وجهة نظر

العمل النقابي المغربي وأسئلة المرحلة

يعتبر العمل النقابي إحدى الواجهات المهمة للنضال المجتمعي في سبيل تحرير القوى العاملة من كل أشكال الحيف والظلم والاستغلال، إضافة إلى أنه يعد من أهم عوامل بناء القوة المجتمعية البانية لدولة العدل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وتكون النقابة إذ ذاك مؤسسة مجتمعية ضامنة للتوازن والسلم الاجتماعي والاقتصادي من موقع الاقتراح والبناء من جهة، والنضال والضغط من جهة أخرى.

وسنحاول في هذا المقال طرح أسئلة جوهرية على العمل النقابي المغربي في سياق المرحلة الحالية التي يمر منها المغرب، مرحلة تقابلت فيه، أكثر من أي وقت مضى، إرادتان متناقضان: إرادة الرغبة في التحرر والانعتاق من قرون الاستبداد وعقود الفساد ونشدان دولة العدل والحرية والكرامة والحقوق، تجسدت في حراك شعبي ضد الظلم، هذا الحراك شهد اتساعا ملحوظا على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفي كل القطاعات والقضايا. وإرادة الالتفاف والمناورة وإعادة التموقع بنفس روح الفساد والاستبداد لكن بآليات ووسائل جديدة.

فكيف وأين تموقع العمل النقابي المغربي في ظل هذه المرحلة؟ وقبل ذلك كيف وُلد وكيف نشأ العمل النقابي في المغرب حتى نستوعب موقعه الحالي؟ وهل من بديل آخر للعمل النقابي على شاكلته الحالية؟

• سؤال الولادة والنشأة؟

إن أي تنظيم مجتمعي، على اختلاف نوعيته ووظيفته، يستمد قوته وامتداده وفعاليته من كونه يأتي كنتيجة لإفراز طبيعي لحاجة الأمة أو المجموعة البشرية التي أسسته، ويتوافق مع مقوماتها الحضارية والتاريخية والسياسية، ويعكس تطلعاتها ويساهم في بناء مستقبلها ومجدها، آنذاك سيجد هذا التنظيم حاضنة شعبية دائمة تسنده في معاركه المختلفة، سواء أكانت معارك النضال و الضغط والانتزاع أو معارك البناء والاقتراح والتشييد.

لن نجد كثير عناء في القول أن العمل النقابي المغربي وُلد ونشأ مع مجيئ الاستعمار الغربي في بداية القرن 20م، وانبنى على فكر وايديولوجيا مستوردة، فهو نسخة من العمل النقابي الغربي الذي ظهر كإفراز للثورة الصناعية في أوروبا خلال القرن 18م، الذي جعل قضيته قضية صراع طبقي بين طبقة البرجوازية المالكة لكل وسائل الإنتاج وطبقة العمال (البروليتاريا) الفاقدة لأبسط شروط العيش والعمل والصحة. وقد وجد الفكر الاشتراكي الماركسي في هذه المعاناة مدخلا اجتماعيا لحشد العمال لإقامة الدولة الشيوعية أو دولة “البروليتاريا” ضربا على وتر معاناة العمال .

وهكذا نشأ العمل النقابي المغربي نشأة سياسية استنساخية بعيدة كل البعد عن كونه افرازا اجتماعيا طبيعيا لحركة الطبقة العاملة المغربية، وبعيد كل البعد عن مقومات الأمة المغربية، حتى وإن سايرَ رجال الحركة الوطنية في المطلب المرحلي في عهد الاستعمار وهو الاستقلال، فإنه “أضمر” الخلفية الفكرية والايديولوجية والرؤية المستقبلية إلى حين تحقيق المطلب المرحلي المشترك.

وهذا ما سيظهر جليا بعد أن التحقت أول نقابة مغربية “الاتحاد المغربي للشغل” (UMT) سنة 1959م بالجناح “الثوري” في حزب الاستقلال الذي انشق وأسس “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” اليساري وجعل من النقابة ذراعا قويا لتحقيق هدفه السياسي في بناء الدولة الاشتراكية، بينما ردت العناصر الموالية لحزب الاستقلال بتأسيس نقابة “الاتحاد العام للشغالين بالمغرب” (UGTM) سنة 1960م، مما أفقد العمل النقابي المغربي منذ وقت مبكر موقع الطبيعي أن يكون إفرازا طبيعيا لحركة عمالية مغربية بأهداف وطنية واحترام تام مقومات الأمة وهويتها.

هذه الولادة القيصرية وهذا التموقع غير الصحيح، سيجعل العمل النقابي المغربي منذ ذلك التاريخ، ومع كل نقابة تظهر، يحمل معه أمراضا مزمنة في التنظيم والعمل النقابيين لا تزال تشكل سدا منيعا بينه وبين قيامه بدوره الطلائعي في تحرير قوى الطبقة العمالية وضمان حقوقها والحفاظ على مكتسباتها، وانخراطها في ورش بناء دولة العدل والحريات، رغم زخم التضحيات التي قدمتها و لا تزال الطبقة العمالية المغربية.

• سؤال العمل والتنظيم ؟

إن التموقع الخاطئ للنقابة المغربية منذ لحظة ولادتها وارتهان عملها إلى عوامل خارج دائرة هموم الطبقة العاملة جعله يستبطن عوامل ضعفه في العمل والتنظيم النقابيين.

“وباطلاعنا على أدبيات كثير من المنظمات النقابية نجد أغلب مبادئها تدور على ثلاثة مبادئ أساسية، وهي الاستقلالية، والديمقراطية، والتقدمية. وقد حاولت بعض النقابات أن تجعل من ضمن مبادئها مبدأ الوحدة وغيره من المبادئ كالجماهيرية”. (1)

والواضح أن هذه المبادئ ما هي إلا استنساخ للعمل النقابي الغربي، بدعوى أنها أرقى ما وصل إليه التنظيم النقابي العالمي، دون الالتفات إلى أن هذه المبادئ تعكس في العمق تجربة إنسانية معينة لها خصوصياتها التي تختلف جذريا عن خصوصيات الأمة المغربية بكل مقوماتها الأصلية.

1) العمل النقابي في السلوك الدعوي: القضية والاستراتيجية، مبارك المساوي، مطابع أفريقيا الشرق 2014، ص 43-44.

ورغم ذلك، لم يصمد العمل النقابي أمام هول التحديات الواقعية التي واجهها، اتضح معها أن هذه المبادئ كانت شعارات اللحظة التأسيسية أو تمثلات المؤسسين ليس إلا. فتحولت تلك المبادئ إلى نقيضها، فالاستقلالية تحولت إلى تبعية لطرف ما، وتوارت الديمقراطية أمام البيروقراطية القاتلة والزعامات المتحكمة، وانتكست التقدمية وارتمت في حضن “المخزن الرجعي”، لتفقد النقابات “جماهيريتها” وتتحول إلى نوادٍ نخبوية تظهر في مناسبات “فولكلورية” في فاتح ماي، متخلية عن النضال المجتمعي إلى الاسترزاق في منتديات “الحوار الاجتماعي”.

واقع جعل النقابات تغيب عن الفعل المجتمعي وهوم الشعب المختلفة والكثيرة، مما دفع الشغيلة المغربية تجنح إلى العمل النضالي المستقل عن النقابات الكلاسيكية في إطار تنسيقيات فئوية أو مجالية أو قطاعية قادت معارك بطولة بسقف نضالي عالي وحققت ما عجزت عنه النقابات مجتمعة، ونذكر هنا معركة “الأساتذة المتدربين” التي تحولت إلى معركة “الأستاذة المرسبين” وغيرها من التنسيقيات المختلفة.

• سؤال البديل؟

لا تغيير يرجى من العمل النقابي المغربي على شاكلته الحالية، فلا حقوق سيصون ولا مكاسب سينتزع، ما لم يقدم على مصالحة تاريخية مع أمته التي من المفروض أن تكون النقابة إحدى مؤسساتها المجتمعية تصون هويتها وتدافع عن حقوقها وتحمل تطلعاتها وتجسد آمالها. ثم بعد هذا نتحدث عن ضرورة أن تكون مبادئ العمل النقابي حاملة لرسالة الأمة في الحياة، لا استنساخا لمبادئ حاملة لفلسفات وهويات أخرى، ليعقب هذه المبادئ عمل نقابي وطني بانٍِ للإنسان والعمران، لا عملا صراعيا تقويضيا.

هذا على المستوى الاستراتيجي، أما مرحليا فلا مناص من أن يتصالح العمل النقابي مع مبادئه المعلنة على الأقل، وأن يكون برهان استقلاليته هو انغماسه في قضايا المجتمع لا اصطافا حزبيا متقلبا بتقلب الأوضاع الحزبية، بل استقلال عن التبعية لتوجهات السلطة والدوران في فلكها. وأن يكون حيوية الفعل النضالي وقوته وإبداعه علامة على ديمقراطية العمل النقابي، ويجسد وضوح موقعه وموقفه صميم تقدميته، وأكيد أنه سيستحق بعد ذلك وصف الجماهيرية تجسده نسب التبطيق العالية، ونسب المشاركة في الانتخابات العمالية والحضور القوي في المحطات النضالية التدافعية والتفاف الشغيلة حوله.

هذا وإن العمل الذاتي يبقى مهما ومصيريا في عملية النهوض النقابي، مع استحضار معوقات العامل الموضوعي خاصة رغبة الدولة في احتواء وتدجين وقمع أي تحرك جاد ومسؤول وتحرري، وسيكون صمام الأمان في هذه الحالة هو العمل الجبهوي المستند لقوة “جماهيرية” تسند العمل النقابي الوحدوي ضد بطش الدولة ومكائدها الاحتوائية التمزيقية.

و يبقى السؤال في النهاية هو: هل النقابات المغربية الحالية مستعدة لأخذ زمام المبادرة في عملية تحرير العمل النقابي ليقوم بدوره الطليعي في سياق تحرك مجتمعي متكامل؟ أم إنها حسمت أمرها واختارت الموت الطبيعي في حضن السلطة والبيروقراطية والحزبية، لتترك المهمة لمختلف التمظهرات النضالية البديلة التي تعبر عن نفسها بعنفوان كيبر؟