وجهة نظر

المغاربة وأسئلة ثقافة الإلتزام

لا يخلو خطاب المسؤولين منذ ظهور أول حالة لوباء كورونا بالمغرب، من دعوة المغاربة إلى التحلي بثقافة الإلتزام حتى تتجاوز البلاد هذه المحنة وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية. غير أنه يبدو من خلال المعطيات المتوفرة، بأن نسب الإستجابة الإيجابية لتلك الخطابات، مقلقة إلى حد كبير، قلق عبر عنه الملك محمد السادس بصريح العبارات وأقواها في خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب، شهر غشت الماضي، حيث دعا المغاربة إلى صحوة جماعية أمام حالة التراخي المسجلة في صفوف المواطنين والمواطنات.

أمام التحديات الكبرى وحالة اللايقين التي فرضها الوباء على الشعوب والدول، لم تعد إشكالية ثقافة الإلتزام ترفا فكريا، ولم يعد ممكنا اختزال الإلتزام في أبعاده القانونية والتنظيمية. كما لم يعد ممكنا تجاهل أهمية الإلتزام الاجتماعي ودوره الحاسم في بناء المجتمعات القادرة على الصمود في وجه تحديات عالم “الخوف السائل”، الذي يعرفه المفكر زيغمونت باومان (Zygmunt Bauman) بأنه “الإسم الذي نسمي به حالة اللايقين التي نعيشها، وهو الإسم الذي نسمي به جهلنا بالخطر، وبما يجب فعله لمنع الخطر، وبما يمكن فعله لمنعه وبما لا يمكن فعله، أو بما يمكن فعله لصده إذا لم يكن لنا طاقة لمنعه”.

فما المقصود بثقافة الإلتزام؟ وهل تفسر أحوال الإلتزام الاجتماعي لدى المغاربة فشل البلاد في احتواء الجائحة وترتيبَها المقلق والمخجل إفريقيا وعالميا على لائحة كوفيد- 19؟

مفهوم ثقافة الإلتزام

يعتبر مفهوم الإلتزام (l’engagement) من المفاهيم متعددة المعاني (Polysémique) والتي سال حولها الكثير من المداد، ولأنه كذلك وسعيا للإقتراب من معناه، سنقتصر في هذه المقالة على شذرات عن الإلتزام في حقلين من حقول العلوم الإنسانية والإجتماعية. سنقترب من فلسفة الإلتزام قبل أن نطل على بعض ما كُتبَ عن الإلتزام في علم النفس الاجتماعي.

فلسفة الإلتزام عند الفيلسوف سقراط، الأب الروحي للفلسفة، نجدها منقوشة في قوله ” لن أتوقف عن ممارسة الفلسفة وعن نصحكم وشرح الحقيقة والحق لكل امرئ تلقي به الصدف في طريقي (…) لن أبدل مسلكي، ولن أغيره ولو توجب أن أموت مئة مرة”. فالإلتزام، إذن، مسألة وجودية تتحمل الذات في إطارها تبعات وأعباء وجودها. في ذات الإتجاه يقيم الفيلسوف البلجيكي جون لادريير (Jean Ladrière) تعارضا بين الإلتزام واللامبالاة، فالإلتزام، بمعنى السلوك أو فعل اتخاذ القرار، يشير إلى نمط وجود ينخرط المرء بمقتضاه وضمنه في مجرى أحداث العالم على نحو نشيط، فيثبت أنه مسؤول عما يحدث ويفتح مستقبلا للفعل.

الإنخراط الفعلي وتحمل المسؤولية فيما يحدث، كانا في صلب الخلاف بين فيلسوفين ومفكرين فرنسيين كبيرين، “جون بول سارتر” و “فلاديمير يانكلفيتش”. فقد عاش الإثنين فترة الاحتلال النازي لفرنسا، لكن في الوقت الذي أعطى فيه يانكلفيتش (Jankélévitch) مضمونا ملموسا للإلتزام من خلال العمل الميداني دفاعا عن قيم الجمهورية، اكتفى سارتر بالكتابة عن الإلتزام. وقد عبر “يانكلفيتش” عن ذلك الخلاف بالقول ” Au lieu de s’engager à écrire qu’il faut s’engager, il vaut mieux s’engager “. إن عدم انخراط “سارتر” على نحو نشيط في العمل الميداني ضد النازية، واكتفائه بالكتابة عن الإلتزام والتنظير، دفع الكثير من منتقديه إلى القول بأن “جون بول سارتر” كان يهتم بسَارتر في الوقت الذي كان فيه “يانكلفيتش” يهتم بالإلتزام وبالآخرين.

الإلتزام بمعنى الإنخراط على نحو نشيط في العمل الميداني، سواء تعلق الامر بالإلتزام من أجل تعزيز العيش المشترك وقيم المواطنة أو دفاعا عن قضايا سياسية أو اجتماعية، نجده أيضا في أعمال الرواد والباحثين في علم النفس الاجتماعي. فسيكولوجية الإلتزام عند “روبير فانسون جول” (Robert Vincent Joule) ليست شيئا آخر سوى البحث عن كيفية التأثير على سلوكيات وذهنيات الناس من أجل تغييرها.

يؤكد “روبير جول” على أن سلطة القانون والإكراه وإن كانت آليات فعالة للتأثير على السلوك الإنساني، إلا أن مشكل استدامتها يبقى مطروحا (la pérennité). فلا يمكن للدول تعبئة جيوش من رجال الأمن ومختلف أعوان السلطة لمراقبة مدى التزام كل مواطن ومواطنة بالقانون ومدى ملائمة سلوكهم مع مستلزمات العيش المشترك وقيم المواطنة. ويضيف الخبير الفرنسي، بأن حملات التوعية لإقناع المواطنين بالإلتزام بسلوكيات معينة، وإن كانت مهمة، فإن أثرها يبقى محدودا؛ وفي معاناة الحكومة المغربية مع التزام المواطنين بالانخراط في تدابير وقف زحف وباء كورونا خير مثال على ذلك.

استنادا إلى أعمال بعض رواد علم النفس الاجتماعي (Kurt Lewin, Charles Kiesler) خلص “روبير جول” إلى أنه لا توجد علاقة مباشرة (نسطر على مباشرة) بين التحفيز (la motivation) والسلوك (le comportement)، كما لا توجد بين الموقف (Attitude) والسلوك. وحيث أن الأمر كذلك فإنه من الضروري اللجوء إلى حلقات وصل Des maillons intermédiaires)) وإلى عوامل للتحفيز والحث تتضمنها البيئة المحيطة والثقافة الأصلية.

تتمثل حلقات الوصل تلك في استخدام عوامل تحفيز وحث تعمل على المستوى اللاشعوري، لحمل الجمهور المستهدف على تغيير سلوكياته، تلك العوامل أثبتت فاعليتها مقارنة بحملات التوعية التقليدية. وقد أصبحت محط اهتمام الكثير من الدول والتي أسست حكوماتها فرق مهيكلة للعمل في هذا الإتجاه ورصدت لها ميزانيات ضخمة. أما عوامل التحفيز التي تتضمنها البيئة المحيطة والثقافة الأصلية فهي متعددة، وحيث أنها كذلك فسنكتفي بتلك المرتبطة بما يسميه الباحثون بالإلتزام الاجتماعي.

أحوال الإلتزام الاجتماعي بالمغرب

يشير مفهوم الإلتزام الاجتماعي إلى المسؤولية الملقاة على عاتق الأفراد والجماعات المشكلة لمجتمع من المجتمعات لدعم الأسس التي أقيم عليها صرح العيش المشترك، ضمانا للأمن والرفاه المشترك والتنمية المستدامة. ويكون الفرد ملتزما اجتماعيا حينما ينجز طوعا وعن وعي، أعمالا لا يستفيد منها وحده بل تصب في مصلحة أفراد ومجموعات أخرى تقاسمه مسؤولية توطيد العيش المشترك والإنتماء إلى الجماعة.

توجد القيم والأعراف والتقاليد، وإحساس الأفراد بالإنتماء وحاجتهم إلى اعتراف الجماعة بهم، في صلب معادلة الإلتزام الاجتماعي. وحيث أن هذه العناصر وتمثل الناس لمضمونها يختلف في الزمان والمكان، فإن الإلتزام الاجتماعي يتغير ويتكيف حسب تطور تلك العناصر وتمثل الناس لها.

لقد أثبتت الكثير من الأعمال البحثية، بأن الإلتزام الاجتماعي والرأسمال الاجتماعي (le capital social) وجهان لعملة واحدة، إذ لا يمكن تصور الواحد دون استحضار الآخر. ويحيل مفهوم الرأسمال الاجتماعي إلى شبكات العلاقات الاجتماعية والقيم والثقة الاجتماعية التي تُيَسرُ التعاضد والتعاون بين الأفراد والجماعات في مجتمع معين من أجل ضمان الأمن والرفاه المشترك والتنمية المستدامة.

إن احتلال بلادنا لمراتب مقلقة ومخجلة بين دول العالم (المرتبة الثانية إفريقيا) من حيث عدد المصابين والمتوفين بسبب جائحة كورونا، لا يسائل الحكومة فقط، بل يسائل كل مغربي ومغربية. فرغم أنه لا يمكن تفسير هذه الأرقام المقلقة والمخجلة انطلاقا من زاوية نظر واحدة، إلا أن هناك سببا وازنا لتفسير ما حدث ويحدث، الأمر يتعلق بتراجع منسوب الإلتزام الاجتماعي عند المغاربة وتآكل قيمة رأسمالهم الاجتماعي.

فمغرب تيويزي (التْويزة) و “عارْ الجارْعلى الجارْ” و “الواحْدْ إيموتْ على بْلادُو”، المغرب الذي واجه مواطنوه محن التقويم الهيكلي في الثمانينات بشبكات التضامن، العائلية منها أو الجهوية أو في دروب المدن، ذلك المغرب تحول في جزء كبير منه، حتى لا نعمم، إلى مغرب “تْفُوتْ الراسْ وتْجي فينْ ما بْغاتْ”. مغرب أصبح فيه الحديث عن القيم مستهجنا، والإلتزام الإجتماعي عملة نادرة، ورفض التقيد بقواعد بسيطة وغير مكلفة لحماية الوطن والمواطنين من تداعيات الوباء، أمرا عاديا وبطولة عند بعض المستهترين.

يكمن الجرح الغائر الذي ينزف منه المغرب، في تجاهل الدور الكبير للمخزون الثقافي في الرفع من القدرة على امتصاص الصدمات ومواجهة الكوارث الكبرى، وتجاهل دور العوامل الثقافية في تحقيق التنمية المستدامة. يجدر بالساسة والمثقفين المغاربة النظر جهة الصين وكوريا الجنوبية وغيرها من دول جنوب شرق آسيا، حيث تلعب الثقافة الكونفوشيوسية دورا أساسيا في الإلتزام الاجتماعي ومراكمة الرأسمال الاجتماعي. هناك تحفز الكونفوشيوسية الناس على احترام السلطة وليس الخضوع لها تحت الإكراه، هناك يتجاوز الصالح العام الفردانية، هناك أيضا تم احتواء وباء كورونا في وقت قياسي.

على سبيل الختم

لقد أظهر تدبير جائحة كورونا في الشهور الأربع الماضية، عمق أزمة الإلتزام الاجتماعي بالمغرب، كما أماطت اللثام عن تآكل الرأسمال الاجتماعي بالبلاد. ويبدو أن ما يحدث ليس سوى ما ظهر من جبل الجليد، في ظل غياب أي تقدير لكلفة أزمة الإلتزام الاجتماعي وتآكل الرأسمال الاجتماعي بشكل عام، وانعكاساتها الاقتصادية والإجتماعية والسياسية.

مع بداية السنة المقبلة، ستعلن اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي عن نتائج أشغالها، كل متمنياتنا أن تكون قد أخذت بعين الإعتبار قضايا الإلتزام الاجتماعي والرأسمال الاجتماعي ودور العوامل الثقافية وغير الاقتصادية في التنمية المستدامة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *