وجهة نظر

ترامب و بوتين وجهان لعملة واحدة

ضرورة التخلص من الاستعمار الثقافي والفكري.. ؟؟

كتب المفكر العراقي اللواء الركن محمود شيت خطاب، في مجلة “المسلمون عدد 46 المجلد التاسع” الصادرة عن المركز الاسلامي بجنيف، منذ أزيد من نصف قرن، مقالا غاية في الأهمية بعنوان ” الاستعمار الفكري ..”، ذكر فيه أن الاستعمار الفكري هو البلية الكبرى التي بليت بها شعوب العالم الإسلامي، محذرا بقوله ان “الاستعمار شر كله، ما في ذلك من شك، ولكن أشد أنواع الاستعمار خطرًا هو الاستعمار الفكري. وإذا كان أمر معالجة الاستعمار العسكري يقع على القادة العسكريين بالدرجة الأولى…وإذا كان أمر معالجة الاستعمار السياسي يقع على عاتق القادة السياسيين بالدرجة الأولى…فإن أمر معالجة الاستعمار الفكري يقع على عاتق قادة الفكر بالدرجة الأولى”…”والذي نلاحظه أن كثيرًا من بلاد العرب وأقطار المسلمين قد تخلصت نهائيًا من الاستعمار العسكري والسياسي والاقتصادي، ولكنها لم تتخلص مطلقًا من الاستعمار الفكري، فهي لا تزال ترزح تحت وطأته حتى اليوم…”، طبعا بالنسبة للاستعمار الاقتصادي، لا نوافقه عليه و بدراجات متفاوتة، فتسيير خيراتنا يتم بصفقات وهمية في ظلام دامس ، لا يشعر به الشعب، إلا لما ” يطير الحمام” كما يقول المثل.

وبالتالي إذا كان المرء أمينًا على مصائر قومه وأبناء دينه، وإذا كان مخلصًا لأمته وعقيدته، فلن يستطيع مطلقًا أن يتباهى بانطلاق بلاده من ربقة الاستعمار السياسي والعسكري والاقتصادي -على الرغم من أهمية ذلك- إذا بقيت بلاده تعاني من ربقة الاستعمار الفكري. لأن الاستعمار الفكري إذا بقي في أمة، سهل على كل أنواع الاستعمار أن يعود بيسر وسهولة إلى تلك الأمة، ذلك لأن الاستعمار الفكري هو الأصل وكل ما عداه فروع، على حد قول اللواء المفكر محمود شيت خطاب. وما تنبؤات الجنرال الفرنسي ديغول بعودة فرنسا لمستعمراتها بعد استقلال أعرج دام أزيد من نصف قرن، لدول المغرب العربي، عن المبصرين ببعيد.

حمل رسالة الإسلام الخالدة نوعان من القادة، قادة الفتح وقادة الفكر

يضرب اللواء الركن محمود شيت خطاب، أمثلة – في مقاله هذا- من تاريخنا الحافل بقوله “لقد حمل رسالة الإسلام الخالدة إلى العالم في أيام الفتح الإسلامي العظيم نوعان من القادة: “قادة الفتح، وقادة الفكر. وكان قادة الفتح يعدلون ولا يظلمون، ويفون ولا يغدرون، ويجمعون ولا يفرقون، ويوحدون ولا يشتتون، لذلك اطمأنت الأمم إلى حكمهم لأنه أنقذهم من الظلم والبغي والعدوان… وكان قادة الفتح قادة الفكر يبشرون بعقيدة سمحاء، ويترجمون نظرياتها عمليًا على أنفسهم، فكانوا التطبيق العملي لنظريات الإسلام حية تمشي على الأرض بأعمالهم.. فكرة وتضحية وجهادًا وفداء”… وانقضت أيام الفتح بعد أن امتدت دولة الإسلام من الصين شرقًا إلى أعماق أوروبا غربًا إلى سيبيريا شمالًا إلى المحيط الهندي جنوبًا.

وحتى مع انحسار مد الفتح الإسلامي، القوة لن تدوم أبدًا، الفكر هو الذي يدوم..

و يعلل اللواء الركن محمود شيت خطاب ذلك بأدلة تاريخية منطقية قائلا “وانحسر مد الفتح الإسلامي بعد أن بلغ نهايته وحقق أهدافه، ولكن مد الفتح الفكري الإسلامي بقي طاغيًا حتى بعد ضعف المسلمين، لأن المسلمين الأولين على الرغم من انهيارهم عسكريًا، كانوا يعتدّون بعقيدتهم ويؤمنون بأنها عقيدة بناءة لا تدانيها ولا تقاربها عقيدة أخرى”.. “وقوة السيف قد تطفئ فترة، ولكن قوة العقيدة أقوى من كل قوة وأبقى على هذا الزمن من كل سلطان”… ومضى عهد الاستعمار القديم، وجاء عهد الاستعمار الجديد.. “آمن فيها الاستعمار الجديد، أن القوة لن تدوم أبدًا، وأن الفكر هو الذي يدوم.. فكان وراء جيوشه المحاربة جيوش من نوع آخر: من المبشرين بالعقيدة غربية أو شرقية يبشرون بها ويدعون إليها ويغرسون في عقول الأمم المغلوبة تقاليدها وعاداتها”. ودار الزمن دورته، فإذا بالمسلمين يتعشقون أساليب أعدائهم الحياتية والفكرية: يأكلون كما يأكلون، ويلبسون كما يلبسون، ويفكرون كما يفكرون، ويتصرفون كما يتصرفون!!

دونالد ترامب، ما أشبه اليوم بالبارحة

و مع مجيء الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب وبدأ حملته المسعورة على المسلمين، حيث حرق اتباعه يوم أمس المعهد الإسلامي بتكساس، وهو ما كتبه بطريقته اللواء محمود شيت خطاب منذ نصف قرن، حقيقة مرة نتجرعها، كما يحظر الرئيس الأمريكي الجديد نفسه للتربع على عروشنا بطرق أكثر استهتارا و ازدراء، بإصدار قوانين تبدو لبعض المغفلين مثلي نزوات مجنونة عابرة، وإذ بقراره الأخير ينص على أنه اعتبارا من تاريخ توقيعه يمنع دخول الولايات المتحدة رعايا الدول الإسلامية السبع الآتية: العراق وإيران وليبيا والصومال والسودان وسوريا واليمن، على أن يستثنى من بين هؤلاء حملة التأشيرات الدبلوماسية والرسمية الذين يعملون لدى مؤسسات دولية، و من بين ” المستعمرات السبع” أنفة الذكر، إيران وحدها ردت عليه بموقف مماثل للرعايا الأمريكان، حفاظا منها على ماء الوجه، أما بقية الدول أطمرت رؤوسها جبنا في كثبان صحراءنا المترامية الأطراف، مخافة أن يدرك الطوفان حكامها، المستلبين حضاريا و تراثيا و ثقافيا ، كأنها مستعمرات تابعة له، تتصرف فيها أمريكا ومصالح غربية، لا يستطيعون حتى “نش الذبان عن أنوفهم” كما يقول المثل الشعبي، هذا من جهة.

الدب الأبيض، يفصل دستورا لسوريا ” المستقلة” على مقاسه

ومن جهة ثانية وفي نفس الوقت قدمت روسيا، الدب الأبيض “الحكيم” في نظر بعض ” حكامنا”، قدمت مسودة لمشروع دستور جديد لسوريا “المستقلة” خلال مفاوضات أستانا التي عُقدت يومي 23 و24 يناير الجاري. وبدأ الكشف عن تفاصيل الدستور الذي يتألف من 85 مادة، طبعا وفق مبدأ “علمني و أنا سيدك”، وبتعبير أدق” شعوبنا تنتحب وتنتخب وقوى الغرب تشرع لنا على مقاسها، و نحن صم بكم عمي !.. أهم ما في الدستور المقترح “تحديد شكل الحكم في سوريا، وتوسعة الصلاحيات الممنوحة لمجلس الشعب؟!..

كما ينص على إزالة العبارات التي تشير إلى عربية سوريا، بحيث يتحول اسمها إلى “الجمهورية السورية” بدلاً من “الجمهورية العربية السورية”، على أن يكون نظام الحكم فيها جمهورياً..؟! كما تنص المادة الثانية على أن “يكون في سوريا شعبها المتعدد القوميات والطوائف مصدراً وحيداً لسلطة الدولة”.. على من تقرأ زبورك يا داود!.. فيما تشير المادة الثالثة إلى أن “يتم في سوريا احترام الأديان والمنظمات الدينية كافة، وتأمين حرية تأدية المناسك الدينية كافة التي لا تخل بالنظام العام، وأن المنظمات الدينية متساوية أمام القانون” ، كما تنص المسودة على أن “تستخدم أجهزة الحكم الذاتي الثقافي الكردي ومنظماته اللغتين العربية والكردية كلغتين متساويتين” !..

هذا حالنا وحال حكامنا، الذين نصبهم الاستعمار، يتحكم في رقابنا ويفصل دساتيرنا و ثوابتنا على مزاحه بل ويفصلها كما يحلو له رغم أنفنا، وبالشكل الذي يريدنا أن نكون عليه ؟!.. لماذا كل هذا .. لأن حكام العرب، عبارة عن “عرائس قراقوس” مرتزقة ونحن قطيع من الماشية.. مصيبتنا أن حكامنا ونخبنا وقادتنا عسكريون و مدنيون يعيشون لذواتهم، كالبهائم الرتع وليس لهم أدنى مبادئ النخوة، ورحم الله سيد قطب، الذي يجب أن نقرأ له هذه النفحات الربانية العجيبة، خاصة في مثل أيامنا التعيسة هذه، و نتعلم منه كيف نعيش لأفكارنا و ثوبنا و شعوبنا و مبادئنا رغم الداء و الأعداء..

عندما نعيش لثورة ويعيش حكامنا “لثروة”

يعجبني في هذا المقام مقال مهم للسيد قطب بعنوان “عندما نعيش لفكرة”، حيث كتب رحمه الله رسالة لأخته، يقول لها فيها خاصة:”عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود!..أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض.. إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة، نربحها حقيقة لا وهمًا…” فتصور الحياة على هذا النحو يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا، وليست الحياة بعدّ السنين، ولكنها بعدد المشاعر، وما يسميه (الواقعيون) في هذه الحالة (وهمًا)، هو في (الواقع): (حقيقة)، أصح من كل حقائقهم.. لأن الحياة ليست شيئًا آخر غير شعور الإنسان بالحياة.. جرد أي إنسان من الشعور بحياته، تجرده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي.. ومتى أحس الإنسان شعورًا مضاعفًا بحياته، فقد عاش حياة مضاعفة فعلًا.
ثم يضيف قائلا:” يبدو لي أن المسألة من البداهة بحيث لا تحتاج إلى جدال.. إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة، حينما نعيش للآخرين، لشعوبنا، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين، نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية..”

إننا لن نكون في حاجة إلى أن نتملق الآخرين لأننا سنكون يومئذ صادقين مخلصين

ثم يقول بجزم و يقين لا يداخلهما شك، رحمه الله “عندما تنمو في نفوسنا بذور الحب والعطف والخير نعفي أنفسنا من أعباء ومشقات كثيرة، إننا لن نكون في حاجة إلى أن نتملق الآخرين لأننا سنكون يومئذ صادقين مخلصين إذ نزجي إليهم الثناء، إننا سنكشف في نفوسهم عن كنوز من الخير وسنجد لهم مزايا طيبة نثني عليها حين نثني ونحن صادقون، ولن يعدم إنسان ناحية خيرة أو مزية حسنة تؤهله لكلمة طيبة.. ولكننا لا نطّلع عليها ولا نراها إلا حين تنمو في نفوسنا بذرة الحب لشعوبنا”.

هذا هو طعم العيش الحقيقي، و هذا أسمى المعاني للعيش في راحة بال، العيش للمبادئ و الأفكار، لا عيش المذلة والاستصغار، وهذه المعاني العالية كتب فيها العديد من قمم رجال الفكر المتحررين وليس بعض العبيد علماء السلطان الذين يخدرون الشعوب على مر العصور، ويعجبني في هذا المقام قول د. أحمد خيري العمري الذي كتب أخيرا، يقول:”لو أن مالك بن نبي ومصطفى محمود وسيد قطب تعلموا في مؤسسات ما يُعرَف بالعلم الشرعي .. لما كان هناك “شروط النهضة”، ولا “العلم والإيمان”، ولا ” في الظلال”.. الحمد له، مستحق الحمد”.

” أركان الطغيان”: بني الطغيان على خمس
كما تعجبني في هذا المقام، قصيدة للشاعر المصري عبد الرحمن يوسف، يصف فيها بدقة متناهية وبليغة حال حكامنا العرب اليوم، يقول فيها تحت عنوان ” أركان الطغيان”:
بني الطغيان على خمس *** تقديم الذنب على الرأس
تخدير الحاضر بالأمس *** توزيع الخوف مع اليأس
تقديس الشرطة والعس *** وبقاء الجحش على الكرس

كما يعجبني في هذا المقام وصف شاعر العصر أحمد مطر لبعض دراويشنا ومتصدري الفتوى من حكام السلاطين، بقوله:
قال لنا أعمى العميان .. تسعة أعشار الإيمان .. في طاعة أمر السلطان .. حتى لو صلى سكران
حتى لو ركب الغلمان .. حتى لو أجرم أو خان .. حتى لو باع الأوطان أنا حيران …
فإذا كان فرعون حبيب الرحمن.. والجنة في يد هامان .. والإيمان من الشيطان ..فلماذا نزل القرآن ؟؟

مخطئون، الذين يظنون أن التخلص من الاستعمار معناهما التحرر الجغرافي فقط

يقول اللواء الركن محمود شيت خطاب، في مقاله أنف الذكو ” إن الذين يظنون أن التخلص من الاستعمار السياسي والاستعمار الاقتصادي معناهما التحرر والانعتاق من الاستعمار كله مخطئون كل الخطأ أو مغرضون كل الغرض أو جاهلون بحقائق الظروف والأحوال”..”كيف يمكن أن نصدق من يدعي أنه طرد جيوش الاستعمار وحرر بلاده اقتصاديًا من ربقته، وهو في نفس الوقت يعتمد في مدارسه على منابع الثقافة الأجنبية غربية كانت أم شرقية، ومدارسه هذه من منابع ثقافة آبائه وعقيدة أجداده خواء؟!”..”كيف نثق بمن يدَّعي التحرر والانطلاق، وهو يستورد المبادئ الدخيلة الوافدة من الشرق أو الغرب؟!”

هيهات… هيهات… إن الطريق واضحة للسائرين، فقد قطعت البلاد العربية والإسلامية شوطًا بعيدًا بطرد الاستعمار السياسي والاقتصادي من بلادها. أصبح اليوم من أهم واجبات المسلمين عربًا وغيرهم، أن يعملوا على طرد الاستعمار الثقافي من عقولهم.
والاستعمار الفكري أخطر بكثير من كل استعمار آخر كما هو معلوم. وحينذاك ستشيد صروح الحرية والانطلاق في بلاد العرب وديار الإسلام على أسس سليمة، وإلا فستبقى تلك الحرية وذلك الانطلاق مشيدة البنيان على جرف هار.. “وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ”.