وجهة نظر

انقشاع السحاب بذكر بعض مآثر فقيه مدرسة سيدي بوسحاب

* الحسين أكروم بن أحمد الساحلي

لا غرو أن مصيبة فقد العلماء تستوجب فقد العلم، ونقصانه وقبضه، ثم رفعه، وهي ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء كما قال ابن مسعود، وبمقدار كثرة انقباض العلماء ينقص الفقهاء، ويكثر الجهال، ويفشو التعالم، فتندرس طرق العلم ورسومه، وتجف أصوله ومنابعه، فيعم الهرج والمرج، وتلك أمارات وعلامات تنبئ عن ضلال الناس وهلاكهم، فناسب أن نعرف بهم لأن نشر أخبارهم وبث سيرهم من زينة الدنيا، وجهلهم والعدول عن تدوين آثارهم من آفاتها.
ففي صدر القرن الخامس عشر 1400 هجرية كانت سوس تعج بالفقهاء والنظار، والصلحاء، والأدباء والنحويين، والشعراء، والسادة الصوفية، فتتابع موتهم واحدا واحدا، في ظرف متقارب جدا حتى سميت سنة 2017م، الموافق لـ: 1439هـ، بعام الحزن لكثرة من مات فيها من العلماء، فكلهم كانوا فوق التراب فأصبحوا تحته، وصار أقلهم علما أفقههم في عصرنا، وأكثرهم جشعا أزهدهم في وقتنا.
وقد استولى على ظن الغير على العلم الشرعي بسوس أن ذاك النور الساطع واللامع الذي يشع ضوؤه من أعماق سوس العالمة بدأ ينطفئ شيئا فشيئا، وما من قرية أو مدينة إلا وفيها شمعة يستضيء أهلها بها لإنارة مسالك طريقهم، فكأني بكل سوسي وضع قنديلا في يده ليزيل أمامه جنوح الظلام الدامس “حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا” كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي المخرج في البخاري.
وشاءت الأقدار أن تنطفئ شمعة كبيرة في هشتوكة لما التحق بالرفيق الأعلى فقيدنا وفقيدكم آل العترة الصوفية، الشريف، الشيخ المقرئ العلامة الصوفي الزاهد الورع سيدي الحاج مولاي أحمد بن محمد بن أحمد الإدريسي اللحياني الهشتوكي رحمه الله تعالى؛ فمنذ أن طرق سمعي نبأ وفاته ولقاء ربه؛ سارعت لكتابة هذه المقالة لتكون لتلاميذه نبذة عنه، ولمحبيه تذكرة له.
نسبه:
هو مولاي أحمد بن مولاي محمد الإدريسي بن مولاي أحمد ينتهي نسبه إلى الشيخ سيدي يعقوب بن يدير دفين (إِدَاوْكْنِيضِيفْ) بتلات نتسركي (تلعة الملخ) بقبيلة إيلالن، قال عنه الحضيكي في الطبقات 2/ 478 : “الشيخ الرباني، العابد الناسك، الراسخ القدم الغائث، الظاهر البركة والسر، النوازلي الشهير الكبير الفياض..” وينتهي نسبهم إلى سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما، وغالب شرفاء المغرب ينتهي عمود نسبهم إلى الحسن، وقليل منهم من ينتمي إلى الحسين، كما أفاده أبو الفضل الغماري في كتابه: بدع التفاسير ص/ 185-186.
ولادته:
ولد بدوار (تحنا قبيلة إداوبوزيا) جماعة سيدي بوسحاب إقليم اشتوكة أيت باها، حوالي سنة 1927 أو 1928 خلافا لما ذكره بلدينا الأستاذ عمر المتوكل الساحلي الذي أرخ ولادته سنة 1930 في كتابه: المدارس العلمية 4/229 وتربى تحت يد أبوين شريفين صالحين، تربية حسنة.
نشأته العلمية:
نشأ المرحوم في أسرة علمية عريقة عرفت بالعلم، والورع، وكان والده العلامة النوازلي سيدي محمد مولاي الشريف الومهالي الإدريسي مفتيا كبيرا جمع حفيده مولاي الحسين اللحياني بحثا عن نوازله حصل بموجبه على الإجازة العليا بجامعة ابن زهر، وترجمه المختار السوسي في كتابه: خلال جزولة 2/80 والمعسول 17/ 273 أفادني بهذه الفائدة الفقيه سيدي محمد مستقيم البعقيلي، عضو المجلس المحلي لاشتوكة أيت باها.
وافتتح المترجم عند والده المذكور حروف الهجاء فختم على يديه القرآن، وكان والده في أول أمره كما أخبرني وارث سره سيدي مولاي محمد يشارط في مدارس علمية كبيرة كمدرسة تيزي الأولياء، وسيدي بورج، وسيدي مزال وغيرها، بيد أنه لما نجب الأولاد أراد أن يتفرغ لهم فشارط في مساجد عدة جمعا بين التقليل من الالتزامات، والمهام العلمية، والتفرغ لتعليم أبنائه، لاسيما مع قلة المعين وكثرة الصوارف.
واختار لابنه المرحوم سيدي أحمد منهجا فريدا في تعليم القرآن، فمَزْج حفظه بتفسيره على طريقة الأدوزيين، ويستعين بشرح مستغلقات الآيات بحاشية الجمل على الجلالين، ويصاحبه والده أثناء تنقلاته إلى مساجد أخرى كمسجد (أناراك) بإداوبوزيا، ومسجد (بوالامن) و(تزمي) بإداومنو، ومسجد (إخربان نلمطار)، قرب مطار المسيرة، وختم عنده ختمة كاملة، وأعاد الثانية فأوصلها لـ: (المص) سورة الأعراف، ومات والده فتركه صغيرا، وسنه آنذاك 15 سنة.
ثم تولى شقيقه سيدي مولاي محمد بن أحمد الإدريسي كفالته وتعليمه، فاستمر في ضبط رواية ورش، ليتحول بعد ذلك عند سيدي إبراهيم أوعلي بـ: (أيت وادريم) وهؤلاء الثلاثة هم شيوخه في حفظ القرآن، وضبط رسمه، وإنشاد أرجازه.
الاتجاه نحو القراءات القرآنية:
لما مهر في حفظ القرآن الكريم، ولى وجهه كعادة أقرانه إلى تعليم القراءات القرآنية، فافتتح عند سيدي أحمد كوزدين قراءة نافع براوييه وورش وقالون بمدرسة (سيدي عبلا البوشواري) فقرية (دوار (أوكرام) فمدرسة (عكربان) ويصاحبه عند تنقلاته، فكان هو الساعد الأيمن لشيخه في النيابة عنه فيما يتعلق بمهام الإمامة، وتصحيح الألواح للطلبة، فلما أخذ ما عنده؛ خيره بين الشرط، أو الاستمرار في تعلم القراءات، فاختار الاحتمال الأول، والتوجه عند الشيخ الثاني لتعميق معارفه فيها.
إنه المقرئ سيدي الحاج أحمد أولحسن مُدرس القراءات بمدرسة (تيزي لْتنين) بقبيلة (أيت وكمان) درس عنده قالون، وابن كثير، مرة أخرى، فلما ختم حزب “سبح” سمع شيخه ينوح ويجهش بالبكاء، والدموع تذرف من عينيه لأنه سيفارقه، فرق قلب المرحوم فشارك شيخه في إحساسه، وهذه الواقعة أفادنيها نجله وخليفته العلامة الأديب الشاعر المحقق سيدي مولاي محمد الإدريسي.
ثم انتقل للمشارطة بمسجد (إفرض نتفلفال) بقبيلة (أيت وادريم) عند المقرئ المشهور الحسين كونسيس فتعمق عنده في دقائق القراءات، وغاص في إشكالاتها، فأخذ عنده (تجبديت لمكي) كما يسميها القراء، وألقى عصاه هناك، حتى ختم على يديه حرفي المكي والبصري وأعادهما، فلما رآه شيخه منهمكا في دقائق القراءات، شغوفا بها؛ أوقفه لما وصل إلى (المص) سورة الأعراف، فنصحه أن يولي وجهه نحو دراسة المعارف والعلوم، كعادة أجداده في العلم، وكان سنه في ذلك الوقت تجاوز العشرين عاما.
ذكرياته وجهاده في مدرسة تنالت:
ولهذه الغاية اتجه المترجم إلى مدرسة تنالت سنة 1954 عند شيخ الجماعة سيدي الحاج الحبيب التنالتي، وعليه اقتصر في أخذ معارفه العلمية كما أفادني ابنه سيدي مولاي محمد، وصادف مجيئه قدوم صاحب كتاب (الرتائم الجميلة) الفقيه الحاج عبد الله الفارسي، وعادة المترجم ألا يؤرخ لأحداث الدخول للمدارس والخروج منها، وكان إذا سئل عن ذلك يجيب: “خشيت أن أستطيل المدة فأمل الطلب” فكانت جل تواريخ أحداث تقلباته تقريبية بسبب هذه القاعدة.
ولما وصل المرحوم إلى شيخه سيدي الحاج الحبيب وعرفه؛ ابتهج به، وفرح بقدومه غاية الفرح، قائلا له: أهلا بابن صديقنا ثلاث مرات، وأسر به كثيراً، كذا أفادني الفقيه مولاي عبد الكريم الإدريسي.
وتقوت علاقته الروحية بشيخه كثيرا، وله ذكريات مضيئة بمدرسة تنالت، وترك آثارا جميلة، ومر فيها على كل الفنون المتداولة، ومن مميزاته أنه مداوم على الصلوات وخاصة صلاة الفجر، مشهور بالكرم الحاتمي، مواظب على أنصبة الدروس العلمية، دائم الحضور فيها، وكانت هيدورته (أعني: فروة الضأن) معروفة عند الطلبة لا تفارق أمام محراب الشيخ.
فلما رأى شيخه حُسْن حاله، وشدة استقامته، كلفه بمهمة إيقاظ الطلبة لصلاة الفجر كما أخبرني معاصره الفقيه الحاج عيسى فقيه مدرسة (فوكرض) لاسيما بعد وفاة مؤذن الشيخ الفقير علي أمزال، فكان يدق عليهم غرفهم واحدا واحدا، وربما سمع أحيانا ما لا يرضى من طرف بعض الطلبة، فيكتم ذلك صابرا على تنفيذ وصية شيخه واستمر رحمه في تنالت من سنة 1945 إلى سنة 1968 أي: ما يقارب ربع قرن.
غريبة:
أخبرني الفقيه أحمد اليربوعي عضو الرابطة المحمدية للعلماء؛ أن المرحوم سيدي الحاج أحمد الإدريسي لما وقع الزلزال بأكادير يوم 29 فبراير 1960 على الساعة 23:40 وصلت ارتداداته إلى غرف الطلبة بتنالت، وكان المرحوم نائما فأيقظه ذلك، فظن أن الطالب الذي توجد غرفته فوق غرفته سقط على سريره، أو يحرك شيئا ثقيلا وسط الليل، فنبهه المرحوم، ولم يطلع على ما حدث إلا بعد حين، وكان زلزالا مدمرا قتل ما يقرب من ثلث سكان المدينة، حوالي 15.000 شخصاً.
مذاكراته العلمية مع معاصريه بتنالت:
أخبرني الفقيه سيدي الحاج أحمد بن التاجر فقيه مدرسة (إمجكيكيلن) بهشتوكة أن المترجم كان قديما جدا في طلب العلم في تنالت، وقال: وجدناه في الستينات مر على كل الفنون خبيرا بها، عارفا بقواعدها، بصيرا بإشكالاتها، لأنه درسها على الشيخ دراسة تمعن وإقراء وتحقيق مرات وكرات.
وأصبح المرحوم قبلة للطلبة يقصدونه للمذاكرة والمباحثة، كالفقيه سيدي أحمد بن التاجر الذي سرد عليه حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني لأبي الحسن العدوي المتوفى سنة (1189هـ)، وشرح المكودي على الألفية لأبي زيد عبد الرحمن المكودي المتوفى سنة (807هـ) ولم يختماهما كما شاع وذاع، وإنما سرد في الحاشية أبواب العبادات، وصدرا من الأبواب التي بعدها، أما شرح المكودي فقد تذاكرا مواضع في أوائله.
وكان المرحوم سيدي الحاج أحمد يسمع لسرد صاحبه بالجنب، ويعلق على مواطن الإشكال فيزيله، ويتذاكر الأحمدان في التمسك بأقوال مالك، ومشهور المذهب، ونبذ ما يخالفهما، ويطالعونها في المصادر الأخرى فيتفقهان فيها. أما المكودي فيعلق على بعض النصوص مع ضبط شكلها، وشرح مستغلقات ألفاظها، مع الاستعانة -لفك ألغازها- بكتب اللغة التي هي ضنينة في ذلك الوقت، وكانا مولعين بتتبع مخالفات المكودي للجلال السيوطي، والموازنة بين تعليلات أقوالهما.
وأخبرني معاصره سيدي الحاج عيسى أنه لما كان مع المرحوم في تنالت يأتيه بقصائد متنوعة في المناسبات الدينية وغيرها فيتذاكران في أوزانها، وضبط تقطيعات تفاعيلها، وتدقيق توازن أشطارها، ويجاذبان معانيها، فكل طالب يفتح الله عليه بفن ويتقنه غاية الإتقان، ما لا يفتح على غيره، فيوجد عند كل منهم ما لا يوجد عند الآخر.
ولذلك نجدهم يكثرون من المذاكرات العلمية بينهم، وأشهرهم في ذلك الفقيه سيدي الحاج محمد البوشواري المشهور بأوتكناتين يقصده الطلبة لمدارسة غوامض شواهد الأشموني، وألغاز المتون الكبيرة، ويشترط على من أراد ذلك أن يأتيه الثانية ليلا لكثرة مطالعته، وتعمير أوقاته، وكذا الفقيه أحمد بن التاجر يدرس المقنع في علم الفلك لأقرانه كما أخبرني، والفقيه سعيد وَّاووير وآخرين، ولعل السر في كثرة المذاكرات العلمية بين الطلبة في تنالت؛ أن الشيخ سيدي الحبيب يمر على الأنصبة مرورا خفيفا، ولا يتعمق فيها كثيرا، ولعله تعمد ذلك لذلك، كما أخبرني تلميذه الفقيه أحمد بن التاجر.
ولعل هذا المنهج يسلكه مع تلاميذه الصغار أصحاب المتون الصغيرة والمتوسطة، “لإلقاء الضوء عليها بصفة مختصرة وبدون إطالة في الشرح حتى لا يمل الطلبة قبل أن يستوعبوا الفنون” كما قال تلميذه الفقيه الفارسي في الرتائم ص/ 45 خلافا لأصحاب المتون النهائية والكبيرة فإن الشيخ يتعمق فيها كثيرا.
بعض مواقفه:
للرجل قوة وصلابة في إظهار الحق، يصرح بمواقفه ويجهر بآرائه أمام الملأ لا يخشى في الله لومة لائم، ومنها: أن الفقيه أحمد اليربوعي زاره مرة، ورفع المرحوم الأذان في مدرسته، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله، فقال له: لعلك تريد أن تعلق علي، وربما قصد المرحوم بذلك أن يفاتحه في الموضوع، فقال له الفقيه اليربوعي: هؤلاء المنتقدون اعتمدوا على النص التعبدي للأذان، وأنت لزمت التأدب مع جنابه صلى الله عليه وسلم فأعجبه ذاك التأويل كثيرا رحمه الله تعالى. ويجدر التنبيه هنا أن لنادرة العصر الحافظ أحمد بن الصديق الغماري كتابا لطيفا سماه: “تشنيف الأذان بأدلة استحباب السيادة عند اسمه صلى الله عليه وسلم في الصلاة والإقامة والأذان” مطبوع متداول نشرته مكتبة الخانجي بالقاهرة.
مشارطاته:
لما نهل المرحوم سيدي مولاي الحاج أحمد من معين شيخه سيدي الحاج الحبيب، وغرف من معينه على قدر إنائه، وحنكته التجارب وجرب الأمور، أرسله شيخه إلى مدرسة سيدي إبراهيم أوعلي نتغانمين، وذلك سنة 1968 وبقي فيها سنة واحدة.
وبدأ صلاحه تتداوله الألسنة في المجالس، فذاع صيته، واتسعت شهرته على قلة وقت مشارطته، فوصل خبره إلى أسماع قبيلة سيدي بوسحاب (إداكاران) فاتصلوا به قصد الانتقال إلى مدرستهم لأجل عمارتها، فأبى قبل استشارة والدته، وشيخه سيدي الحاج الحبيب، فلما أذنا له تحول إليها سنة 1970.
ومدرسة سيدي بوسحاب مدرسة قديمة عتيقة، قال عنها المختار السوسي في المعسول نقلا عن مذكرات المانوزي 3/ 311: بأنها “من كبريات مدارس هشتوكة، لكثرة قبيلتها، ولها أيضا ثروة عظيمة، ولها سوق عظيم يوم الجمعة، يرده أهل الآفاق والإفطار، ولها مطامير من الزرع كثيرة، وتقرؤ فيها القراءات السبع وغيرها..”.
وبقي المترجم في مدرسة سيدي بوسحاب يدرس ويعلم ويربي ويفتي وينصح إلى أن التحق بالرفيق الأعلى، وللآخرة خير من الأولى، فرحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جنانه، فتبين أنه مشارط 52 سنة متصلةـ أي أكثر من نصف قرن، فتخرج على يديه على طول هذه المدة المذكورة عدد من الطلبة طبقا عن طبق.
تلاميذه:
تخرج على يد المرحوم سيدي أحمد مولاي الإدريسي طائفة من الطلبة، وبعد اتصالات مع بعض تلاميذه عددوا لي بعض أسمائهم بدءا بابنه ووارث سره الفقيه سيدي مولاي محمد بن أحمد الإدريسي، والحاج حسن الهشتوكي العزاوي فقيه مدرسة إمي ونسيس بضواحي أيت ميلك، وسي الحسن المرسي البوشواري شاعر أديب، والحاج امحمد البصير إمام مسجد بالحي الحسني، وسيدي محمد الشياضمي أجكرو إمام مسجد أيت ملول، وسي عثمان الشياضمي إمام مسجد بدمسيرة، وفقيه مدرية أنسيس سي حسن البوعزاوي، وسيدي حسن البرهيشي إمام وخطيب بأكادير، وأبو مدين أحمد الأساوي، وسيدي الحاج علي البشواري فقيه مدرسة إغرايسن، والحاج الحسن البوشواري الدشيري، وسي ماء العينين وأحمد الصحراويين وغيرهم من مئات الطلبة الذين يتعذر ذكرهم جميعا في هذه العجالة، أخذوا عن الشيخ حفظ القرآن الكريم ممزوجا بالعلوم الشرعية.
وأخبرني سيدي أحمد الأساوي أحد تلاميذ الشيخ أخذ عنه سنة 1976 ويوجد وقتها هناك حوالي 30 طالبا، وما زالوا يتوافدون حتى عمرت حوانيت المدرسة بالكلية، وصارت مدرسة سيدي بوسحاب في وقته كعبة القصاد، حتى ضاقت بهم المدرسة، فوضعوا خياما فوق أسطح المدرسة يبيتون فيها.
وكان رحمه الله يُدرس المتون العلمية بالنهار، وألواح القرآن يصححها بالليل، ويوصي طلبته ألا يتعمقوا في القراءات، ولا يدرسها لطلبته، ويحثهم على التفقه في العلم الشرعي، وإذا انتهى من تصحيح الألواح ليلا؛ يبيت في بيته التي تبعد عن المدرسة حوالي ثلاث كيلومترات، إلى أن تقدم سنه فاتخذ بغلة يركبها جيئة وذهابا، وكان دأبه رحمه الله الحضور في المدرسة قبل الفجر بساعة، إلى أن عجز بالكلية عن التدريس في أواخر حياته، فخلفه ابنه سيدي مولاي محمد.
وهناك من الفقهاء من يسجل أسماء الطلبة وعددهم، لكن الفقيه لا يبالي بذلك، فقد أخبرني نجله سيدي مولاي محمد أنه زاره الفقيه سيدي محمد العتيقي الإلغي، والدكتور الحسن العبادي، والأديب سيدي محمد العثماني، والفقيه رشيد بن المسلوت، وغيرهم وانجر الكلام ببعضهم إلى مساءلة الشيخ عن عدد تلاميذه فقال: لا نهتم بذلك، فمن قال لكم أخذ عني فهو تلميذي، ومن قال لا فلا.
منهجه في تربية طلبته:
أخبرني تلميذه أبو مدين أحمد أنه أخذ عنه في أواخر السبعينات، وكان عدد الطلبة وقتها ما بين التسعين والمائة، فكان رحمه الله يدق أبواب غرف الطلبة واحدة واحدة في جميع الصلوات، وبالخصوص صلاة الفجر ويردد بيتا مشهورا
عليكم بالصلاة في الأوقات * فإنها من أفضل الخيرات
وجرت عادته أن يدق أبواب حوانيت الطلبة بمفتاح حديدي كبير في رأسه دائرة، بدقات خفيفة ويردد البيت المذكور أمام كل حانوت ولا يمل من ذلك، مع أن المدرسة السحابية تكون دائما عامرة بالطلبة، لا يقلون عادة عن المائة، وعرف عنه أنه يكرم طلبته ويبالغ في توقيرهم، واحترامهم.
وعمَّر رحمه الله مدرسة سيدي بوسحاب بالجهاد بالتدريس، والإقراء، والإفتاء، والتربية والتوجيه، وإرشاد العامة، فأقبل إليه الطلبة من كل حدب وصوب، خاصة في الشياضمة والصحراء، فأحرى البلاد الجزولية سهلا وجبلا، فطوى الزمن جهوده العلمية كطي السجل للكتاب.
صفاته:
كان رحمه الله صالحا ورعاً يحب الخلق أجمعين، مع الاستقامة في الدين، والزهد في المطامع، ورفعه لهمته، وتعظيمه لمشايخه، والجرأة في قول الحق، وله خصال انفرد بها بين معاصريه، فقد جمع بين تحفيظ القرآن الكريم، وتدريس العلم الشرعي، وتلقين الأوراد للمريدين، فكأنه اجتمعت في مدرسته ثلاث مدارس قرآنية وعلمية وصوفية، فهو مقرئ، وعالم، وصوفي، ومصلح، وهذه نادرة لا نعرف أحداً من معاصريه اجتمعت فيه هذه الخصال القرآنية والعلمية والروحية.
وكلامه رحمه الله يدخل إلى قلوب الجميع دون استئذان، في كل وقت وآن، وعليه هيبة العلماء الغابرين، وسمت الصلحاء الماضين، مع تربية صادقة، وإخلاص تام لخدمة القرآن وإكرام أهله، فهو رحمه الله من الصوفيين الصادقين الذي قل مثلهم في سوس لانقراض طبقته كالفقيه سيدي الحاج أحمد ندار ومان، والفقيه سيدي الحاج محمد البوشواري، فقيه مدرسة أيت اعزا، ونظرائهم.
ولئن كان الرجل من الذين تطأطئ لهم الرءوس بسوس ونواحيها، وقبائل الشياضمة وأحوازها، إكباراً لمنزلته، ووقارا لعلمه، واحتراماً لمكانته، فإنه لا ينشغل بذلك ولا يستميله، ولا يسعى لزيادته، وإن كانت شهرته في كل تلك النواحي طنانة.
وبالجملة فلو لم يكن من محاسنه رحمه الله إلا تركه من يخلفه لكفاه فخرا، فقد عجز معاصروه عن صنيعه، وتعذر على من في طبقته في سوس ترك خليفة مثله، فكيف بأحسن منه، والحمد لله على بقاء السر في محله.
مآثره ومقيداته:
للشيخ كنانيش كثيرة، وتعليقات على طرر الكتب، وجملة من متفرقات أخباره، ومراسلات دونها في أوراق، أخبرني نجله سيدي مولاي محمد أن له فتاوى كثيرة يوجد بعضها بخطه عنده، وأكثرها شفاهي استفتاه فيها العامة والخاصة، وله رسالة في السلم والأمن، وخواطر صوفية، وفوائد طبية، وغيرها من الأمور والفوائد التي قيدها رحمه الله في حياته.
وأفادني الفقيه سيدي الحاج أحمد بن التاجر أن المرحوم نظم قصيدة بمناسبة بزوغ طلعة الربيع النبوي في تنالت، احتفاء بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وابتهاجا وفرحا به، وقرأها على شيخه سيدي الحاج الحبيب في أحد مجالسه العلمية فأعجبته كثيرا، فضحك وهش وبش، وبالغ في الثناء عليه، ودعا له بالفتح والبركة.
حسن ظنه في الخلائق أجمعين:
ومن روائع تطبيقاته؛ ما أخبرني به الفقيه الحاج أحمد بن التاجر أن المرحوم اشترى لوحة كبيرة جدا بمراكش، ولما جلس الطلبة في المجلس وهم حوالي 160 طالباً، دخل فطلب من كل واحد منهم أن يكتب له شيئا في لوحته تفاؤلا ببركتهم، ورجاء نفعهم، فبعضهم كتب الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وآخر البسملة، وآخر حكمة بالغة، أو فائدة نادرة، وهلم جرا.
ولو لم يحسن الظن بالجميع لما كلف نفسه الذهاب لمراكش والبحث عن لوحة كبيرة، وتحمل أعباء الطريق، وطلب المدد والبركة من أصدقائه، وهذه نادرة انفرد بها لا أظنها وقعت لأحد على كثرة تراجم العلماء الموجودة في سوس، والتي قدرها بعض الباحثين بـما يقرب من 2500 ترجمة، علما بأنه يقع بين المتعاصرين ما لا يخفى، حتى قيل: خلاف الأقران يُطوى ولا يُروى.
وكان يردد دوما في دعائه: “اللهم إني أحب العالمين أجمعين يسرني ما يسرهم، ويحزنني ما يحزنهم” ثلاث مرات، للدلالة على صفاء الطوية، وحسن السريرة، أجمع من سألته عنه أنه كان آية في سلامة الصدر، معمور الأوقات بالأوراد، مواظبا على أوقات العبادات، مكثرا من فضائل الأعمال والطاعات، فلا يظن في الخلائق أجمين إلا الخير والصلاح، وتلك طبيعة روحية انغرست فيه رحمه الله قديما، وإن شئت قلت عرق قديم نزع إليه من أصوله.
وأفادني معاصره الفقيه أحمد اليربوعي أنه درس معه في تنالت، وعدد لي بعض خواصه منها أنه لا يدعو لأحد بشر، مهما كانت ديانته، حتى اليهود والنصارى كان يقول: لا تدعوا لهم بالشر والضلالة، ولكن ادعوا لهم بالعفو والهداية.
كراماته:
يتحرج كثيرون من ذكر الكرامات في هذا العصر ولا حرج، فكتب علماء سوس عامرة بها كالصفوة للإفراني، والبشارة للكرامي، والطبقات للحضيكي، وتبيين الأشراف للبعقيلي، فكلها مليئة بمرويات كشوفاتهم، طافحة بأخبار قصصهم، ولو انتدب لها أحد فجمعها، لجاءت في مجلد. والكشف كما قال أهل المعرفة إنما يظهر الحقائق، لا أنه يهدم الشرائع، والعجب أن جنس هذه الأمور ينكرها من يظن نفسه عالما، بل ومَن تجري عليه تلك الصفة، والناس أعداء ما جهلوه كما يقال.
والحاصل أن كرامات الشيخ كثيرة انتخبت منها هاتين الأولى: زاره بعض المقرئين، وما أكثر زواره، فقال لبعض رفقائه في الطريق: سيدي الحاج أحمد درويش ومجذوب رباني، وأضاف إلى ذلك كلاما فسر به لغوه، فلما وصلوا رحب بهم كثيرا، وبدأ يرشهم بالعطور الزكية حتى وصل إلى ذاك الذي لغا فقال له: بعد أن أفاض عليه الروائح الزكية: مرحبا بك نحن المجاذيب نرحب بالجميع.
لا يسعد الناس في قول وفي عمل * إلا امرؤ طيب الأخلاق والشيم
فسكت ذاك الطالْب وكان لسان حاله وقتها يتلو قوله تعالى “يا ليتني مت قبل هذا” فاتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، أخبرني بهذه القصة تلميذه سيدي أحمد بومديان إمام مسجد أيت عمرو بهشتوكة.
الثانية: أخبرني بها ابنه سيدي مولاي محمد، وهي أنه ذهب للحج مع رفقائه، في أول القرن الخامس عشر 1400 هجرية، الموافق لسنة 1981 فإذا هم يطوفون أوقفهم سيدي الحاج مولاي أحمد فجأة، فقال لهم: ارفعوا أيديكم لندعو الله تعالى، فإن هولاً ومصيبة ستقع في المدرسة، نرجو من الله تعالى أن تكون خارجها.
وكان قبل ذهابه جمع الطلبة فقدم عليهم مقدما لتدبير شؤونهم إلى حين رجوعه، قائلا لهم: من أراد أن يذهب لبلاده فليذهب الآن، وإلا حتى أرجع، فصادف ذهابه للحج موسم سيدي بيبي، فذهب مقدم الطلبة مع صديق له إليه، وركبا في شاحنة، فانقلبت قرب إمي إمقورن وماتا معا، وكانت تلك الحادثة وقعت قبل أيام قليلة من دعائه المذكور، وكل رفقائه تعجبوا من صحة كشفه، وغرابة توقعه، فهذه كرامة عجيبة تدل على قوة صلاحه.
شهادة بعض زملائه وزواره :
سأقتصر في هذه المقالة على شهادتين الأولى لصديقه سيدي الحاج أحمد اليربوعي، والثانية للفقيه سيدي محمد مستقيم، وكلاهما والحمد لله فيها خير وفائدة، أما تلاميذه كثر علي أزيد شهادتهم إن توصلت بها لاحقا.
شهادة الفقيه أحمد اليربوعي:
سيدي الحاج أحمد الإدريسي فقيه مدرسة سيدي بوسحاب.. هو عالم رباني منذ أن كان شابا يحب القرآن والعلم، وكلما يؤدي إلى المعرفة الحقيقية، وكان من أخص تلاميذ سيدي الحاج الحبيب لما حصل من القرآن ما حصل أرسله شيخه لمدرسة سيدي بوسحاب، وما زال مرابطا فيها إلا أن توفاه الله تعالى. وعُرف عنه أنه كريم السجايا، كريم العطاء، يحب الناس جميعا ويدعو لهم جميعا، وهو صريح في الحق بكل شجاعة لا يخاف في الله لومة لائم، وما شهدنا إلا بما علمنا، ولكن الغيب يعلمه الله تعالى، وترك من الطلبة والمريدين ومن المحبين ما عسى أن يكونوا بإذن الله خير خلف لخير سلف اهـ بتصرف يسير. وهذه الشهادة مرئية نشرها موقع أش واقع.
وليس سرا أن الشهادة وقت التعزية يكون صاحبها ضيق النفس، مكدر الخاطر، مضطرب المزاج، لأن مقام التعزية والدفن يقتضيان ذلك، فاتصلت بالفقيه أحمد اليربوعي بعد ذلك لما كان في نقيض الأوصاف المذكورة، فأضاف: هو شخص رباني لا يتزلف لأحد مهما كان منصبه، ولا يتكلف في كلامه يتحدث كيفما اتفق، وربما خلط العربية بالشلحة، والدارجة أحيانا، بعيدا عن تصنع الكلام، وزخرفة الأقوال، يصرح بما يعتقده كيف ما كان ولا يبالي، وإذا ذكرت له كتابا ولم يوجد عنده يكلفك أن تشتريه له، شغوفا بأخذ المفيد فيها، ويدفع لك ثمنه، فهو صوفي كبير، ومربي صالح، كثير الذكر، لا يشبع من تلاوة القرآن، عاضا بالنواجد على سنن الماضين، متبعا طريقة شيوخ سوس القدماء السابقين.
شهادة الفقيه محمد مستقيم:
الفقيه النبيه الشريف العفيف الزاهد العابد المرابط المجاهد الصالح الناصح سيدي الحاج أحمد بن محمد بن أحمد الإدريسي اللحياني البوزياوي الهشتوكي ولي من أولياء الله، أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحدا (وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين) وقد زرته في مجلسه بمدرسة سيدي بوسحاب بقبيلة إداگران في شهر رجب 1411ه‍ يناير 1991م برفقة بعض الأصدقاء فرحب بنا وأطعمنا وأكرمنا، وحضرنا درسا له في سرد وشرح صحيح الإمام البخاري، فاستفدت منه هذه العبارة: “فقه البخاري في تراجمه” فهو شيخي فيها وأعتز بذلك أيما اعتزاز.
وأثناء دعائه التقطت منه دعاء لم أسمعه من قبل ولا بعد وهو “اللهم إنا نسألك الفتح وقوة الفتح” فقطع دعاءه ليعلق على هذا الدعاء بأن الفتح إن لم تصحبه قوة من الله للمفتوح عليه فهو صعب التحمل.
فنسأل الله تعالى أن يرحمه برحمته الواسعة، وأن يسكنه جناته الفسيحة، مع الذين أنعم عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، كتبه محمد مستقيم البعقيلي قبل أذان مغرب يوم الاثنين 21 ربيع الآخر 1442ه‍ / 7 دجنبر 2020م.
وفاته:
توفي رحمه الله حوالي الواحدة ليلا، يوم الاثنين 21 ربيع الثاني 1442 هجرية الموافق لـ:07 دجنبر 2020 عن عمر ناهز 93 سنة، وغسله وكفنه وصلى عليه ابنه الفقيه سيدي مولاي محمد الإدريسي، وصلى عليه خلق كثير يزيدون على الألف، في ساحة كبيرة قرب المدرسة ضاقت رحابها بكثرة المتشيعين.
وصادفَت وفاته رحمه الله تشديد الإجراءات الاحترازية لوباء فيروس كورونا، وإجبار التباعد الاجتماعي؛ إلا أن هول الفاجعة، وعظم المصيبة، وكذا محبة الشيخ ومكانته الروحية أنستهم خطورة ما هم فيه، ودفن بقبة بجوار بيته بناها بعض المحسنين اقترح علي الشيخ بناءها فاستحسن فكرته.
وكانت ولادته ليلة الجمعة كما أفادني ابنه سيدي مولاي محمد، ووفاته ليلة الاثنين، فكلا التوقيتين فيه بركة ظاهرة، بدءاً وانتهاء، وصادف يوم وفاته ليلة ختمة القرآن على طريقة الحزب الراتب في مساجد المملكة، فكلها إشارات تدل على تظافر المصادفات الحسنة، واجتماع المحاسن الفاضلة، فرحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جنانه، إنا لله وإنا إليه راجعون.
وكتبه الحسين أكروم ببوكرى مساء يوم السبت 26 ربيع الثاني 1442 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، الموافق لـ:11 دجنبر 2020.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *