وجهة نظر

التضخم السياسي عند الحركة الإسلامية.. تحول طبيعي أم انحراف منهجي؟

كانت حركة التوحيد والإصلاح المغربية من التجارب الرصينة والمتميزة في العمل الإسلامي، وكان سرّ تميزها إدراكُها الأهمية الكبرى لمبدأ التوازن في وسائل الاشتغال، وهو المبدأ الذي يعكس متانة الفعل الحركي الإسلامي وقوته. بل يمكن القول إن استهداف الحركة الإسلامية عموما إنما يكون من جهة هذا المبدأ على وجه الخصوص، باستدراجها إلى التخلي عنه بأساليب مختلفة، لأنه المبدأ العملي الذي عليه مدار العمل الديني، وبه تتجلى الأمة الوسط، والنجاح في تطبيقه نجاح في تنزيل الدين وجعله في قلب المدافعة الشاملة. لكن تخلي الحركة عن هذا المبدأ وارتمائها كليا في أحضان العمل السياسي كان خطأ استراتيجيا يهدم هذا المبدأ ويقلب سلم أولوياته رأسا على عقب، لأن مبدأ التوازن ذاك هو الذي دعاها إلى تبني مقاربة المشاركة السياسية، وهو المبدأ الذي يربط المنهج القرآني نجاحَ تطبيقه بمعيار سمو القيم الدينية في المجتمع وليس بعدد المناصب السياسية التي يتم الظفر بها.

من حق الحركة الإسلامية أن تتحول إلى حزب سياسي، لكن عليها أن تصوغ ذلك بوضوح، وألا تتلاعب بالألفاظ، وأن تبرز طبيعة العلاقة بين تبنيها رؤية المشروع الإصلاحي الشامل الذي مركزه الدعوي التربوي وبين استبطانها أولوية السياسي الحزبي في الإصلاح والتغيير، لأن الغموض ههنا يتجاوز إضراره “بالتنظيم الوسيلة” ليمس القيم والتدين وينذر بطغيان العقيدة السياسية المضطربة على خطاب وسلوك أبنائها، بل يهدد بانقطاع الحركة عن ثوابتها المرجعية الدينية التي تشكل روحها وماهيتها واستبدالها بقواعد أخرى ذات أصول مذهبية سياسية مناقضة.

فرضية التحول الطبيعي

نتساءل أحيانا؛ هل هذه هي الصورة التي كنا نرسمها عن الحركة الإسلامية، بأن ينتهي بها الأمر في آخر المطاف إلى مجرد فاعل أو مفعول به في المشهد السياسي؟ لكننا عندما نمعن النظر في أصل نشأة الحركة الإسلامية، نجد أن ولادتها كانت جوابا عن سؤال: لماذا يتم إقصاء الدين من الحياة العامة؟ وأن أصابعها كانت تشير بوضوح إلى مسؤولية العامل السياسي، وبالضبط إلى السلطة الحاكمة. فكانت طريقة المعالجة في البداية ثورية انقلابية، والتي تبين مع الزمن أنها شبه مستحيلة، أو أن ضررها أكبر من نفعها، لتتبنى فيما بعد خيار المدافعة السلمية والاعتراف بمؤسسات الدولة وبإمكانية الإصلاح من داخلها، ولم يكن انشغالها بالدعوي والتربوي طيلة فترة التأسيس والتوسع إلا على سبيل الاستعداد لمرحلة المشاركة السياسية لتغيير الحال وإصلاحه من قمة الهرم بدل القاعدة.

فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يفاجئنا تحول الحركة الإسلامية إلى حزب سياسي؟ وبالتالي لماذا نعجب من شروعها في فك الارتباط بالقيم المرجعية وقضايا الهوية التي أسست عليها عملها؟ هل هناك معنى آخر للسياسة يمكن أن تباشره الحركة الإسلامية غير هذا الذي تتبناه السياسة البرغماتية المصلحية بعيدا عن المبادئ والأخلاق؟ أم أن صفة الإسلامية تحتم عليها أن تكون مختلفة ومرتبطة بالأخلاق؟

فرضية الانحراف المنهجي

رغم أن القرآن الكريم يحسم أصل الانحراف البشري ويجعله ذا طبيعة قيمية مفاهيمية بالأساس، وما يقتضيه ذلك من تحديد سديد لأولويات العمل الإصلاحي، ومن طول نفس في تحصين الفرد والمجتمع، ومن توازن في اختيار الوسائل والعمل بها، ومن جعل هذه الوسائل في خدمة الأصل وليس العكس، إلا أن الحركة الإسلامية من خلال تضخّم السياسي في خطابها وسلوكها، تكون قد جاوزت حد الوسط وخالفت المنهج القرآني، بشكل يجعل من التخصص السياسي يتعدى حده ويبتلع باقي الوسائل التي تعلو عليه، وعلى رأسها التربية والدعوة والتثقيف، كوظائف أساسية تسهم بشكل فعال في تحصين الإنسان فردا ومجتمعا، باعتبار ثبات هذه الوظائف على الأسس المرجعية، وما يتطلبه ذلك من جعل كل الوسائل خادمة لهذه الوظائف. وأصبح مفهوم الإصلاح عند الحركة الإسلامية مختزلا بالأساس في التغيير السياسي بمعناه الضيق والمضطرب والقاصر؛ وهو فعلا كذلك ضيق من حيث المساحة الهامشية التي يسمح له بالتحرك فيها، وهو أيضا مضطرب لأنه لا يرسو على أساس متين ويتقلب تقلب المصالح المادية، وهو أيضا قاصر لأنه يأخذ بالمعنى الجزئي للسياسة ومع ذلك يحاول أن يجعلها أمّ الوسائل، بينما السياسة من منطلق مدلولها العام “القيام على الأمر بما يصلحه” فهي داخلة في كل أعمال الإنسان، حتى أعماله مع ذاته، ومن ثَمّ فلا يعقل أن يكون واقع المساحة المخصصة للسياسة الحزبية هامشي وضيق ثُم نجد الحركة الإسلامية تلقي إليها بكل ما لديها من طاقات؛ إلا أن تكون هذه الحركة حزبا لا مشروعا متكاملا. وفي هذه الحالة، حتى تلك البقية الباقية التي يفترض أن تتهمّم بواجب التربية والدعوة والتثقيف تجعل مهمتها الأولى الذود عن العقيدة السياسية لحزبها، أكثر من التصدي للتحديات القيمية التي يعرفها المجتمع، و تصبح بالتالي المسألة التربوية الدعوية مجرد مرحلة ترافق فترة التأسيس وليست فعلا مركزيا أساسيا مستمرا. والنتيجة طبعا؛ قطائع منهجية مع الرؤية والتصور الذي يؤطر عمل الحركة باعتبارها إسلامية أولا وبكونها تتغيى تكوين الإنسان الصالح المصلح وفق المرجعية الدينية.

المفارقة بين الرؤية والمخرجات:

بعد أزيد من عقدين على تأسيس حركة التوحيد والإصلاح المغربية لحزب العدالة والتنمية، تجلى بوضوح أكبر -مع فترة المشاركة السياسية القوية- التضخم السياسي لديها وابتعادها عن أصول المنهج الذي تعاقد عليه أبناؤها. حيث نسجل الانحسار الكبير للوظيفة الأساسية للحركة، والمتمثلة في الدعوة والتربية كما تقول رؤيتها، مقابل انشغالها عن مهمتها الأولى بالمدافعة السياسية والدعم اللامشروط للتخصص السياسي، بشريا وسياسيا وتنظيميا وإعلاميا، فنتج عن ذلك ظهور الحركة الأم كجناح ضعيف تابع للحزب الذي ضم أغلب مؤسسيها ومواردها البشرية، ما جعلها تبدو تابعة للمزاج السياسي، بل عاجزة عن تقييم الوضع بناء على مبادئ ومنطلقات المنهج والرؤية التصورية رغم توالي تناقضات شريكها السياسي الذي يقوده مؤسسوها؛ مست قضايا جوهرية ومبدئية وأخلاقية في رؤية الحركة الأم وأوراقها وشعاراتها، واللائحة ربما ستطول مع الزمن لأن لائحة التنازلات في منظومة سياسية هشة لا تنتهي.

ومع التبرير الذي غلب على خطاب الحركة في مناقضة المنهج المؤطر والرؤية المؤسّسة، بدعوى المظلومية أو المؤامرة، لم يُلتفت غالبا إلى الخطير في ميزان الربح والخسارة، بكونه يسمح بنقض مبدأ مهم في المنهج ألا وهو مبدأ النسقية والانسجام؛ من خلال الإضرار بالثوابت التي تشكل روح الحركة وأصول نموذجها الإصلاحي وأساس العقد الجامع لأعضائها المحتكم إليه عند الاختلال المنهجي، حيث ستظهر الحركة في مخرجات غير منتظرة سيمتها التحول إلى عمل سياسي برغماتي يجعل المصلحة السياسية المادية ذات أولوية، ما يعني إحداث شرخ في الرؤية وبداية التأسيس لرؤية مضطربة غير متعاقد عليها في الأصل، وبالتالي نصبح أمام نسخة مشوهة وليست بحسب ما تمّ التنظير له والتعاقد عليه ابتداء.

مشكلة كهاته؛ لا يمكن أن تكون وليدة اليوم، بل ترجع إلى خلل منهجي لم يُلتفت إليه، أو بالأحرى تمّ غض الطرف عن خطره، ويتعلق بمحاولة إخفاء التضخم السياسي للحركة، ورفْض الاعتراف والبوح بأنها حركة سياسية من وسائلها الدعوة والتربية؛ وليس العكس. وهذا ديدن حركات الإسلام السياسي عموما، التي تصير أحزابا سياسية في حين تصرّ هي على أن تسمى بالمشاريع المجتمعية الشاملة.

اليوم بمناقشتنا لهذا الموضوع، غرضنا السؤال عن بعض القطائع والإشكالات المنهجية التي لا تريد الحركة الإجابة عنها بوضوح، أو فتح نقاش جدي حولها، والناتجة أساسا عن عدم قدرتها على تحقيق الانسجام الموسوعي لعملها مع رؤيتها بسبب التضخم السياسي لديها، ثم تقديم بعض المظاهر الواقعية التي تبرز تأثير هذا التضخم في سلوك الحركة.

أسئلة المشكلة:

لماذا تحاول الحركة أن تنفي عن نفسها التضخم السياسي؟ هل كان تحول جل قياداتها إلى العمل السياسي مجرد صدفة؟ أَ لأنّها تعي أن التسليم بذلك يعني تصادمها مع شمولية مرجعيتها الإسلامية؟ أم لأنها تخشى أن تُتهم بأن جعلت المسألة القيمة للفرد والأسرة-ذات الأولوية حسب القرآن الكريم- مجرد وسيلة وتكتيك للتمكن السياسي؟

لماذا تفضل الحركة هذا الالتباس؟ هل تخشى أن تتحول الحركة إلى حزب سياسي، وقد حصل تقريبا؟ هل لأنها تعرف أن هذا الاعتراف يوقعها في التناقض بين الطموح التربوي الأخلاقي الواسع والطموح السياسي الضيق، وبأن الأحزاب السياسية تنظيمات برغماتية سريعة التصادم مع القيم كما يدل على ذلك تاريخ أغلب الأحزاب إن لم نقل كلها؟ أم لأنها تعرف جيدا أن المساحة التي تتحرك فيها الأحزاب ضيقة وهامشية، وبالتالي تريد أن تكون جزءا من (التكتيك) السياسي وتبقي نفسها كنواة احتياط تحسبا لكل طارئ؟

لكن، لماذا الإصرار على رهن التربوي الدعوي بالسياسي، وما يعنيه ذلك من إجبار للطاقات التربوية والفكرية على الخمول والانتظارية والتبرير والاصطفاف انتصارا للاجتهاد السياسي المضطرب؟

لماذا هذا الاضطراب؟ أين الخلل؟ هل يتعلق الأمر بنزعات شخصية داخل الحركة الإسلامية تعتبر نفسها فوق الرؤى والتصورات، كانت تتحين الفرصة لكي تحقق رغباتها الأولى في التغيير السياسي؟ أم هو مجرد سوء تقدير مرتبط بحسم إشكالية زمن الإصلاح القيمي الطويل الأمد بالإصلاح السياسي القصير الأجل؟

هل لا بد من أن يقطف المؤسسون الثمرة السياسية للمشروع؟ ألا يثق المؤسسون أن إنبات الفكرة بشكل صحيح أولى من تعجل قطف ثمارها؟ أم أن مبدأ التدرج الحافظ لميزان المدافعة اختفى مع شهوة المناصب السياسية؟

ألم يدلنا ما يسمى بالربيع العربي أن الحركة تستبطن أولوية العمل السياسي على التخصص التربوي؟ ألم يُسْلمها الربيع إلى منطق الفرصة السياسية وحرفها عن رؤيتها الأصيلة الهادئة المتوازنة التي تأخذ بعين الاعتبار الانحطاط القيمي والوعي الجمعي الهش الذي يعرفه المجتمع؟ ألا يدل ذلك على أنها لا تقف على أرضية صلبة فيما يخص قضايا القيم والهوية والتربية وأنها مستعدة لتغيير جلدها في أي لحظة مقابل المكافأة السياسية؟ أم أن المشكلة مشكلة رؤية غير واضحة تتعلق بالعجز عن ضبط العلاقة بين السياسي والدعوي؟

لماذا تماطلت الحركة عن فكرة التمايز إذا كانت فعلا لا تستبطن تضخم السياسي؟ ألم يكن التمايز الحقيقي بين الدعوي والسياسي أقل ضررا من وضع كل البيض في سلة واحدة؟ ألم يكن ذلك أنسب لحماية الأصل من تضخم الفرع، وضرب الطاقة الدافعة للحركة في مقتل؟ أم أن معايير النجاح لديها تغيرت وأصبحت مادية محسوسة وليست قيمية روحية؟ ألا تخالف الحركة المنهج القرآني الداعي إلى الاهتمام بالضمير الأخلاقي للفرد والمجتمع كي يكون مقوِّماً لأي انحراف مهما كان نوعه، حتى لو كان هذا الانحراف من الأحزاب الإسلامية؟ أليست الحركة الإسلامية معرضة للفساد السياسي والمالي -كما كان يقول المرحوم عبد الله بها- إذا هي لم تحصن نفسها بالقدر الكافي؟ إذن فلماذا تتردد الحركة في أخذ المسألة القيمية بقوة؟

أسئلة كثيرة تعني في الحقيقة أن عملية نقدٍ تفرض نفسها لتصور تبنيناه عن منهج الحركة الإسلامية في الإصلاح، بل قد تعني أيضا فرضية بداية تشكل صورة جديدة ونموذج جديد له مميزات أخرى. فمنذ كنا يافعين وبالضبط من بداية التسعينيات داخل العمل الإسلامي ونحن نتفاعل أخذا وعطاء مع هذا الجهد الجماعي المقدر الذي أسهم في تصحيح مجموعة من التصورات المتعلقة بمفهوم الإصلاح وفق رؤية واضحة، وهذا ما لا يمكن إنكاره، لكن فجأة انحجبت الرؤية وسكت صوت الناقد الذي يذكّر بالمنهج ويسائل علاقة المخرجات بالرؤية، وغلب المزاج السياسي المضطرب، وأصبح الفرع مسيّرا ومسيّسا للأصل.

إن مبررات كثيرة تدفعنا إلى رؤية نقدية للصورة التي استقرت عليها الحركة (السياسية الدعوية) في السنوات الأخيرة، بعد أن تبدّت مجموعة من أجزاء هذه الصورة بشكل يسمح بتجلية الانحراف المنهجي الذي وقعت فيه الحركة. وذلك من خلال مؤشرات أبرزها:

انتقال أبرز المؤسسين إلى العمل السياسي، الواحد تلو الآخر، وظهور أولوية السياسي في تصور هذه القيادات لمخرجات الفعل الإصلاحي وعلاقته بالقيم، وحصره في مقاومة الفساد السياسي.

التحولات التي عرفها معنى التنظيم بين ادعاء البعد التعاقدي فيه وبين مزاج الأعضاء المؤسسين، وعودة منطق الاستبداد في اتخاذ القرار وشكلية المؤسسات.
اضطراب زوايا النظر للمسألة السياسية لدى الحركة وتجمّد الرؤية السياسية وتسويف أسئلتها المحرجة.

الإخفاقات والتناقضات التي عرفها ملف الإعلام إثر التحول الذي عرفه من مخاطبة البعد الفكري والتربوي والدعوي الذي تتخصص فيه الحركة إلى الرسائل السياسية اصطفافا خلف الحزب.

اتضاح معالم الإطار النظري للمنتَج التربوي الذي تعتبر الحركة نفسها تتخصص في ممارسته، من خلال إلحاق التربية بالتكوين الذي يفصل بين القيمي والمعرفي والمهاري، ويدرج التنظيمي والسياسي والنقابي في برنامج المنظومة التربوية للحركة.

مظاهر وتجليات:

للإيضاح أكثر، نقول إن فرضية استبطان الأولوية السياسية عند الحركة تتأكد من خلال مؤشرات مختلفة أبرزها:

أولا، اضطراب مفهوم الرمز الدعوي التربوي لدى الحركة. ففي الوقت الذي تصرّ فيه على أنها متخصصة في الدعوة والتربية، يسمح بعض رؤسائها ومسؤوليها الذين أسهموا في وضع مخططاتها ورسالتها ومنهجها الفكري والتربوي لأنفسهم بالتنصل من هذه الرمزية والتبرؤ منها، وهو اعتراف ضمني سيء بأن (السياسي الذكي) كان يسمح لنفسه بتسيير حركة دعوية تربوية وأن يرسم لها مسارها دون أن يكون معنيا بالانخراط الكامل والتسخير الكلي لتطوير العمل المركزي الذي تتخصص فيه الحركة. ألم يكن جديرا من الناحية الأخلاقية أن يخلص هؤلاء لذاك التأطير المنهجي للحركة عوض أن يضعوها في مفارقة محرجة: أنها تمارس الدعوة والتربية من أجل هدف سياسي محض؟

ثانيا، تحويل وسيلة إعلامية “جريدة التجديد” الناطقة باسم الحركة وبفكرها التجديدي عن الرؤية المنسجمة مع تخصص الحركة القائم على إعلاء القيم وتعزيزها في الفكر ومناهجه، والعمل ومسالكه، إلى وسيلة للمدافعة السياسية ضدا على تعاقدها الأصلي الذي دعمها لأجله قراؤها، على قلتهم، إلا أنهم ظلوا أوفياء لها ما دامت تستجيب للكثير من أسئلتهم، فإذا بها تصبح برؤية أخرى لا علاقة لها بجمهورها الذي فهم الرسالة جيدا، واعتبر أن الجريدة لم تعد موجهة إليه، أو فهم أنه مدعوّ إلى الانخراط في مرحلة أخرى، أو بالأحرى أنها أصبحت فجأة تخاطب جمهورا آخر؛ قاومت الجريدة كثيرا كي تقنعه بخطها التحريري الجديد لكنها لم تفلح. ومع ذلك أُعلن عن وفاة “جريدة التجديد” لأسباب مادية دون أي تشريح للجثة وعن الأسباب الحقيقة للوفاة، ودون أي جواب مقنع عن المكانة الحقيقية التي يتبوأها الفكري والتربوي الدعوي في الرسالة الإعلامية للحركة؟

ثالثا، تضخم الخطاب السياسي داخل الحركة إلى درجة اعتبار النجاح السياسي أسمى انتظاراتها وغاياتها في واقع الحال، وأصبحت الكثير من اللقاءات التنظيمية تتأطر نقاشاتها بالعمل السياسي والنجاح السياسي والشريك السياسي والفساد السياسي وليس التحدي القيمي الذي يواجهه الفرد والأسرة، ومن بين القرائن التي تؤكد ذلك أنه كثيرا ما سمعنا الدعوة إلى تأطير واستقطاب عُشر أولئك الذين تعاطفوا بالتصويت على الشريك السياسي، في مغامرة غير محسوبة ترهن الدعوي بأكثر اللحظات اضطرابا في الممارسة السياسية الحزبية؛ ألا وهي فترة الحملات الانتخابية.

رابعا، تحول التنظيم إلى آلية تنفيذ مباشرة لم تعد تسمح -رغم كل الشعارات المرفوعة من شورى وحوار وديمقراطية- بأن تنصت إلى الآراء المخالفة، رغم كثرتها، وعلا صوت الاستبداد في أكثر من مناسبة، وانتقلنا إلى ما يشبه علاقة المريد بالشيخ، وأصبح الجواب عن السؤال الناقد: قال الرئيس، وقال المسؤول… وأصبحت المؤسسات شكلية تنأى عن مناقشة الإشكالات الجوهرية في علاقتها بالرؤية، ومن ذلك الجريدة وخطها التحريري، والمنظومة التربوية، والعلاقة مع السياسي، والتضخم التنظيمي وتغول التمركز مقابل تحجيم الدور المحلي.

خامسا، تبني منظومة تربوية مغرقة في المعرفة دون أي اعتبار للتراكم التربوي السابق ومكامن القوة فيه، ولا بعض الاجتهادات الجديدة المقدرة التي أسهمت في الموضوع كما هو الشأن بالنسبة لمجالس القرآن للمرحوم فريد الأنصاري، ولا حتى ما راكمه البحث النظري التربوي في بناء القيم والمفاهيم ذات الصلة وما يستصحبه ذلك من اعتبار لسياق المتلقي وحاجياته المعرفية والنفسية والعملية، وسقطت في فخ “المعرفة مقصودة لذاتها”، ناهيك عن اعتبار “القيم” جزءا مستقلا يكرس النظرة إلى المسألة الأخلاقية كفضائل زائدة، وكذا إقحام التنظيمي والسياسي والنقابي في مقررات المجالس التربوية. وهذه القضية في عمومها تثير سؤالا أعمق عن حقيقة أولوية العمل الدعوي التربوي لدى الحركة، بل مكانة النظرية التربوية لدى الحركة الإسلامية، وحقيقة الجهد العلمي والتجريبي الذي يُبذل في تطويرها.

فكان هناك إصرار على تبني المنظومة التربوية بكل أعطابها، رغم الملاحظات التي أجمع أغلب المربين في مناسبات متعددة على تسجيلها، والانتقادات الكثيرة التي كانت تصعد من القواعد. وأصبحت المنظومة وسيلة من وسائل إثبات الانتماء إلى التنظيم وليس وسيلة للفعل والتأثير التربوي، إلى درجة أنها كانت موجهة أيضا إلى الأطفال والشباب دون أي اعتبار للخصوصية، بل لقد اكتشفتُ في حوار مع بعض الكفاءات الحركية أنهم لا يعرفون ما الذي تعنيه المنظومة ولا أهدافها ولا يحضرون مجالسها، ومع ذلك يدعون إلى تبنيها والدفاع عنها كمقرر تربوي يسهم في التسويق الإعلامي للتجربة وفي تعزيز الارتباط التنظيمي.

خلاصة القول، إن التضخم السياسي لدى الحركة واضح للعيان، وأصبح به يصطبغ سلوكها، بل بدأ يرخي بظلاله السلبية على التدين والقيم بسبب الاضطراب الذي يعرفه السياسي. وعندما نبهْنا في السابق على مشكلة التضخم وعلى أخطار الاصطفاف الكلي وراء السياسي بسياقاته المضطربة، إنما كان غرضنا التنبيه على أن الحركة الإسلامية لا ينبغي أن تفرط في أصول رؤيتها التي بها وجودها واستمرارها في الحياة، وألا تكون مشاركتها السياسية إلا بالقدر الذي يحفظ لها توازنها وامتدادها ومصداقيتها، أو أن تتحلى بالشجاعة والوضوح فتحسم أمرها وتسمي نفسها ورسالتها بواقع حالها السياسي إذا هي اقتنعت بمزاج بعض قياداتها التي ترى في المشاركة السياسية المكتسحة الحل الوحيد للإصلاح.

إن غياب الرؤى النقدية، والتضييق عليها أو تجاهلها وكبحها عن طرح أسئلة ربما مزعجة، يسمح بتسلل أنواع خطيرة من الاستبداد، أبرزها؛ تحكّم المنتَج (بفتح التاء) في المنهج، وتحكم المزاج في التصور المؤسِّس (بكسر السين). فبعض المشاريع المجتمعية تبدأ بالأفكار الحية، ويطول الأمد فتُستبدل الأفكار بأسماء الأشخاص، ويطول الأمد فيتحد الأشخاص بالأشياء التي أنتجوها، ثم تصبح بعد ذلك الأشياء مقدسة، ثم يأتي بعد ذلك أتباع يضيقون ذرعا بمن يدعو إلى العودة إلى عالم الأفكار حيث الروح التي بها حياة المشروع الإصلاحي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • يوسف
    منذ 3 سنوات

    سلمت أناملك أيها الأخ الكريم، والمثقف الواعي المستشرف للمستقبل. لقد أحطت الموضوع من كل جوانبه. وقلت الذي نحسه وهو على طرف لساننا، لكن يخونا التعبير عن إيصال المعنى الحقيقي الذي نريده. كثر الله من امثالك من شبابنا الواعي والملتزم والمنفتح.