وجهة نظر

مع مبادرة النقد والتقييم (2 من 4)

ملاحظات نقدية عامة

في المقال الأول حول “مبادرة النقد والتقييم”، أكدنا أنه من الناحية المبدئية تعتبر تلك المبادرة مطلبا مشروعا، وعددنا محاسنها على اعتبار أنها، كمطلب، جزء من ثقافة حزب المصباح التي يستمد منها جزءا عريضا من قوته الذاتية. وأشرنا إلى أن ذلك لا يعني أن تلك المبادرة فوق النقد وهي تطالب بالنقد والتقويم.

وفي هذا الإطار يفرض المنهج التوقف عند مضمون المذكرة التي تقدمت بها “المبادرة” كأرضية،  ثم نتوقف بعد ذلك عند مسألة جدوى عقد مؤتمر استثنائي للقيام بالنقد والتقويم، وننهي مناقشتنا للمبادرة بمقترحات بديلة.

ونظرا لطبيعة كل نقطة من النقاط الثلاثة المشار إليها، وما تتطلبه معالجتها من بعض التوسع، سوف نخصص هذا المقال لمضمون المذكرة، وسنكتفي بتسجيل ملاحظات نقدية عامة وسريعة، دون الخوض في القضايا والانتقادات والملاحظات التي سجلتها المذكرة، لاعتبارات أهمها أن أغلب ما جاء فيها أحكام قيمة ستتطلب مناقشتها حيزا من عدة مقالات، وأغلب تلك القضايا سبق أن ناقشناها في مقالات سابقة إبان النوازل المتعلقة بها.

الملاحظة الأولى:

المذكرة، وهي أقرب من حيث البناء والأسلوب إلى مقال رأي احتجاجي، طغى عليها نفس سلبي غاضب، وهو ما جعلها تفتقد إلى عنصر الموضوعية في التقييم. وأظهرت تجربة الحزب، خاصة في ظل قيادة الدكتور سعد الدين العثماني للحكومة وللحزب، على أنها انتكاسة. وجاءت المذكرة خالية من أي إيجابيات في تلك الفترة، مقابل الاشادة بالفترة قبلها، وتحت قيادة الأستاذ عبد الاله ابن كيران، والتي قدمتها كنموذج مثالي. وهذه المقاربة تسقط عن المذكرة صبغة النقد البناء، وتبعدها بذلك عن وظيفة التقويم. ذلك أن النقد البناء الذي يروم التقويم لا يكون متحاملا، ولا مبالغا، ولا مبخسا، … وهو مناقض لما جاء في توطئتها حين أكدت أنه: “سنحاول أن نبني بشكل جلي وواضح ودقيق، دواعي هذه المذكرة وراهنيتها، ومبرزين مدى ضرورة انعقاد مؤتمر استثنائي، مستندين في ذلك على تحليل وبناء موضوعي ورزين”. وما سنسجله على مضمون المذكرة، وخلاف باقي الوثائق الصادرة عن منظمي المبادرة، ليس فيه لا موضوعية ولا رزانة، وهو بعيد عن منطق التحليل، كما سنبين في باقي الملاحظات.

الملاحظة الثانية:

باستثناء بعض الأسئلة التقييمية المهمة التي طرحتها المذكرة والمتعلقة بتقييم عام لمشاركة الحزب، ومستقبل هذه المشاركة في ظل التحولات التي يعرفها المشهد السياسي، وما يتعلق بالرؤية المستقبلية ووضوحها، وما يتعلق باختيارات الحزب وتجديدها، … فالمذكرة انبنت على سرد عدد هائل من التفاصيل والأحداث المنتقاة والتي تعزز تقييمها السلبي المبخس لتجربة الحزب، ولم تقدم مقاربة نقدية بمفهومها المتعارف عليه، واكتفت بإعادة إثارة مختلف الاتهامات والقاضايا الخلافية التي عاش الحزب على صفيح جدلها الساخن طيلة شهور، قبل انعقاد مؤتمره الثامن الأخير. وهي بذلك لم تفلح في بلورة أرضية مقنعة حتى بجدوى العودة إلى فتح نقاشات حول تلك الأحداث الماضية فكيف بعقد مؤتمر استثنائي لتأطير تلك المناقشة.

الملاحظة الثالثة:

مذكرة المبادرة تدعو إلى فتح نقاش نقدي تقويمي على أساس قضايا لها سمتان أساسيتان تجعلان من مطلب عقد المؤتمر الاستثنائي أمرا مبالغا فيه بشكل كبير. السمة الأولى هي أنها قضايا خلافية تتعلق، ليس بمخالفات لمقتضيات قانونية تطعن في شرعية المؤسسات أو القرارات، بل بالتقدير السياسي للقيادات، والذي يضمنه القانون وتؤطره المؤسسات، ويتم تقييم  مثل تلك التقديرات عبر السير العادي للمؤسسات، أو عبر آليات أخرى مثل آلية الحوار الداخلي الذي قرره المؤتمر الأخير ونظمه الحزب في مختلف المستويات، وتتم مجازات تلك التقديرات الخلافية في الاستحقاقات التنظيمية. السمة الثانية، معظم تلك القضايا مضت كوقائع، ولا يهم منها الحاضر والمستقبل إلا ما أشرنا إليه سابقا وله إطاره الطبيعي للمعالجة وهو المؤتمر الوطني العادي القريب. والعودة إلى تلك القضايا الخلافية الماضية، لن يفيد من الناحية العملية إلا لكتابة تاريخ الحزب.

الملاحظة الثالثة:

الدعوة إلى فتح نقاش حول قضايا خلافية مضت لا يعني موضوعيا سوى الرجوع بالحزب ومناضليه إلى الغرق من جديد في الجدل الذي شهده من قبل، وخلف أضرارا لم تحدثها فيه كل مؤامرات خصومه وأعدائه طيلة أزيد من ثلاثة عقود من الزمن. لتكون المبادرة  بذلك دعوة ليس إلى النقد والتقويم، بل إلى الجدل العقيم. ونقول إنه سيكون جدلا عقيما لأن مختلف القضايا المثارة قضايا خلافية مضت إنبنت على التقدير السياسي، ولا يمكن أبدا تحقيق إجماع ولا حتى توافق حول قراءة موحدة لها. وهو ما أكدته ندوات الحوار الداخلي، الذي بخست المذكرة، مع الأسف، أعماله وجهوده أيضا.

الملاحظة الرابعة:

المذكرة غرقت في تناقضات منهجية كبيرة، فهي في مقدمتها تشهر احترام المؤسسات، كقنوات لتمرير مطلبها، خاصة المجلس الوطني، لكنها في تقييم أعمال مؤسسات الحزب وتقديراتها للأمور تعتمد مقاربة أخرى تعكس أحد أهم أعطاب النقد، وهو الاتهام. ففي فقرة “خلاصات مهمة”، تتحدث المذكرة عن “احتكار القرار الحزبي لدى فئة معينة أغلبها لها ارتباطات بمواقع وزارية أو برلمانية، مما يكون لهذه الارتباطات تأثير على صياغة قرارات ومواقف لا تتماشى مع التوجه الأصلي لحزب العدالة والتنمية”، والتحليل النهائي لهذه الفقرة، من جهة أولى، يفيد بتحكم منطق المنصب، كمغنم أو كإكراهات، في تلك الفئة التي تحتكر القرار، وهذا حكم قيمة فاسد لا يليق إطلاقه ووسم مؤسسات الحزب به، خاصة وأن المذكرة تتحدث في التوطئة على احترام المؤسسات، وهي هنا تجعل تلك المؤسسات رهينة ارتباطات بالمناصب. ومن جهة ثانية، الوزراء والبرلمانيون، إذا أضفنا لهم باقي المنتخبين من رؤساء الجهات والمدن وباقي الجماعات، تشكل موضوعيا فئة لها حضور وازن في للمجلس الوطني للحزب الذي تراهن المبادرة على أن يقرر بشأن مؤتمر استثنائي للنقد والتقييم!

 

الملاحظة الخامسة:

المذكرة غارقة في الخطاب العاطفي، وقد يتفهم ذلك باعتبار المراهنة عليه للتعبئة لفكرة المؤتمر الإستثنائي، لكنه كأسلوب لصياغة المذكرات التي تدعوا إلى الحوار والنقد والتقييم، فهي بعيدة عن الوفاء بشروط ذلك. وذهب هذا الخطاب العاطفي التعبوي حد مصادرة قواعد الحزب والحديث باسمها، وحد الانزلاق إلى “الابتزاز”. ففي توطئة المذكرة يتحدث معدوها باسم أعضاء الحزب والشبيبة دون تنسيب، والواقع أن الأمر يتعلق بأعضاء في الحزب والشبيبة. وفي آخر محور لها، والمعنون بـ”رسالتنا”، تقول المذكرة: “نظن أنه ليس من اللائق التعامل مع قواعد الحزب والشبيبة كأتباع، يكونون تابعين ومقرين بمواقف الحزب واختياراته، ومبررين لتنازلاته، بل ينبغي التعامل معهم كمناضلين لهم استقلالية في الفكر والمواقف، ولا ينبغي بأي حال استصغار عقولهم والاستخفاف بذكائهم وذاكرتهم، ولا ينبغي شيطنة من خالف منهم قرارات القيادة أو تخوينها، ونرى أن هذه المبادرة التي ندعو إليها تمنح فرصة لقيادة الحزب لإثباث العكس، وبأن الحزب لا يخاف من النقد ومن التقييم، ويفتح يديه للجميع”.

والفقرة السابقة نموذج لطبيعة الخطاب الذي تغرق فيه المذكرة، وهي، إضافة إلى نزعتها العاطفية التعبوية، فهي لم تنج من نفس ابتزازي، حين وضعت مؤسسات الحزب وقياداته بين خيارين إما أنها تقبل بالمبادرة أو أنها ستتهم بأنها تعامل القواعد كأتباع، ومبررين، وتستصغر عقولهم، وتشيطنهم، وتخونهم، و … وتعتبر المبادرة نفسها “فرصة لقيادة الحزب لإثبات العكس”!

الملاحظة السادسة:

تطرح المذكرة مجموعة من المبادئ تطالب أن يعامل بها الواقفون خلف المبادرة(الفقرة السابقة)، في حين أن المذكرة نفسها لم تحترم تلك المبادئ في حق المؤسسات والقيادات. فوقوعها في خطاب إصدار أحكام القيمة جعلها تنزلق إلى مجموعة من الأخطاء التي تتناقض و القيم المرجعية في الحزب وأخلاقيات العمل السياسي والحزبي. فنجد في المذكرة أحكام قيمة سلبية واتهامية بعظها خطير، سنوردها مع أرقام الصفحات التي وردت فيها دون حاجة إلى تعليق: (ص5: هذه الحكومة التي تمثل إرادة السلطوية والتحكم ولا تمثل بتاتا إرادة الناخبين)، ( ص 8: استغلال محطة الحوار الداخلي لإيهام المناضلين بكون اختيارات القيادة كانت لحماية الأعضاء)، (ص 8: استقالة رئيس أكبر فريق برلماني لم تحرك ساكنا في صفوف الحزب قيادات كانوا أو قواعد)، (ص8: إضعاف الشبيبة واحتوائها، وفقدانها لقوتها واستقلاليتها وجرأتها)، (ص 10: التصريحات المخزية للرميد)، ( ص 10: القيادة الحالية للحزب جد متحسسة من كل ما يتعلق بتدبير العلاقة مع بنكيران)، ( ص 11: خضوع قيادات الحزب الحالية في الحكومة لمنطق التعليمات الفوقية)، ( ص 12: العثماني أبان عن حاجته للجمع بين موقع الأمين العام وموقع رئيس الحكومة، إلا أنه يظهر أن رغبته تلك كانت في سبيل تفادي التشويش على الحكومة فقط)، ( ص 13: تمرير القانون الإطار من طرف العدالة والتنمية فيه دلالة بليغة أن قيادة هذا الحزب لم تعد تتمايز عن غيرها من قيادات بقية الأحزاب سوى أنها لا تنهب المال العام، في حين تتنصل للمبادئ التي قامت عليها الحركة التي ولدت من رحمها هذه القيادات)، (ص 13: الحزب لم يعد يجعل حدودا لتنازلاته)، ( عنوان في ص 15: منطق التبرير منطق المنهزمين)، ( ص 15: أين هي مصلحة الوطن في التواطؤ لتمرير القانون الإطار؟)، ( من بين التبريرات التي سردت في نفس الصفحة 15 تتحدث عن الانبطاح)، ( ص 16: أصبحنا نرى قيادة الحزب تلج أي باب فتح أمامها دون أن تطرح أسلة التقييم والرهانات والآفاق المرجوة من هذا الاختيار، وتكتفي فقط بالتبريرات)… وهذه اللغة التي تتوسل بها المذكرة لفتح ورش نقد وتقييم ماض يعج بالاختلاف في التقدير السياسي، يتجاوز مجرد عدم الاقناع بجدوى النقاش إلى الخوف منه.

الملاحظة السابعة:

المذكرة تعاني من ضعف الدقة في مجموعة من القضايا، نذكر منها على سبيل المثال:

الأولى، عدم الدقة في نقل مدلول المادة 24 من النظام الأساسي للحزب الذي تستند عليها المبادرة، حيث زعمت المذكرة أن تلك المادة تعطي الصلاحية للمجلس الوطني للدعوة إلى عقد المؤتمر الاستثنائي بعد موافقة ثلثي أعضائه، في حين أن نص المادة يقول “يعقد المؤتمر الوطني بصفة عادية مرة كل أربع سنوات وبصفة استثنائية بقرار من المجلس الوطني أو بقرار من الأمانة العامة بأغلبية ثلثي أعضائها”، فاشتراط الثلثين هو في أعضاء الأمانة العامة للحزب وليس للمجلس الوطني. وهذا الخطأ نجده أيضا في بلاغات المبادرة ومختلف المضامين التي تطرقت فيها إلى تلك المادة، وقد أخذته عن أدبيات المبادرة في النسخة الأولى من المقال الأول قبل أن أعدله بعد الرجوع إلى النظام الأساسي للحزب بفضل تنبيه بعض الإخوة.

الثاني، حين تطرقها لندوات الحوار الداخلي زعمت المذكرة أنها “لم تتطرق أو تجب على أي من الخلافات التي نتجت عن مرحلة ما بعد البلوكاج”، وتضيف في الصفحة 6 أن الحوار الداخلي “بقي في العموم حوارا حول قضايا غير خلافية، أو افتعالا لأسئلة لم تطرح أصلا، كالمرجعية الاسلامية …”. ونقلت المذكرة في نفس الصفحة  أن “البعض يتساءل عن سبب إقصاء بنكيران عن الحوار ما دام طرفا أساسيا في الأزمة” …. بل في الصفحة 5 تحدثت عن الحوار الداخلي وكأنه قرار للقيادة تفاعلت من خلاله مع الغضب والحنق الداخلي.

وهذا كله غير صحيح، فتنظيم الحوار الداخلي تنفيذ لقرار المؤتمر والمجلس الوطني، وكل القضايا الخلافية وغير الخلافية أثيرت في مختلف محطات الحوار الداخلي. كما أن الأستاذ ابن كيران لم يقصه أحد ولا يستطيع أحد إقصاءه. وكما جاء في المذكرة نفسها فالأستاذ ابن كيران “كان طرفا أساسيا في الأزمة”، لكنه قدر هو بإرادته الحرة أن لا يشارك في محطات ذلك الحوار الذي قرره مؤتمر الحزب. فهل كان تبخيس مخرجات الحوار الداخلي وتقديمه على أنه كان أداة تبريرية في يد القيادة، ضروريا لتبرير الدعوة إلى تكرار جهوده في معالجة قضايا تمت معالجتها خلاله؟

الثالث، حين تحدثت المذكرة عن البلوكاج وعدم انتخاب الأستاذ ابن كيران لولاية ثالثة، فهي اعتبرت ذلك أخطاء ارتكبتها قيادات الحزب! وجاء في المذكرة: “…فحدث البلوكاج، وتلتها أخطاء سياسية قاتلة اتخذتها قيادة الحزب في تدبير مرحلة البلوكاج ومابعدها، وكان أبرز هذه الأخطاء، إبعاد رجل من طينة بنكيران عن قيادة الحزب، بل ومحاصرته وإلزامه الصمت، …” ! وهذا تحريف فج للتاريخ، فقد وقع اختلاف قانوني في أحقية الأستاذ ابن كيران في ولاية ثالثة كأمين عام للحزب، وحسم المجلس الوطني الأمر. وهذا يعني أن الأمر لا يتعلق بقرار من قيادات الحزب بل بقرار من برلمان الحزب. أما الحديث عن محاصرة الأستاذ ابن كيران وإلزامه الصمت، فهو افتراء يشهد العالم أنه باطل، فالأستاذ ابن كيران لا يحاصر أبدا، واستمر في التعبير عن مواقفه بكل الوسائل والمناسبات التي اختارها هو لنفسه. وإذا اختار هو “الصمت” فهل تسعى المذكرة إلى إلزامه بالكلام؟ …

الملاحظة الثامنة:

في قضايا الهوية، توقفت المذكرة كثيرا عن قضية القانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، وتحدثت بلغة احتجاجية هي أقرب من لغة البيانات منها إلى لغة المذكرات. ومن طريف المبالغات أن المذكرة تتحدث دون تحفظ عن “التخلي عن اللغة العربية” بهذا التعميم، في حين أن وضع اللغة العربية تعزز بشكل أكبر، وأن الخلاف كان في التناوب اللغوي، وهذا من حيث المبدأ كان أحد مكونات البرنامج الانتخابي لسنة 2016 الذي أعطى الفوز للحزب بقيادة الأستاذ ابن كيران. وجاء في المذكرة: “في حين أن التخلي عن اللغة العربية، يعد ضربا في صميم هوية الحزب الوطنية، فمعركة اللغة هي معركة مصيرية لا تقبل أنصاف الحلول، أو الحلول التلفيقية والتبريرات الواهية، هي مسألة وجود، ومسألة حياة أو موت، هي مسألة وفاء لسيادة الدولة المغربية، ووفاء للدماء التي أسيلت في سبيل تحرر هذا الوطن من قبضة الاستعمار، هي وفاء للمرتكزات الكبرى التي أسست عليه دولتنا المغربية، ذات التاريخ العريق، وذات الحضارة المتجذرة”، وجاء في المذكرة أيضا أن “أبرز نكسة من نكسات حزب العدالة والتنمية، هو يوم تخليه عن هويته الوطنية والنضالية، هي حين  قام بتمرير القانون اإلطار للتعليم.” وبغض النظر عن المبالغات التي ينطوي عليها مثل هذا الكلام، والذي انتقدنا مثله في حينه، فالغريب الصادم في المذكرة التي تروم النقد والتقييم وتتحدث عن الموضوعية أنها سكتت عن إحدى أكبر التنازلات التي قدمها الحزب في قضايا الهوية، وكان ذلك سنة 2015 تحت قيادة الأستاذ ابن كيران، وجاءت مناقضة لخطاب الحزب ومرجعيته الدينية ونضالات أغلب المغاربة في حماية الأسرة والانتصار للقيم الدينية، ويتعلق الأمر بالمصادقة بالإجماع على البروتوكول الاختياري لاتفاقية سيداو (المادة 13 منه بالخصوص)، والذي تولى الأستاذ ابن كيران نفسه كبر تحقيق الإجماع حوله، بل وحاسب أحد برلمانيي الحزب لأنه صوت ضد البروتوكول في اللجنة المختصة، وكتبت حينها في انتقاد موقف الحزب من منطلق مرجعيته وتاريخه وشعاراته عدة مقالات. ولا ندري ما موقف معدي المذكرة من هذا الأمر؟ وما هو الأخطر على الهوية والقيم اللغة أم التمكين لقيم اتفاقية سيداو التي تعد أكبر اتفاقية أممية عارضها المسلمون عبر العالم وشكلت أكثر الاتفاقيات حساسية بالنسبة للدول، وتزعم الحزب وحركة التوحيد والاصلاح أكبر مسيرة عرفها المغرب ضد تنزيل بعض بنود تلك الاتفاقية من طرف حكومة الراحل اليوسفي رحمه الله. فلماذا سكتت المذكرة عن هذا الأمر وهي تستعرض أهم تنازلات الحزب؟ هل لأن الأستاذ ابن كيران كان الفاعل الرئيسي في قيادة الإجماع داخل الحزب حول تمرير البروتوكول؟ أم أن قضايا الأسرة والدين أهون من قضايا اللغة؟

الملاحظة التاسعة:

انزلاق المذكرة إلى التشكيك ليس فقط في مدى خوض الحزب في الأوراش الإصلاحية، بل تجاوزته إلى التشكيك في مدى وجود مصلحة الوطن في الخلفيات التي تحكم قراراته! وهذا من نتائج العاطفة والحماسة غير المتبصرة التي حكمت المذكرة التي تقول بهذا الصدد: “أمام كل هذه الصدمات والنكسات، يراد الترويج على أننا لا زلنا نخوض أوراشا إصالحية، وأن قراراتنا اتخذت من أ جل مصلحة الوطن”، وأتبعت ذلك بعدد من الأسئلة التي تعزز ذلك التشكيك تتهم من خلالها الحزب بالصمت على التجاوزات الحقوقية، وأمام عرقلة عمل المنتخبين، وإزاء اعتقال الصحافيين، وعدم استكمال أوراش المقاصة والتقاعد، بل والاتهام بالتحالف مع من يعرقلون قانون الإثراء غير المشروع، وبالتواطؤ لتمرير القانون الإطار!

الملاحظة العاشرة:

الخلل الكبير في المقاربة التي حكمت المذكرة هي في التعامل مع الحزب كما لو أنه “العصى السحرية” التي ستصلح ما أفسدته السلطوية وأحزابها خلال عدة عقود من الزمن، سواء بإضعاف المشهد الحزبي، والمجتمع المدني، والاعلام، أو في التمكين لمنطق الريع في المجال الاقتصادي ومنطق التفقير في المجالات الاجتماعية والثقافية. ومقاربة “الحزب السحري” هي ما يفسر كون المذكرة تحمل الحزب، بطريقة قاسية ومبالغة، مسؤولية معانة الوطن بناء على ما أسمته “الشرعية الانتخابية” وقيادة الحكومة، فتحمله مسؤولية كل شيء، إلى درجة أنه تحاسبه على ما انتقدته في مجال القضاء، وطرحت عدة أسئلة من قبيل: “كيف لحزب يترأس الحكومة للمرة الثانية ان يقبل بأن يتم إقحام القضاء لتصفية حسابات سياسية؟ لماذا لم يقم الحزب بالدعوة والعمل على جعل القضاء سلطة مستقلة تنأى عن التوظيف السياسي؟ وانتقدت ما أسمته “منطق تعاطي الحزب مع معضلة استخدام المتابعات القضائية لإسكات وإخضاع الأقلام الحرة”. بل وتحمله مسؤولية “إيقاف مسلسل إصلاح القضاء عبر التخلي عن استوزار مصطفى الرميد على رأس وزارة العدل ” والذي تقدمه على أنه “مهندس هذا الورش الهام”! ونفس الشيء في قضايا أخرى. وبنفس المنطق تحمل قيادة الحزب الحالية مسؤولية كل ما تزعم أن الحزب يعيشه من ضعف واختلالات. وكنتيجة لهذه المقاربة تقدم “مبادرة النقد والتقييم” نفسها على أنها “الحل”، ليس فقط لما تراه من ضعف في الحزب بل للوطن أيضا.

وتضخم “أنا” المذكرة يخترقها من توطئتها إلى آخر فقرة فيها. فهي تعتبر نفسها فرصة الإنقاد بالنسبة للحزب، وجاء في توطئها: ” ارتأينا (نحن أعضاء الحزب والشبيبة) أن الوقت قد حان لنسهم ولنتفاعل بشكل إيجابي مع ما يمر به حزبنا ووطنا من لحظات عصيبة، ونتقدم بهذه المبادرة التي اختارنا لها اسم “مبادرة النقد والتقييم”، لعلها تكون فاتحة خير على الحزب والوطن، ومجنبة السوء عنهما في القادم من الأيام”. وترى في عقد المؤتمر الاستثنائي للحزب للنقد والتقييم أنه الحل الذي لا حل بعده، “باعتبار المؤتمر الاستثنائي المحطة التنظيمية الكفيلة بإخراج الحزب من حالة التخبط التي يعرفها في هذه المرحلة الحرجة” !بل وتشعرك المذكرة، وبلغة فيها نفس تهديدي أن ” أي تأخير في طرح هذه الأسئلة سيضاعف من خطر التآكل الداخلي للبنية التنظيمية للحزب والشبيبة، وسنكون أمام موجة جديدة من الاستقالات أو تجميد عضوية المنتقدين وإضعاف حماس الانخراط في الحياة السياسية تحت يافطة العدالة والتنمية”! ولا ندري لماذا عمدت المذكرة إلى تجاهل الحديث عن المؤتمر العادي القادم (التاسع) والذي لا تفصلنا عنه سوى سنة تقريبا (دجنبر 2021)، والذي له صلاحيات تتجاوز مجرد طرح الأسئلة وطرح جميع القضايا ونقد وتقييم تجربة الحزب، إلى اتخاد القرارات المتعلقة بمراجعة وتعديل قوانينه وبرنامجه العام وكل شيء يراه مناسبا بما فيه اختيار قياداة جديدة. ولنا عودة إلى هذه النقطة لاحقا. فهل إذا انتظر الحزب لسنة واحدة كي ينعقد مؤتمره العادي سوف تقع كل الكوارث التي تصورتها المذكرة سواء بالنسبة للحزب أو الوطن؟

الملاحظة الأخيرة:

جاء مضمون المذكرة وخطابها وترويجها إعلاميا، مناقضا لمتطلبات المرحلة وحساسيتها. فالقائمون على إعداد المذكرة  لم يستحضروا الظرفية وخصوصياتها، والذي كان بإمكانه أن يلطف لغتها العاطفية السلبية، ويجنبها الوقوع في أحكام القيمة والاتهامات، وأن يجنبها لغة التبخيس غير الواقعية في تقييم عمل الحكومة والحزب معا.  فالمذكرة، ودون استحضار تأثيرات ذلك على الحزب الذي تراهن على تقويته، زكت الخطاب التبخيسي السائد اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الإعلام، والذي يراهن عليه خصوم الحزب من أجل إضعافه ومحاصرته، بل ومن أجل تعزيز الضغوطات الابتزازية ضده في ملف الانتخابات.

إن من أغرب ما جاء في المذكرة قول معديها ” نحن لم تعد تهمنا الانتخابات أمام ما يقع لحزبنا ولوطننا”، ففي الوقت الذي تستهين فيه المذكرة بالانتخابات وتدعوا إلى انشغال الحزب ومناضليه بقضايا خلافية ماضية، وإلى تنظيم مؤتمر استثنائي للنقد والتقييم على مدى غير بعيد عن مؤتمر الحزب العادي الذي لا يمكن حلول ذلك المؤتمر الاستثنائي مكانه، تعمل القوى المناهضة للحزب على محاصرته وإضعافه انتخابيا بكل الوسائل والمؤامرات.

وبالنظر إلى حساسية المرحلة وخصوصيتها كمرحلة انتخابية بامتياز يتعرض فيها الحزب لأكبر مؤامرة تحاول إضعافه، وكخلاصة الملاحظات النقدية لمضمونها، فإن “القيمة المضافة” للمذكرة، بعد ترويج مضامينها إعلاميا، تصب موضوعيا في حساب خصوم الحزب. وإن النتيجة المتوقعة من تداعيات دعوة المبادرة داخل الحزب ليست أكثر من إضعافه في الوقت الذي يحتاج فيها إلى تعبئة صفه الداخلي استعدادا لدخول انتخابات أراد خصومه أن تكون انقلابا على الديموقراطية التي تراهن مذكرة المبادرة على أن يلعب الحزب دورا في حماية مكتسباتها وتعزيزها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *