وجهة نظر

مصحات مفترسة !

مرة أخرى تأبى بعض المصحات الخاصة في المدن المغربية الكبرى إلا أن تميط اللثام عن الوجه البشع لأصحابها، الذين يحرصون على أن لا يدعوا أي فرصة تمر دون اغتنامها، مكشرين عن أنيابهم لامتصاص ما تبقى من دماء المواطنين، ممن تضطرهم ظروفهم الصحية إلى زيارتها بحثا عن العلاج، ولاسيما خلال هذا الظرف الاستثنائي العسير الذي تجتازه بلادنا وبلدان العالم أجمع، بفعل تفشي فيروس كورونا المستجد أو “كوفيد -19″، الذي أرهق العالم وما انفك يزهق مئات الآلاف من الأرواح في مختلف بقاع الأرض وأصقاعها.

ذلك أنه في خضم هذه الأزمة “الكورونية” الخانقة وغير المسبوقة، وما خلفته من تداعيات اقتصادية واجتماعية ونفسية، وفي ظل تزايد أعداد الإصابات المؤكدة والحالات الحرجة والوفيات، وأمام اكتظاظ المراكز الاستشفائية والمستشفيات العمومية، التي أضحت غير قادرة على استيعاب المزيد من “الكوفيديين”، ازدهرت سوق المصحات الخاصة بشكل لافت ومستفز، حيث تراجع الاهتمام بما بات يعرفه المنحنى الوبائي من ارتفاع، ولم يعد هناك من حدث يسترعي انتباه الناس في البيوت والشارع ومقرات العمل وعبر منصات التواصل الاجتماعي أكثر من الحديث عما وصلت إليه هذه المصحات من جشع، سعيا إلى مضاعفة أرباح أصحابها على حساب المرضى وعائلاتهم.

فعلى عكس ما أبان عنه المغاربة من تكافل وتضامن في المراحل الأولى من اندلاع الأزمة، وفرض السلطات العمومية حزمة من الإجراءات الاحترازية والوقائية للحد من تفشي العدوى بين المواطنات والمواطنين والحفاظ على سلامتهم الصحية، ومن ضمنها فرض الحجر الصحي الشامل والإعلان عن حالة الطوارئ، سارعت في الأسابيع الأخيرة مصحات من القطاع الخاص ولاسيما في مدينة الدار البيضاء التي بات تعرف وضعا وبائيا مقلقا إلى مضاعفة تكاليف علاج ضحايا الوباء الفتاك، بنسبة مئوية يقال أنها فاقت 300 في المائة. وهو ما أثار جدلا واسعا في وسائل الإعلام وجعل الكثير من رواد الفضاء الأزرق يتداولون على نطاق واسع مقاطع فيديو توثق بالصورة والصوت، تلك المساومات الرخيصة والممارسات الرعناء في التعامل مع ضحايا الفيروس اللعين. فأي “إجرام” أخطر من مطالبة عائلات المرضى بتسبيقات خيالية ما بين ستة وعشرة ملايين سنتيم للشخص الواحد، ناهيكم عن سعر الليلة الواحدة الذي يتحدد في ما بين 14 و15 ألف درهم، دون احتساب باقي الخدمات بالنسبة لمن يعانون من أمراض أخرى مزمنة…

وفي الوقت الذي تكاثرت فيه الشكاوى وتعالت أصوات الاحتجاج والتنديد بالتجاوزات الخطيرة لبعض هذه المصحات التي لا تراعي الظروف النفسية والصحية للمرضى من كبار السن والذين يعانون من أمراض مزمنة، ولا تتردد في نفخ فواتير العلاج بأشياء من وحي خيال إدراتها وأرقام صادمة، مما أجبر الكثير من الأسر أمام ضيق ذات اليد وعدم وجود أسرة شاغرة لمرضاها بالمستشفيات العمومية، على العودة إلى بيوتها والاكتفاء باتباع البروتكول العلاجي هناك كيفما اتفق إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، كان لا بد أن تتحرك ضمائر بعض ممثلي الأمة ويسارعون إلى مساءلة وزير الصحة خالد آيت الطالب حول ما يجري من فوضى عارمة وخروقات تمس بأحد أهم حقوق الإنسان، وهو الحق في الصحة أو الرعاية الصحية التي يكفلها الدستور المغربي للمواطنين، حيث ينص الفصل 31 على ما يلي: “تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في العلاج والعناية الصحية”.

فمن غير المقبول أن يتواصل مسلسل المضاربات والتغاضي عما يتعرض له المواطن من ابتزاز واستغلال في واضحة النهار، إذ لم يعد غريبا على أحد ما يجري من تصرفات لا أخلاقية مصحات القطاع الخاص التي لا تكف عن استفزاز المرضى وإفراغ جيوب أسرهم وعائلاتهم، ضاربة عرض الحائط بكل القوانين والقيم الإنسانية. ولعلنا نذكر جميعا كيف أن بعضها بالعاصمة الاقتصادية مثلا تسببت في تشريد عديد الأسر، حين طالبت عددا من المستخدمين المرغمين من قبل المقاولات العاملين بها على إجراء اختبار فيروس “كوفيد -19” بأداء أزيد من 4 آلاف درهم إلى جانب ثمن المعاينة، وهو ما حال دون إنجاز الكثيرين منهم تلك الاختبارات التشخيصية، لتتواصل معاناتهم في أحضان البطالة…

حكايات وقصص تروي بحرقة وحنق شديد عن معاناة مئات المرضى وأسرهم، الذين يتجهون مكرهين إلى مصحات خاصة طلبا للاستشفاء، فيصطدمون بجدار حقائق مرعبة تكشف عن غياب روح المواطنة وانعدام الضمير لدى بعض “الباطرونات”، الذين يصرون على جعل صحة الإنسان مجرد بضاعة وتحويل جائحة “كوفيد -19” إلى سوق رائجة لتنمية أرصدتهم البنكية، وكأننا نعيش في غابة موحشة خارج منطق دولة الحق والقانون أمام هذا الكم الهائل من التسيب الفظيع والخروقات السافرة.

فأين نحن مما تدعيه الحكومة عامة ووزارة الصحة خاصة من تدبير جيد للأزمة الصحية الخانقة ووفرة أسرة الإنعاش والعناية المركزة، في ظل ما نشهده من اكتظاظ ومضاربات محمومة؟ ثم أين نحن مما ظل ينادي به ملك البلاد من عناية بصحة المواطنين، في إطار التنمية البشرية وتحسين ظروف العيش وتطوير الخدمات الاجتماعية وتحقيق الاستقرار النفسي للمجتمع؟ ولم لا يتم السهر في هذه الظروف الاستثنائية على جعل الخدمات الطبية عملية متكاملة بين القطاعين العام والخاص، دون أن يسعى أحد الطرفين إلى استغلال الآخر والمتاجرة بصحة الأبرياء؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *