وجهة نظر

لا استثمار ولا تنمية في غياب الحريات العامة والديمقراطية

لم يعد موضوع الحريات العامة والديمقراطية يهم فقط، الباحثين في ميادين القانون والسياسة والإعلام. فقد أصبح يشغل بال حتى الاقتصاديين وخاصة المنظمات المالية الدولية التي تريد الاطمئنان على أموالها المقترضة إلى دول الجنوب لاستثمارها في مشاريع عامة. والسؤال هو: إلى أي حد يؤثر مدى الحريات العامة ومستوى الديمقراطية على نجاح مشاريع الدولة؟

للإجابة على هذا السؤال الهام، اعتمد باحثان اقتصاديان ينتميان إلى البنك العالمي وهما (Lant Pritchett) و(D.Kaufman) على دراسة ميدانية تمحورت حول:

الحريات العامة والديمقراطية ونجاح الاستثمارات العمومية. ومما توصلا إليه، أن الروابط معقدة، بين دور الدولة والتنمية الاقتصادية والتقليص من حدة الفقر(…) وهي تدفع السياسيين والمقررين ومستشاريهم إلى طرح ثلاث أسئلة:

أولها: ما الذي ينبغي أن تقوم به الدولة؟ وثانيها: بأية طريقة ينبغي أن تتخذ قراراتها؟ وثالثها: إلى أي حد يمكن أن تؤدي قراراتها إلى نجاح الاستثمارات؟

أشار الباحثان إلى أن الدراسة التي اعتمدا عليها ترتكز على أربعة تصنيفات للدول: التصنيف الأول: يعده كل سنة (Freedom house) وهو يعتمد على 14 مؤشر منها: غياب الرقابة.، ووجود حوار حقيقي في المجتمع.، وحرية التجمع والتظاهر. التصنيف الثاني: احترام حقوق الإنسان. التصنيف الثالث: تعددية وسائل الإعلام. والتصنيف الرابع: حرية الانتماء النقابي.

ومما استنتجه هذان الباحثان، وجود علاقة كبيرة بين مستوى الحريات العامة في بلد ما ونتائج المشاريع العمومية، خاصة تلك الممولة من طرف البنك العالمي. موضحين أنه كلما اتسعت رقعة الحريات العامة، أي كلما تمتع المواطنون والمواطنات بكافة حقوقهم في الرأي والتعبير، وكلما تمكنوا من المشاركة الفعلية والفعالة في القرارات وبناء المشاريع والبرامج والأنشطة التنموية (…) كلما تزداد حظوظ نجاح الاستثمارات العمومية.

واهتم الباحثان كذلك، بمؤشر الديمقراطية ومدى تأثيرها على الاستثمارات العمومية، وعلاقاتها بالحريات العامة. فكانت النتيجة: لا يكون التأثير إيجابيا على الاستثمارات العمومية، إذا لم يرفق التقدم الديمقراطي بالتقدم في مجال الحريات العامة. وحسبهما، فالتساؤل ليس عن أهمية دور الدولة. وإنما عن مدى توفر الشروط الاجتماعية والسياسية والمؤسساتية، القادرة على دفع الدولة إلى القيام بالدور المنتظر منها. ويشكل إعطاء الكلمة للمواطن مفتاحا لنجاح الاستثمارات العمومية.

وذهبا إلى أن موضوع الحريات العامة والديمقراطية ونجاح الاستثمارات العمومية، ذو أهمية قسوى للاعتبارات التالية: على عكس ما اجتره العديد من الباحثين في دول الجنوب، نقلا عن الاقتصاديين الكلاسيكيين. فقد أثبتت الوقائع، أن المطلوب، هو النظرة الشمولية والإنصات للمواطن، لتحقيق التنمية الشاملة وليس الاستثمار فقط.

كما أن البلد الذي يطمح إلى نجاح استثماراته العامة، لا بد وأن يهيئ المحيط الصالح لذلك، والذي لا يجسده فقط، إنجاز البنيات التحتية، وخفض الضرائب، والكهربة والتزويد بالماء الصالح للشرب (…). وإنما: يجسده تمتع المواطن بحرية الرأي والتعبير، وسيادة العدل والديمقراطية.

نعتقد أنه إذا كان من درس بليغ نستشفه مما تقدم، خاصة ونحن نستعد في سياق جائحة كورونا لبلورة نموذج تنموي جديد، فمضمونه: أن قضايا التنمية لا يمكن عزلها عن قيمة الحرية.

والحرية وحقوق الإنسان ليست ترفا تتمتع به الدول المتقدمة، في حين أنه ينبغي على الدول النامية تأجيل البحث عن سبله إلى أن يتم وضع أسس التقدم الاقتصادي، كما لو أنه يوجد تعارض أو تناقض بين التنمية والديمقراطية، أو تتابع بينهما بحيث تفضي مرحلة إلى مرحلة أخرى. وهو ما دافع، ويدافع عنه بقوة عالم الاقتصاد الهندي ” أمارتيا صن” الحائز على جائزة نوبل في 1998، وكل خبراء الاقتصاد والاجتماع والسياسة الذين لا ينبهرون بالوصفات ” والكلام المعسول” للمنظمات الدولية التي تنتهز الفرص كلما حلت كارثة بالإنسانية، لتقدم وصفاتها الخالية من البعد الإنساني. وتكبل باقتراضاتها مستقبل الدول التي تقبل بشروطها مكرهة. وكأن قدر دول العالم الثالث أن تبقى مختبرا لتجارب صناع العولمة.

مجمل القول، إن الشرط الحقيقي للتنمية في مرحلة ما بعد كورونا – وليس فقط لنجاح الاستثمارات العمومية – هو اتساع رقعة حرية الرأي والتعبير، وحرية الصحافة، وحرية التظاهر السلمي (…). وهو ما يعني أنه لا تنمية اقتصادية واجتماعية في غياب تنمية حقيقية للحريات العامة والديمقراطية.

ولنا أن نستحضر في مغربنا الحبيب، ضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة إن نحن نريد فعلا تجاوز الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية لجائحة كورونا ونحقق نقلة نوعية في اتجاه دولة الحق والقانون، فالفساد مازال يستشري في جيوب المقاومة في بعض الإدارات العمومية والمحلية من خلال التحايل على قانون الصفقات العمومية وضوابط إيجار الأسواق الأسبوعية والمحلات التجارية وغيرها.

* إعلامي وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *