وجهة نظر

في اليوم الوطني للأرشيف (الحلقة 2): جامع بيضا.. الحارس الأمين لـ”أرشيف المغرب”

أرشيف المغرب

يحل اليوم الوطني للأرشيف (30 نونبر)، وهي مناسبة نستحضر من خلالها حصيلة ما نشرناه من مقالات حول “أرشيف المغرب”، حاولنا – عبرها – تقريب المؤسسة من الإعلام ومن عموم الجمهور من حيث التعريف بها وباختصاصاتها وإطارها القانوني والتنظيمي، ولم يتوقف قلمنا عند هذا المستوى، بل تجاوزه إلى مستويات أخرى حاولنا من خلالها رؤيـة “الأرشيف” من زوايا مختلفة تقاطع فيها العلمي والتاريخي والقانوني والحقوقي والحداثي والتربوي والاستراتيجي والتراثي والتنموي، إلى درجة أن “الأرشيف” ظل حاضرا في مخيلتنا ما يزيد عن السنة، إذ كلما حررنا مقالا ونشرناه على مستوى الإعلام الورقي والإلكتروني ، كلما وجدنا أنفسنا أسـرى موضوع آخر ومقال آخر، ولم نكن ونحن نحرر أول مقال حول الأرشيف (معاينة مخالفات الأرشيف: أي دور لضباط الشرطة القضائية) أن المقال سيحضى بشرف النشر ضمن “مجلة أرشيف المغرب”، بل وسيكون منطلقا للعشرات من المقالات التي اقتحمنا فيها حقل الأرشيف طولا وعرضا، إلى درجة أننا لم نترك مجالا إلا واقتحمناه ولا موضوعا إلا نبشنا في حفرياته، بل لم نكن ندري ونحن نكتب أول مقال، أننا كنا نخطو الخطوة الأولى في مضمار متعب وشاق، سيكون مادة دسمة لمشــروع كتاب حول الأرشيف، بدعم وإشراف “أرشيف المغرب” في شخص أستاذنا “جامع بيضا”.

يوم وطني للأرشيف، يصعب المرور عليه مرور الكرام أو اختزاله في نشاط علمي أو في استعراض حصيلة موسم استثنائي أو في ربورتاجات تلفزية أو مقالات خبرية صحفية متفاعلة مع الحدث، تعرف بأرشيف المغرب ومهامها وأدوارها، أو حتى في طرح البرامج والمشاريع الأرشيفية المستقبلية، دون توجيه البوصلة نحو الأستاذ الجامعي والمؤرخ “جامع بيضا” مدير “أرشيف المغرب”، الذي ارتبط اسمه بتأسيس المؤسسة ووضع قواعدها القانونية والتنظيمية، ومهما برع القلم في التحرير واقتناص الكلمات وترصيع السطور، لن نستطيع الإحاطة بجزئيات وتفاصيل “ابن تزنيت” الإنسان ورب الأسـرة والأكاديمي والباحث والإداري والمسؤول والجمعوي والإعلامي، مهما كانت رحابة صدر هذا المقال ومهما كانت قدرتنا على البوح والتعبير، ونحن على وعي إدراك أن الجرأة في النبش في حفريات حياته ومساره الزاخر الذي تجاوز الثلاثـة عقود من الزمن، لن يكون إلا مجازفة وتقصيرا في حق الرجل وما يجر خلفه من مسار مهني وأكاديمي زاخر، يقوي أحاسيس الفخر والإعجاب والتقدير والاحترام.

ويكفي قولا، أنه قــدم إلى “أرشيف المغرب”، حاملا وراءه مسارا علميا مميزا وتجربة مهنية وأكاديمية على جانب كبير من الغنى والثـراء في البحث التاريخي، فالأستاذ “جامع” المنحدر من منطقة ســوس، تابع دراسته الجامعية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ونال منها شهادة الإجازة في التاريخ سنة 1978، وحصل بعدها على دكتوراه السلك الثالث سنة 1982 من جامعة بوردو3 بفرنسـا، ومن نفس الجامعة نال الرجل دكتوراه الدولة سنـة 1995، وعلى مستوى المسار المهني، التحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1982، وشغل منصب نائب رئيس شعبـة التاريخ بين سنتي 1986 و1988، وموازاة مع مهنة التدريس وتكوين الطلبة، بصـم الأستاذ “جامع” على مسار مميز على مستوى عضوية العديد من المجموعات والمؤسسات داخل الكلية وخارجها، فعلى مستوى المجموعات والوحدات البحثية داخل الكلية، نشير إلى عضوية “وحدة المغرب الكبير التي كان مسؤولا عنها بين سنتي 2002 و2006 ” و”مجموعة البحث الإسلامية المسيحية” و”عضو مؤسس منسق لمجموعة الأبحاث حول الدراسات اليهودية المغربية التي أسست سنة 1996″.

أرشيف المغرب

على الصعيد الجمعوي، نشير إلى أن الأستاذ قد “انتخب سنة 1993 عضوا بمكتب الجمعية المغربية للبحث التاريخي”، و”شغل مهمة كاتبها العام بين سنتي 2001 و2007″، كما شغل “عضوية المكتب التنفيذي لجمعيـة المؤرخين الأفارقة” منذ سنة 2007…، وعلى مستوى اللجان العلمية، فقد بصم الأستاذ والمؤرخ “جامع بيضا” على مسار علمي مميز، اعتبارا لعضويته في العديد من اللجان العلمية، من قبيل عضوية “اللجنة العلمية للمكتبة الوطنية للمملكة” و”المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب” و” اللجنة العلمية للعلوم السياسية والاجتماعية” منذ أول إصدار لها سنة 2010…، ودائرة اهتماماته امتدت إلى مستوى المجلات المتخصصة، حيث شغل عضوية هيئة تحرير مجلة هسبريس تامودا منذ 1992، وعضوا مؤسسا ومديرا سابقا لمجلة البحث التاريخي ما بين 2003 و2006، وعضوا بالمجلس الاستشاري لمجلة “أسطور” للدراسات التاريخية في قطر، ومؤسـسا ومديرا لمجلة أرشيف المغرب منذ سنة 2016…، كما امتدت إلى مجالات الأرشيف والذاكرة، بصفته نائبا لبرنامج إفريقيا للمجلس الدولي للأرشيف، وعضوا في “اللجنة الاستشارية الدولية لبرنامج ذاكرة العالم لليونيسكو”، و”اللجنة الإدارية للأرشيفات الوطنية والإفريقية والعالم العربي”… إلخ.

التزامات الأستاذ “جامع بيضا” المهنية والجمعوية، لم تمنعه من النبـش في حفريات تاريخ المغرب، حيث نشر على مدى 34 سنة، ما يزيـد عن “105” عنوانا (مقالات، كتب، أعمال جماعية، حوارات …) و”38″ عنوانا ضمن “معلمة المغرب”، في أعمال بحثية تقاطعت مضامينها حول تاريخ المغرب المعاصر والحركة الوطنية وتاريخ الصحافة المغربية، وتاريخ الأقليات الدينية المسيحية واليهوديـة والأرشيف المغربي، فضلا عن مجموعة من الحوارات والقراءات النقدية لعدد من الإصـدارات، واعترافا بقيمة الرجل وتقديرا لما قدمه من خدمات وأدوار على رأس أرشيف المغرب، فقد حضي الأستاذ “جامع بيضا” بدكتوراه فخرية من المدرسة العليا للأساتذة بليون الفرنسية، كما حصل على “وســام رفيع” من وزارة الثقافة والاتصال الفرنسية (2015) و”ذرع الجامعة العربية” و”الذرع الفخري” للجمعية المغربية للبحث التاريخي …

مسار مهني وأكاديمي ناجح ومتميز على كافة الأصعدة، وشخصية مشهود لها بالنزاهة والالتزام والاستقامة، مواصفات كانت كافية ليحضى الرجل بشرف التعيين من قبل جلالة الملك محمد السادس سنة 2011 على رأس “أرشيف المغرب” ليتحمل بذلك مسؤولية الحارس الأمين للأرشيف العمومي، وقد كان التعويل على ما يجره الرجل من تجارب وخبرات علمية وأكاديمية ومهنية، لوضع اللبنات الأولى لمؤسسة عمومية حديثـة العهد، فقـد وجد الأستاذ “جامع” نفسه بعد تعيينه، أمام حالة من الفراغ، إذ، لم يكن أمامه لا طاقم ولا مكاتب ولا كراسي إلا “قانون أرشيفي” لا يقدم ولا يؤخر، وكان عليه التحرك على أكثر من مستـوى، لتهيئـة الشروط الدنيا التي تسمح بانطلاقة المؤسسة الناشئة، ليتأتى له الحصول على “مقر مؤقت” (جناح من المقر القديم من المكتبة العامة)، تم تأهيله بفضل منحة من الاتحاد الأوربي تكلف بتدبيرها “المجلس الوطني لحقوق الإنسان”، في مرحلة مبكـرة، لم يكن عدد المستخدمين يتجاوز عتبة “ستـة”(06) مستخدمين، ورغم صعوبات وإكراهات مرحلة التأسيس، استطاع الرجل بمعية ما وضع تحت إمرته من الأطر الشابة، أن يضع قطار “أرشيف المغرب” على السكة الصحيحة، مساهما بذلك، في إرساء دعامات أول صرح تشريعي أرشيفي في مغرب الاستقلال.

أرشيف المغرب

وعليه، واستعراضا لهذا المسار العلمي والأكاديمي والمهني الذي قدمنا جانبا من شذراته، لا يمكن إلا الافتخار بكفاءة مغربية من هذا الوزن والطراز في زمن نعيــش فيه “أزمة كفاءات”، وكأساتذة ممارسين و كطلبة سابقيـن، لا يسعنا إلا الاعتـزاز بقيمة الرجل ومكانته العلمية والأكاديمية التي جمعت بين ثالوث التاريخ والأرشيف والصحافة، وتثمين رصيده البحثي والجمعوي الزاخر، اعتبارا لعضويته في الكثير من مجموعات البحث والجمعيات والهيآت واللجان العلمية والتاريخية والأرشيفية، واختيـاره على رأس مؤسسة من حجم “أرشيف المغرب”، نراه موفقا، بالنظر إلى ثــراء وغنى مساره العلمي والأكاديمي، ولما راكمه من خبرات وتجارب بحثية، ولقرب تخصصه (التاريخ) من حقل “الأرشيف”.

وما حققته المؤسسة من مكاسب وإشعـاع وتواصل تحت إدارتــه، يحمل بدون شك بصماته وبصمات الطاقم الشاب الذي يحيط به، وكما ارتبط اسم الأستاذ “جامع بيضا” بالعديد من المجموعات واللجان البحثية والجمعيات والمجلات العلمية والتاريخية، ارتبــط اسمه وسيرتبط على الدوام بقـوة الواقع، باسم “أرشيف المغرب” التي تولى إدارتها وهي بمثابة “طفلة صغيـرة”، فكان لها نعم “الأب”، فعلمها كيف تحبـو وكيف تتحرك وكيف تخطو الخطوات الأولى قبل أن يضعها على السكة السليمة، لتكون مثالا للمؤسسات العمومية “الطموحة” و”المجتهدة” التي تمشي قدما نحو المستقبل بثقـة وتبصـــر … ولا يسعنا إلا أن نبارك للأستاذ “جامع” بمناسبة اليوم الوطني للأرشيف ومن خلاله لكل مستخدمي “أرشيف المغرب”، مثمنين ما وصلت إليه “أرشيف المغرب” في عهده من مكانة وتميز وإشعـاع، وما حققته من مكاسب ومنجزات تحت إدارته، متمنيين له مزيدا من التألق والإشعاع، وبدوام الصحة والعافية له ولرفيقة دربه الأستاذة القديرة “مينة المغاري” ولأسرتهما الصغيرة .

ونختم بالقول أن “ابن تزنيت” جامع بيضا، هو “الأستاذ” و”المؤرخ” و”الأرشيفي” و”المثقف” و”الكاتب” و”الإداري” و”المسؤول” و”الجمعوي” و”الباحث في الصحافة” و”المهووس بالتاريخ والتراث”، لكنه قبل هذا وذاك يبقى “الإنسان” الذي تقاطعت في شخصيته سبل “الالتزام” و”المسؤولية” و”الأناقة” و”التقدير” و”التواصل” و”الصرامة” و”الإقناع” و”الجاذبية”، و”الطموح” و”الإرادة” و”الصبر” و”الاجتهاد” و”المثابرة” و”الإخلاص في العمل” و”الطيبوبة” و”المحبة” و”التواضع” و “السخـاء” و”الاستقامة” و”نكران الذات”، وهي خصوصيات وقيم إنسانية، لامسناها بالأمس في “جامع بيضا” /الأستاذ، ونحن طلبة يافعين نشق أولى خطواتنا في عوالم وشعاب التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط نهاية القرن الماضي، ونلامسها اليوم في الرجل، ونحن أساتذة ممارسين، نقف عند عتبة الفخر والاعتزاز والإعجاب، كلما تأملنا في المسار المهني والأكاديمي والبحثي والحياتي للرجل، الذي يعد مفخرة لمدينة تزنيت ولسوس العالمة وللبحث التاريخي ولأرشيف المغرب … وصورة مشرقة لما يزخر به الوطن من كفاءات وخبرات …

* عزيز لعويــسي – أستاذ وكاتب، باحث في قضايا الأرشيـف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *