وجهة نظر

في الذكرى العاشرة للثورة التونسية: الانتقال والتحول الديمقراطي بتونس بين النجاح والإخفاق

شهدت البلاد التونسية حراك شعبي ضد الاستبداد والتهميش والمطالبة بالحقوق السياسية والتشغيل والديمقراطية ،وتوج بالثورة وهي حركة تصحيحية للمسار والنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثفافي والديني للدولة الوطنية ،التي اعتمدت في نظامها السياسي النموذج الغربي ثم الاشتراكي، بعد الغاء الملكية سنة 1957،ومرده الى تاثر النخبة التونسية بزعامة الرئيس الحبيب بورقيبة التي درست بفرنسا بالنموذج الغربي وهو في الحقيقة مشروع إنساني للتقدم والتطور والنهضة وللتنوير وارث عالمي لكل الشعوب والإنسانية جمعاء ،لقد استلهمت منه العديد من الدول مشروعه ومبادئه وأفكاره وعتمدته كنظام سياسي ،بعد التمحيص والتدقيق والتعديل والتقييم والتكيف مع البيئه والموروث وإرث الحضاري والثقافي والديني، ونجحت في وتوطينه وتأسيس وترسيخ دولة المواطنة والديمقراطية والمساواة والعدالة والتسامح والتوافق والتعايش والمؤسسات الدستورية،وتحقيق النهضة والتطور والتنمية والحكامة على كافة المجالات والمستويات،وقد طبقته واعتمدته الدولة التونسية ،ونتائجه كانت دون المستوى والطموحات وامال الشعب ،ومرده الى عدة اسباب ،وتمثلت في الإسقاطات الفوقية للمشروع بدون تعديل، وعدم تهيئة البيئة الحاضنة وتكييفها ومزاوجتها مع البناء و رصيد الحضارة العربية الإسلامية والذهنية التونسية ،كلها مجتمعة ، انعكست سلبيا وساهمت في اضطراب وجمود وتعثر تجربة الانتقال والتحول الديمقراطي بتونس منذ2011، فيما تمثلت أسبابها ؟ كيف يمكن استلهام الإخفاق والفشل وتحويله إلى نجاح للثورة التونسية والانتقال والتحول الديمقراطي واعتماده كنموذج لبقية الدول ؟.

الدولة الوطنية هي الفضاء والخيمة والرقعة التي تجمع كل التونسيات والتونسيين منذ استرداد الاستقلال سنة 1956، ولابد من الحديث عنها ،وتعديد انجازاتها والافتخار والاعتزاز بالانتماء إليها ،وبما قدمته وحققته للشعب التونسي من مكاسب،والمتمثلة في النظام الجمهوري والمؤسسات والتعليم والجامعة والصحة وغيرها ،وقد اصابها الوهن والضعف والشيخوخة ،ولابد من وقفة تأمل ،للتقييم والتصحيح الخلل والاخفاق وتحصين هذه الانجازات والمكتسبات من الهزات والمحافظة على استمراريتة وديمومة الدولة التونسية .

وقد تاثرت النخبة والقيادة التونسية متمثلة في الرئيس الحبيب بورقيبة(1956-1987) بالنموج الغربي(الراسمالي والاشتراكي ) وهذه التجربة عمرها أربع وستين سنه ، وحققت الدولة الوطنية عدة انجازات تجسدت في الجمهورية الأولى (1957-1987) ،وفي الجمهورية الثانية (1987-2011) ، وقد فشلت في تحقيق مشروعها المتمثل بتوطين دولة المواطنة والحداثة والعلمانية والهوية والديمقراطية والحرية وحقوق الانسان والتنمية في الجهات، بسبب الاستبداد والرئاسة مدى الحياة وتجربة نظام التعاضديات والاشتراكية وغيرها ، وقد ساهمت كلها هذه الاخفاقات في حراك شعبي واندلاع الثورة التونسية ،وتأسيس الجمهورية الثالثة ،وبالرغم من قصر الفترة والمدة من (2011-2020) ، وهي في الواقع تعتبر حركة تصحيحية للمسار السياسي والاخلالات والاخفاقات التي عرفتها الدولة ، وقد اضافت مكتسبات جديدة الى الدولة التونسية ،وتمثلت في الدستور والحرية والديمقراطية والتداول السلمي على السلطة وتسعى الى توطين دولة المواطنة، وبالرغم من كل ذلك ،تعثرت تجربة التحول والانتقال الديمقراطي بتونس،وبقيت تراوح مكانها، بل نجدها مهددة بالسقوط وانقلاب من قبل الثورة المضادة وقوى الاستبداد ،ومرد كل هذا إلى التصحر السياسي والثقافي والديني، وارتهان القرار السياسي والتدخلات الخارجية، وغياب الزاعمات والقيادات السياسية ،التي تقدم المصلحة الوطنية ،على المصلحة الحزبية والفكرية الضيقة ،وبالاضافة الى التراكمات والترسبات السابقة، من الاستبداد وغياب الوعي والثقافة الديمقراطية، والذهنية والتكلس الفكري والتصحر والإقصاء ،ورفض القيام بالمراجعات المطلوبة ومسايرة والتكيف مع الاوضاع الاقليمية والدولية.

والملاحظ بان أسباب فشل التجربة التونسية متعددة ومتنوعة،وأبرزها يعود الى تحريف النموذج الغربي وهذا يحيلنا الى الحديث عن تجربة الحداثة أو التحديث المجتمع التونسي منذ سنة 1956 التي اقتبست بدون تعديل وتكييف ،والتي أصبحت في حاجة ماسة إلى قراءة جديدة واستشراف ومراجعة ودراسة وتعديل ،بسبب نتائجها الهزيلة والعكسية، وارتداداتها وإخفاقاتها على الفرد والمجتمع والدولة التونسية.

وفي الحقيقة كانت تجربة الحداثة او التحديث المسقطة على دولة الاستقلال ،والتي لم تهيئه لها الارضية المناسبة للنجاح ،و لم تنطلق من الرصيد السابق وايجابيات الموروث الثقافي والحضاري وتكيف مع البيئة التونسية ،مثلما فعلت العديد من الدول كاليابان وكوريا الجنوبية وغيرها ،كل هذا نتج عنه ، ولادة قيصرية ،ولادة جنين مشوه ،لا ينتمي للحداثة لا من القريب أو البعيد ،وهي في حاجة إلى التقييم والتمحيص والتصحيح ، وعلى الرغم من ايجابياتها ، مثل مجلة أحوال الشخصية وغيرها ،واما سلبيتها فهي عديدة مثل إلغائها الوقف fondation Le بالرغم من وجودها في الدول الغربية .

واما النقطة الثانية التي ساهمت في الفشل ،هي تطبيق العلمانية الفرنسية ، والتي تعرف بالمبدأ القائم على فصلِ الحكومة ومؤسساتها والسّلطة السّياسيّة، عن السّلطة الدّينيّة ،والعلمانية التي طبقت هي العلمانية اليعقوبية الفرنسية المتطرفة ،التي تعادي الدين ،وهي مخالفة للدستور والبيئة التونسية ،وقد ساهمت في التطرف والغلو لدى الشباب،وفي هذا الإطار لابد ،من التفتح والاقتداء بالنماذج العلمانية الغربية المعتدلة ،والموجودة في كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة البريطانية والدول الاسكندينافية ، وغيرها من النماذج الناجحة والمتصالحة مع بيئتها ومحيطها .

واما النقطة الثالثة فهي الهوية، التي بقيت متذبذبة وتعيش في أزمة وتقوقع، بسبب الصرعات السياسية والفكرية والتراكمات السابقة والأخطاء المرتكبة ،المثلثة في ضرب الدين واللغة العربية وإقصائها وتقزيمها ،وعدم إعطائها المكانة اللائقة والمرموقة في المجتمع التونسي ،هذا لا ينفي ضرورة تعلم وإتقان اللغات الأجنبية ،كالانكليزية والفرنسية والروسية والصينية وغيرها ،ولابد من التمكن منهم وتدريسها في المدارس والمعاهد والجامعات، لكي نستطيع هضم العلوم والتكنولوجيا ونقلها الى اللغة العربية ، والمطلوب المصالحة ورد الاعتبار إلى الدين واللغة العربية ،واعتبار اللغة العربية موروث ثقافي وحضاري ساهمت فيه كل الشعوب العربية والإسلامية، وهي مكسب حضاري وانساني ،والهوية التونسية لابد ان تقوم على ثلاث أبعاد، هي الامازيغية والعربية والإفريقية ،ولها العمق المغاربي والعربي والإفريقي. وفي هذا المجال لابد من الحديث النقطة الرابعة ،والمتمثلة في الإصلاح ديني، بعد الجمود والتصحر الديني الذي عرفته البلاد التونسية من(1956-2011)، ولكن في هذا الاطار لابد من تساؤل عن وأي إصلاح ديني نريده تطبيقه ،لتحصين الشباب والناشئة التونسية من التطرف والغلو، ومن التيارات الهدامة ،مثل عبادة الشيطان وغيرها ،وبإعادة المكانة والإشعاع إلى الجامعة الزيتونة ،وبإصلاح برامجها ومناهجها ،لتخريج العلماء والمفكرين والمصلحين المعتدلين والمتفتحين،ومهمتهم توعية وتحصين الشباب، وإبعاده من التطرف والإرهاب والهجرة السرية . و في هذا الإطار لابد من إصلاح الناشئة ،من خلال إعادة الاعتبار لكل من المدرسة والأسرة والعائلة التونسية والتي استقالت من مهامها، وعزفت عن القيام بدورها في المتابعه والتربية والصقل الناشئة ،والوصول الى خلق بناءه جيل جديد معتدل ومتسامح ومتفتح ومتأصل في هويته وإنسانيته، وما نلاحظه اليوم من خلال الدراسات والابحاث والإحصاءات الصادرة ،التي تبرز تصدر تونس واحتلالها المراتب الأولى، في الطلاق والتفكك الأسري والعنف المدرسي والإجرام ،كل هذا بسب غياب الاسرة وتفكك العائلة التونسية ،وتونس اليوم إلى جانب كل مما سبق ذكره ،مهددة بالشيخوخة،بسبب ضعف نسبة الولادات والعزوف عن الزواج والإنجاب ، بالاضافة الى سياسة تحديد النسل ، وهي في حاجة إلى المراجعة والتعديل ، وعلى الدولة التونسية أن تقوم بواجباتها اتجاه النشء،وتقرر عدة اجراءات متمثلة في منح المرأة و العائلة التونسية والتي لها أبناء، امتيازات ومنح، وكالتفرغ على العمل براتب أو العمل بنصف وقت، والتفرغ للتربية وتخريج جيل جديد متوازن ،يحب العمل ويقدس الوقت ويثمنه ومعتدل ،بعيد عن التطرف والمغالات ،ولابد من التشجيع وتحفيز على الزواج وانجاب الاطفال .

وبناءا على ما سبق ،لابد من إصلاح المدرسة والجامعة التونسية والتعليم بكافة مستوياته والتكوين المهني،ومعالجة ظاهرة الانقطاع والتسرب والعنف المدرسي ،ورفض كل المشاريع التربوية المستودة والمسقطة ،وبضرورة الاستئناس والتفتح على التجارب الانسانية، كالانقلوسكسونية واليابانية والاسكندنافية وغيرها من التجارب الناجحة والتي احتلت المراتب الأولى في التصنيفات العالمية .

وفي هذا الاطار لابد من الاهتمام بالثقافة وإصلاحها ، واعتبارها قاطرة للنهضة والتقدم ،ورصد لها ميزانية معتبرة، والاهتمام وتشجيع على التأليف والترجمة والإبداع والابتكار ،ورصد جوائز سنوية للكتاب والمفكرين والعلماء.

وللخروج من هذه الأزمة متعددة الجوانب،لابد من تشكيل مراكز وللجان، للقيام بالدراسات والبحوث لمعالجة ظواهر التي ساهمت في الفشل الدولة الوطنية والانتقال والتحول الديمقراطي مثل الاستبداد والتصحر السياسي والثقافي والديني، والتكلس الفكري والتطرف ،والاقتراح الحلول، والعمل على تغيير الذهنيات ،والمرحلة اليوم تتطلب ايضا، فتح حوار عميق بين الشركاء ،وبالدعوة إلى التعايش والتوافق ،والقيام بالمراجعات الفكرية والسياسية ،وغرس تقاليد جديدة والتشجيع على الممارسة الديمقراطية ،وتعديد ايجابيتها ومحاسنها ،واعتبارها مفتاح للتقدم والنهضة وديمومة الدولة، وتطور المؤسسات ،واخلقه الحياة السياسية، والحكامة ومحاربة الرشوة والفساد ونشر الوعي ، وتنصيب وتاسيس المحكمة الدستوربة للوصول إلى دولة المواطنة لكل التونسيين والتونسيات، والنخب السياسية مطالبة بالقيام بمرجعات فكرية مستمرة، والابتعاد عن الإقصاء ونبذ الفرقة والجهوية ،ولابد من الإنصات إلى العلماء والمفكرين ،وإحداث مراكز للبحوث والدراسات الاستشرافية ،تهتم بالفرد والمجتمع والدولة ،ومعالجة ظاهرة الفقر ، وبتاسيس صندوق للفقراء تجمع فيه اموال الزكاة والتبرعات والهيبات ، وإلحاقه بوزارة المالية، وإرجاع الوقف ومنح الإشراف عليه الى وزارة الشؤون الدينية ،والتفكير في منوال التنموي جديد والحكامة وعقد اجتماعي ،وابرام هدنة بين الأحزاب والحساسيات السياسية والفكرية،وتونس الجديدة لكل أبنائها ،وشعارها الوطن للجميع والدين لله …

و في هذا المجال لابد من غرس تقاليد جديدة،لتخليد المآثر والاعتراف بجميل للمفكرين والعلماء ،وجعلهم قدوة للشباب والناشئة ، بإطلاق أسمائهم على دور الثقافة والشباب ،والمدارس والمعاهد والجامعات والمستشفيات،والطرقات والانهج والساحات العامة ،وبتنظيم الندوات والحصص الإذاعية والتلفزية ،والبرامج الوثائقية والمسلسلات،لتعريف بهم وبسيرهم وخصالهم العطرة،وإحداث جوائز سنوية باسمائهم ، في شتى العلوم والتكنولوجيا..

وفي الحقيقة هذه الأفكار وغيرها، هي ارهاصات لمشروع دولة مدنية، وتوطن المواطنة وترسخ التقاليد الديمقراطية ، وخاريطة طريق تعيد البوصلة إلى الدولة الوطنية والى الانتقال والتحول الديمقراطي ، وتصحح الأخطاء وترمم الجراح ،وتدعوا الى المصالحة والتوافق والتعايش بين أفراد الشعب التونسي ،وتضخ فيها دماء جديدة ، وتغرس في الناشئة والشباب والكهول الاعتزاز بالانتماء للوطن التونسي ، الصغير في حجمه والكبير في تاريخه ،وتستشرف المستقبل الواعد للنظام الديمقراطي…

* الدكتور حبيب حسن اللولب. أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر. رئيس جمعية (مركز) البحوث والدراسات من اجل اتحاد المغرب العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *