه…والسلام. « .

وبالإضافة الى هذه الرسالة الدعوية فإن السلطان عبد الحفيظ سرعان ما سيضيف إليها رسالة اخرى الى محمد بن عبد الكبير الكتاني يتعهد فيها بإتباع أوامره وأوامر الله والرسول .يقول السلطان في هذه الرسالة : » أشهدت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أني ألزمت بيعة شيخي وأستاذي الشريف الأجل العلامة الأمثل سيدي محمد بن جعفر بيعة أدين الله بها ،وجعلته واسطة بيني وبيني جل شأنه ،وعظمت مواهبه ،والتزمت باتباع ما أمرني به ونهاني عنه ،بقصد استطاعتي ،وأسأل الله وفاء الملتزم ،بجاه سيد العرب والعجم ،كتبه طائعا غير مكره ولا مجبور ولا مدعور في 22 ذي القعدة عام 1331 هـ « .

عموما فإن بيعة مراكش للسلطان عبد الحفيظ ووصول خبرها إلى فاس ستشكل فرصة لكي يقدم سكانها سؤالهم الى كبار علماء فاس بخصوص شرعية خلع بيعة فاس من عدمها في ظل تنامي الاحتلال الأوربي لبعض المناطق، وتبذيره للمال العام لقضاء حوائجه الخاصة، إسوة بإسقاطه الأحكام الشرعية وعدم قدرته على الحد من استبداد الولاة. وقد جاء نص الرسالة كما يلي : » فلا يخفاكم ما حل بهذا القطر المغربي من احتلال بعض الأجانب جل نواحيه ،كتوات وفجيج وعيون بني مطهر ،ومدينة وجدة، وثغر الدار البيضاء ،موضعا بعد آخر ،احتلالا نشأ عن اختلال الأحكام وتقاعد الولاة عن الاستعداد، وموالاتهم لبعض أجناس الأجانب، حتى عقدوا معهم شروطا تؤدي إلى إدخال المسلمين تحت حكمهم، وبسط يد التصرف لهم في سائر القرى والأمصار، بما تسبب عنه من إسقاط الأحكام الشرعية ،كإبدال الزكاة بالترتيب في سائر الإيالة، وإحداث البنك المؤدي إلى إدخال الربا في سائر المعاملات …وغير ذلك مما هو معلوم، لدى الخصوص والعموم، كاستلاف الأموال العظيمة من الأجانب وصرفها في غير مصالحها، زيادة على خلاء بيت مال المسلمين بعد عمارته، وإنزال البوليس ببعض المراسي الذي من أعظم دواهيه سلب السلاح من يد كل مسلم ،وغير ذلك من الأمور التي يعلمها كل واحد من أبناء الإيالة المغربية، كتجهيز الدار البيضاء ،وانتصارا له حتى تحققت الرعية بعجز أميرها القائم بأمورها عجزا كليا ،ففرت منه القلوب ،وبقي الناس بسبب ذلك في سائر المدن والبوادي فوضى يأكل بعضهم بعضا « يضيف سكان فاس بلغة واضحة في هذه المراسلة » فما هو جوابكم عن هذا الداء العضال ،وما كيفية التخلص منه مع تحقق الاضمحلال ،وكيف إن دام الحال على ذلك ،وبقي الأمير منهمكا فيما هنالك ،وهل يجوز خلعه مع تحقيق هذا كله أم لا ؟ أجيبوا بما يخلص ربقتنا وربقتكم ،ومن أيدي الأجانب …والسلام « .

وتؤكد هذه المراسلة المرفوعة الى علماء فاس من جهة أخرى مدى التذمر الذي لحق سكان المدينة من جراء ما آلت إليه الأوضاع في عهد السلطان عبد العزيز بسبب نهجه سياسة تخالف الشرع والدين. لكنهم رغم ذلك كانوا يريدون أن يعرفوا من علماء الأمة رأي الشرع في ذلك وهل يجوز خلعه ؟.على أن جواب العلماء كان واضحا بخصوص سؤال سكان فاس حول شرعية خلع السلطان عبد العزيز » فيجب عزله وتولية غيره ممن يقوم بأمور المسلمين ،ينفذ قوله وفعله ،لكون إمامته لم تجر على القواعد الشرعية ،بل ولا على الضوابط المرعية « بالإضافة الى أنه »ما تحرك للدفاع عن المسلمين ولو بغمز ،بل سكت عن استيلاء بعض الأجانب على بلاد المسلمين «.

وقبل أن نتطرق لموضوع بيعة علماء فاس وجب التنبيه الى نقطة مهمة مرتبطة بكيفية بيعة سلاطين المغرب تاريخيا .فهذه البيعة ينبغي أن تكون تحت اشراف أهل الحل والعقد من العلماء والأشراف، وفقا لأحكام منضبطة، يلتزم فيها السلطان العمل بكتاب الله وسنة رسوله، وضمان العدل في الخصومات، وحماية حوزة الوطن، وأمن البلاد من الفتن،| بيعة مقيدة بشروط توثق الصلة بين المسلمين وإمامهم ،وتحقق للأمة أهدافها ومقاصدها. وبما أن سلطان المغرب يعتبر إمام للمسلمين فإنه من المفروض أن تتوفر فيه بعض الشروط ،التي هي شروط الإمامة كما حددها الفقهاء وهي : أن يكون مجتهد في الأحكام الشرعية، و أن يكون بصيرا بأمور الحرب، وصاحب مروءة ،وعادل ،وحر ،ومطاع الجانب .وكل هذه الشروط انعدمت في السلطان المخلوع عبد العزيز الذي » عرف بميلانه للكفر وأهله ،ورضاؤه بأفعالهم السيئة ،وعدم وجود غيرة فيه على بلاده التي أخذوها ومن بها من المسلمين الذين هم الآن في حكم الأرقاء ، ناهيك عن تبديله لأحد أهم قاعدة من قواعد الدين الخمسة وهي الزكاة وهو كفر بإجماع العلماء ،ثم إنه كان يوجه المؤن والذخيرة لجيش الاحتلال من طنجة وغيرها لتقويته على المسلمين المجاهدين في الشاوية « .

ويمكننا أن نستشف من جهتنا حجم الغضب الذي استشرى في صفوف أهل فاس من السياسة العزيزية في هذه المرحلة، من خلال امتناعهم في دجنبر 1907م عن تأدية المكوس ،مدشنين لما أسموه ثورة المكوس التي تشبه بشكل كبير واقعة 1873 م، وفي خضم ذلك سارع العلماء الى الحسم في بيعة السلطان الجديد بنص بيعة حررها أحمد بن مواز وأضاف إليها شيخ الزاوية الكتانية بعد نقاش مطول بينهما بعض الشروط التي أراد بها أن يرسم خريطة عمل السلطان عبد الحفيظ كما أرادها العلماء الذين أرادوا منه » أن يسعى جهده في رفع ما أضر بهم من الشروط الحادثة في الخزيرات حيث لم توافق عليها الأمة ،ولا سلمتها ،ولا رضيت بأمانة من كان يباشرها ولا علم لهم بتسليم شيء منها وأن يعمل وسعه في استرجاع الجهات المأخوذة من الحدود المغربية ،وأن يباشر إخراج الجنس المحتل من المدينتين اللتين احتل بهما ويزين صحيفته الطاهرة بحسنة ويزين صحيفته الطاهرة بحسنة استخلاصهما ،وأن يستخير الله في تطهير رعيته من دنس الحمايات ،والتنزيه من اتباع اشارة الأجانب في أمور الأمة .لمحاشاة حمته الشريفة عن كل ما يخل بالحرمة .وإن دعت الضرورة إلى إتحاد …فليكن مع إخواننا المسلمين كآل عثمان…وإذا عرض ما يوجب مفاوضته مع أجانب في أمور سلمية أو تجارية فلا يبرم أمر منها إلا بعد الصدع به للأمة …وأن يوجه أيده الله وجهته الشريفة لاتخاذ وسائل الاستعداد للمدافعة عن البلاد والعباد…وأن يقر بفضله العيون والنفوس برفع الضرر والمكوس…وكف العمال عن الدخول في الخطط الشرعية « .

ثالثا: الكتانيون والسلطان عبد الحفيظ بعد بيعة فاس المشروطة:

لقد شكلت البيعة الفاسية المشروطة أولى حلقات الخلاف بين الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني الذي كان وراءها، والسلطان المولى عبد الحفيظ المعني بها » ثم إنه وقع مما هو مشهور في بيعته للجناب الحفيظي بفاس بعد خلع أخيه المولى عبد الحفيظ واشتراطه في أصل البيعة شروطا وافق عليها الكل فيقال إنه خنق عليه بسببها « .و لم يتردد السلطان بالمقابل في الاقرار بعدم الاعتراف بها، وتوبيخ علماء فاس الذين جاءوا لتهنئته بعد وصوله الى مكناس.

على أن المصادر الكتانية تشير إلى ان بوادر الخلاف بين الطرفين كانت قد بدأت سنة 1897 م، بعد الاختلاف في احدى المناظرات بين أنصار التيار الحفيظي و الشيخ، الذي تم اتهامه من طرفهم بأنه يخطط لإقامة ملكية كتانية، قبل أن يتصل الأخير بالسلطان ليخبره بأمر هؤلاء الوشاة فكان جواب السلطان عليه كما يلي: » و حاشيناك من نسبة كل ما يشين وجه النسبة الربانية أو يغاير سننك الجاري على مناهج أهل التوفيق المرشدين لإكبارك في عين جنابنا الشريف … « .

إن الواقع يوضح بأن هذه الشروط التي ضمنتها البيعة اعتبرت في سياقها ثورة في طبيعة العلاقة بين الحاكم ورعاياه، رغم عدم رغبة السلطان عبد الحفيظ في التخلي عن سلطاته التي رسخها الزمن كإطار مميز للعلاقة بين الحاكم والمحكومين .

عموما فإن الشيخ كان يراهن من جهته على محاصرة السلطان بمجموعة من المطالب، كان يطمح من خلالها الى وقف الزحف الفرنسي/الاستعماري. كما هو واضح في إحدى رسائله المفتوحة بجريدة لسان المغرب التي يقول فيها : » فعلى جلالته أن يحقق رجاءنا وأن يبرهن على أهليته ومقدرته على ترقية شعبه وعلى رغبته في الإصلاح وجدارته بإدارة ما قلدته أمته ،والذي نرجو منه أولا وقبل كل شيء هو فتح المدارس ونشر المعارف ،وأن يكون التعليم الابتدائي إجباريا ،وأن يولي ذوي الكفاءة الاستحقاق والأهلية…وبما أن يدا واحدة لا تقدر على إنهاض شعب من وهدة سقوطه ،ولا على إصلاح إدارة متخلفة كإدارة حكومتنا فيجب أن تكون الأيدي المتصرفة والعقول المفكرة والأفكار المدبرة كثيرة متكافئة…وعليه فلا مناص ولا محيد لجلالته من أن يمنح أمته نعمة الدستور ومجلس النواب ويعطيها حرية العمل والفكر لتقوم بإصلاح بلادها اقتداء بدول الدنيا المتحضرة « .

كذلك كان هناك سبب آخر لعله الباعث الأقوى على الخلاف بين الشيخ والسلطان، ويتمثل في الموقف من الجهاد، فإذا كان الشيخ حريص كل الحرص على دفع السلطان للالتزام بشرط الجهاد ضد المحتلين كما هو موضح في عقد البيعة، فإن الأخير كان يركز بالأساس على مواجهة أنصار أخيه المخلوع بغية تثبيت سلطته بعيدا عن كل ما له صله بالجهاد الذي لم يكن سوى أسلوب لكسب الشرعية وتهديئ المغاربة كما يوضح في إحدى رسائله الموجهة الى القائم بالشؤون البريطانية في طنجة ،هيربرت وايت في 29 يناير 1908 م يقول فيه : » بالنظر الى التقارير التي يمكن أن تكونوا قد توصلتم بها حول الدعوة إلى الجهاد ،فإننا نستخدمها مجرد خدعة لطمأنة الناس وتهدئة هيجانهم وهم يرون أرضهم تحتل بالقوة وأبناء جلدتهم يقتلون في أرضهم، ويرون أنفسهم ممنوعين من حكم بلدهم. وقد عقدنا العزم على تعيين عمال في كل إقليم الشاوية من أجل وضع حد للفوضى ،إلا أن الفرق العسكرية التي توغلت وسط البلد وقفت دون ذلك وقطعت الطريق على متابعة المسار. فلو كنا ذهبنا إلى الشاوية فإنه من المحتمل أن تستخدم هذه الفرق خدعا عسكرية تنهي بها معركة لا نرغب فيها .فغايتنا هي طمأنة رعايانا وإقرار الأمن في البلاد والطرقات لا غير « .

غير أن سعي القوى العظمى إلى تحصين مكتسباتها داخل المغرب في ظل العهد الجديد، شكل سببا آخر في توتر العلاقة بين السلطان و تيار الزاوية الكتانية، خاصة بعد أن شرطت عليه هذه القوى الامبريالية العمل على إعلان تخليه عن الجهاد أمام الملأ في خطاب يقرأ من أعلى المنابر، قبل أن تدفع به الى الاعتراف بمقررات الجزيرة الخضراء من أجل رفع الحصار المضروب على مداخيل الجمارك ،والاعتراف به كسلطان للمغرب عوض أخيه المخلوع وبذلك يكون قد سقط في نفس الدوامة التي كانت سببا في إبعاد أخيه عن الحكم .

كما أن تركيز السلطان على مواجهة أنصار أخيه عوض المستعمر في هذه المرحلة ،كان باعثا لخلاف آخر مع شيخ الزاوية الكتانية، خاصة بعد أن وجه السلطان رسالة الى الشيخ يدعوه فيها الى دعوة قبائل زعير للالتفاف حول السلطان الجديد ،قبل أن يدعوه في إحدى الرسائل الى التعجيل بالقدوم بهم يقول السلطان : » لتعجل بالقدوم بقصد ملاقاة ركابنا العالي بالله بقبيلة زعير مع اجتهادك في تنفيذ حركات معتبرة من أولائك القبال، وإعمال بالك هنا مع طي المسافات الزمانية والمكانية…فها نحن في انظارك الدار بعد الدار « .وقد لبى الشيخ نداء السلطان ،فأحضر جيشا جرارا مكون من قبائل زعير معتقدا أن الهدف هو الجهاد ،فكان ذلك سبب آخر في تنامي الخلاف بين الطرفين بعد أن طلب السلطان من الشيخ أن يوجه ذلك الجيش لمواجهة أنصار السلطان المخلوع عبد العزيز فكان أن ووجه هذا الطلب بالرفض من طرف شيخ الزاوية الكتانية .مما دفع بالسلطان بأن يعتبر ذلك تحد لقراراته مما حمله على أن قال له : » إذن أنت سلطان المغرب لا أنا « .

ويذكر المختار السوسي أسباب أخرى بعثت على حقد السلطان على الشيخ أجملها، في كون الشيخ لم يكن يحترم السلطان في المجالس العلمية، رغم الاحترام الكبير الذي كان يكنه له السلطان، حتى أن السلطان لم يتردد في وصفه بأنه “ثقيل على القلب”.

كما برز أيضا خلاف كبير بين الرجلين في مسائل فقهية، منها حياة الأنبياء في قبورهم، فقد كان السلطان ينكر حياة الأنبياء فيما يعقد من دروس، في حين كان الشيخ يصرح » بأن النبي يحصره مع مؤيده بذاته الشريفة عند قراءتهم الأوراد والصلوات « ،وقد انتصر لها وأعمل في ذلك مجهوده الذي وصل به إلى وضع تأليف في الموضوع سماه »حياة الأنبياء« تكون من عشرين كراسة، وفي ذلك إيماءة من الشيخ إلى وفرة مادته في إثبات صحة وجهة نظره والبرهنة عليها، وقد جعل هذا المؤلف آخر مؤلفات الشيخ إذ تعرض لمحنته التي انتهت على إثرها حياته .وقد اتخذ النهج الحفيظي شكله المباشر لما أخذ يبدي مواقفه من الصوفية وممارستهم، الذي تعمد ضرب تيار الزوايا داخل المغرب، خاصة بعد أن تعارضت مواقفهما من التدخل الأجنبي، وفي هذا الإطار ألف السلطان مؤلفا يلخص رؤيته للطرقية بعنوان » كشف القناع عن اعتقاد طوائف الابتداع ،المتقولين الذين حادوا عن منهاج السنة وأحدثوا اعتقادات لم ترد عمن شرع الدين وسنه « .

على أن الخلاف حول مسألة التصوف وصل حده حينما رد الشيخ على السلطان في هذا الموضوع بقوله : » لا يجب أن تنكر الرقص وحده ،بل الواجب أن تقوم الآن فنبدأ بمجانات الذهب وظروف النشوى المذهبة ومجادلة الحرير فنزيلها ،وكان بيد السلطان حك النشوى من الذهب وعليه مجانة ذهبية وحمالة حرير ،ثم نخرج فلا نمر بطرقنا على محل من محال البغي ولا مخمرة إلا سددناها ثم لا نمر على صاحب دكان لا يعرف كيف يبيع ويشتري إلا أقدمناه ،فإذا وصلنا للزوايا بحثنا في بدعهم ومناكرهم كذلك ،وأما إغضاء الطرف وإحداث التوجيهات لكل محرم ومكروه إلا المتصوفة والصوفية ،فتفرقة من غير مفرق وتخصيص بدون مخصص فقام السلطان غاصبا ونزل الشيخ الإمام ساخطا « .ومن ذلك يكون الخلاف بين الطرفين قد وصل حدا متقدما ،خاصة بعد هذا الموقف الكتاني الذي تلاه بمجلس السلطان ،والذي لخص فيه رؤيته لمجلس السلطان وتعداد مظاهر الفساد داخل البلاد ،ناهيك على أنه اعتبر السلطان يحل ما لا تجب تحليته ،ويحرم أمرا مشوبا بالشبهات وهو ممارسات الزوايا .

في ظل هذا الجو المشحون بالخلافات سيتم إعلان وفاة عبد الكريم بن سليمان الذي عرف عنه بموالاته للأوربيين فكان ذلك باعثا على الانتقام منه من طرف بعض سكان فاس الذين نبشوا قبره وفصلوا رأسه عن جسده ،مما يوضح قيمة التذمر والسخط من العملاء مما دفع بالسلطان عبد الحفيظ الى التعجيل في المغادرة نحو مراكش خاصة بعد نجاته من محاولة اغتيال. فكان أن انتشرت بعض الإشاعات التي تتحدث على أن السلطان يريد الاحتفاظ ببعض أعيان فاس كرهائن لديه تحسبا لأي خطر محتمل .وحسب ما زعم فإن محمد الكتاني كان واحدا من هؤلاء .

في هذا الإطار سيغادر الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني بمعية أفراد أسرته فاس طالبا الأمان من القبائل الأطلسية القريبة، وقد سهلت أحوال الطقس المتردية عملية الفرار، خاصة أنها جعلت الطرقات خالية، وبعد أن وصل الشيخ الى معقل آيت النظير (بني مطير) ستصل أخباره الى السلطان الذي غضب غضبا شديدا، فكان أن أصدر تعليماته الى قيادة بني مطير تأمرهم بالقبض على الكتاني والاحتفاظ به إلى حين وصول قوات مخزنية خاصة في طريقها إليهم. وفي حالة عدم الامتثال، فإن كل خيام القبيلة وقراها مهددة بأن تحرق عن آخرها . وتتحدث بعض المصادر على أن القنصل الفرنسي غايار gaillardهو من أخطر السلطان بنازلة فرار الكتانيين ،فما كان أمام السلطان إلا أن أمر فرقة من الجيش بمطاردة الكتانيين بداية من 17 مارس 1909 م .وبعد خمسة أيام من هذا وصل خبر القبض على أفراد الأسرة الكتانية الذين وضع الجنود في أعناقهم السلاسل .وستة أيام بعد هذا وبحضور العلماء سيتم توجيه تهمة نقض عهد البيعة للكتاني ،والاستعداد لخلق الفتنة ضد السلطان الشرعي .وحوصر الشيخ بقصر أبي الخصيصات بفاس، ثم بعد حين نفذ فيه حد الجلد، فمات تحت وقع السياط يوم 4 ماي 1909م ،وبموازاة ذلك تم إغلاق الزوايا التابعة للطريقة الكتانية في كافة التراب المغربي .

خاتمة:

يمكن القول في الختام إن هذا الصراع بين الشيخ والسلطان، كان يتجاوز اختلاف الرؤى بينهما في مسائل عينية. بل إنه ارتبط أساسا بمدى تناقض مصالح الطرفين وموقعهما العام داخل النسق السياسي والاجتماعي العام للدولة المغربية.

وعلى العموم فإن الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني قد تحدد دوره أساسا كمعارض للتوغل الاستعماري داخل المغرب وكل الأسباب المؤدية إليه بما فيها سياسة السلطان التي تختلف حسبه مع المنطق الذي سطره علماء فاس في بيعتهم المشروطة، التي كان الهدف من ورائها وضع قطيعة مع امتيازات الدول الأوربية التي رسختها معاهدات المخزن، واسترجاع المناطق التي تم استعمارها ،ووضع شروط للتعاون بين المغرب وتركيا عوض التعاون مع البلدان الأوربية التي لها أهداف استعمارية وأطماع في المغرب.

ومن ناحية أخرى فإن السلطان عبد الحفيظ الذي استفاد من الوضع الذي أحاط بالمغرب مع بداية القرن العشرين لكي يصل الى سدة الحكم، فإنه لم يقبل أن تكون بيعته مشروطة لأنها تنتقص من قيمته، ولعل هذا ما يفسر غضبه على العلماء الذين جاءوا لتهنئته. على الرغم من أنه قدم نفسه في البداية كسلطان للجهاد وكبديل لأزمة الحكم التي تعيشها البلاد، بعد أن ارتفعت حدة الشؤم واليأس من السلطان عبد العزيز الذي صارت الرعية ترى فيه متعاونا مع الكفار وأنه باع المغرب لفرنسا .

وبغض النظر عن حسن أو سوء نية السلطان عبد الحفيظ الذي روج لنفسه أنه سلطان الجهاد مع بداية توليته كحاكم فعلي للبلاد بعد اكتمال البيعة له، فإن ذلك يوضح أنه لم يكن يدرك الشروط التاريخية التي أحاطت بالمغرب في هذه المرحلة، سواء فيما يتعلق بمدى تأخره عن الركب الحضاري الأوربي، أو في ما يخص حجم الامتيازات التي سحبت من المخزن من طرف القوى الامبريالية التي لم تكن لتقبل التنازل عنها خاصة فرنسا التي صارت قاب قوسين أو أدنى من استعمار المغرب بشكل رسمي .

وشكل عجزه من ناحية أخرى في مواجهة الأطماع الامبريالية سببا مباشرا في جعله يوجه أنظاره صوب المنتقدين والمعارضين لسياسته من الذين كانوا يطالبونه بأجرأة شروط بيعته على أرض الواقع .على أن الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني كان أبرز هؤلاء بل أشرسهم على الإطلاق بحكم أنه كان وراء خلع السلطان عبد العزيز والبيعة المشروطة التي لم يرض بها السلطان الجديد بتاتا. كما أنه عارض بشكل كلي تركيز السلطان عبد الحفيظ كل جهوده في محاربة أنصار أخيه عبد العزيز عوض مواجهة المحتل الذي من أجل مواجهته تمت بيعته.

كان الخلاف إذن مرتبط بعدم قدرة السلطان على مواجهة القوى الاستعمارية، التي ضغطت عليه ليقبل بذات الشروط التي كانت وراء خلع السلطان عبد العزيز منها الاعتراف بمقررات الجزيرة الخضراء. مما دفع شيخ الزاوية الكتانية كي يشن حملة دعائية واسعة لمواجهة سياسة السلطان انتهت بإجهاز السلطان عليه وبالتالي على معارضته.

المصادر والمراجع المعتمدة:

ابراهيم حركات ، التيارات السياسية والفكرية بالمغرب خلال قرنين ونصف قبل الحماية ،دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء.
إدموند بورك، الاحتجاج والمقاومة في مغرب ما قبل الاستعمار (1860-1912) ،ترجمة محمد أعفيف ،الرباط ،دار أبي رقرارق ،2013.
جامع بيضا ،رسائل مفتوحة إلى السلطانيين المولى عبد العزيز والمولى عبد الحفيظ ، ضمن أعمل ندوة وقفات في تاريخ المغرب ، دراسات مهداة للأستاذ ابراهيم بوطالب ، الدار البيضاء ،مطبعة النجاح الجديدة ، 2001 .
زهير شمشوب ،الزاوية الكتانية والمخزن 1900-1912 ،،الدار البيضاء ،افريقيا الشرق ،دون تاريخ ،ص29.
عبد الرحمان بن زيدان ، العز والصولة في معالم نظم الدولة، (ج2) ، الرباط ، المطبعة الملكية ، دون تاريخ .
عبد القادر الفاسي و عبد الحي الكتاني، رسالتان في الإمامة العظمى ، تحقيق هشام بن محمد حيجر الحسني ،بيروت ،دار الكتب العلمية ،2011.
عبد المجيد قدوري ، المغرب وأوربا مسألة تجاوز، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي ،ط2 ،2012م.
محمد عبو ،مؤتمر الجزيرة الخضراء وانعكاساته على الأوضاع المغربية ،ضمن ندوة السلطان المولى عبد الحفيظ ،دار المناهل ،أبريل 2001
محمد الباقر الكتاني ، أشرف الأماني بترجمة الشيخ سيدي محمد الكتاني، تحقيق نور الهدى عبد الرحمان الكتاني ،الدار البيضاء ، مركز التراث الثقافي المغربي ، ط1 ،2005،
محمد المختار السوسي ،حول مائدة الغذاء ،،الرباط ،مطبعة الساحل ،دون تاريخ
محمد نهليل ، رسائل شريفية ، اعداد وتقديم ،الجيلالي العدناني و عبد الرحيم بنحادة ، الرباط ، دار أبي رقراق، ط1 ،2013
محمد الصغير الخلوفي، بوحمارة من الجهاد الى التآمر ،المغرب الشرقي والريف من 1900 الى 1909م، ،الرباط ،مطبعة المعارف الجديدة ، دون تاريخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *