مجتمع

نوابغ مغربية: أبو العباس السبتي.. رائد العمل الإحساني الذي جعل من التضامن والإيثار قيمة القيم

نوابغ مغربية

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

الحلقة 28: أحمد بن جعفر السَّبْــتـي.. رائدُ مذْهَبِ أَثَــرِ الجُود في حرَكة الواقع 

العطاء قيمةُ القِيم

كان مولِده بحاضرة سبتة، أقصى شمال المغرب، سنة 524 هجرية الموافق لسنة 1129 ميلادية، فنشأ في بيئة متواضعة، ذاق فيها مرارة فَقْدِ الأبِ وحالِ الفَقْـرِ مَعاً. ولظروف العائلة العصيبة؛ قَرَّرَت أمُّه الدّفع به لتعلُّم الصنعة، ليُعينَها على نوائب الدَّهر، إلّا أنه كان يَفِرّ مِن مِهنة الحياكة إلى مجالس القراءة في الكتاتيب، وظَلَّ متنقِّلاً بينها إلى أنْ انتهى به المطاف في كُتّاب الفقيه العالِم عبد الله الفخّار، الذي أخَذَ عنه العِلم والــمَشْيَخَة، بعد أنْ اقتَنَعت والِدته بأهمية تعلُّم ولَدِها، وقنَعت بالمال الذي كان يَبعثُ به الشيخ الفخّار إليها أواخِر كلّ شهر. 

لم يكن يخُطر بخُلْدِ هاته الأمّ أنَّ هذا الفتى الذي أقْبَل على تَعَلُّمِ الحساب والنحو بنهمٍ، وحِفْظِ القرآن في سنواتٍ معدودات، مع ذكاءٍ وفِطنة تَفوَّق بهما على أقرانه؛ أنّه سيصير أحد أقطاب العلم والإصلاح في المغرب، وشخصية مؤثِّرة في شرائح عديدة من المجتمع وعلى توالِي القُرون. 

بعْدَ أنْ شبَّ واستقامَ تطلَّعت هِمّة أحمد بن جعفر السّبتي إلى خَوضِ غمار تجربة الارتحال عن الديار السَّبتية إلى الحاضرة المراكشية، منارة العلم وعاصمة الدولة المرابطية. “في طَلبِ العلم يَهون عليَّ سَفَرُك”، كذا علَّق الشيخ الفخّار على قرار رحيل تلميذه النجيب أحمد، فارتَحل إلى مراكش سيراً على الأقدام، فكان له في تِلك السَّفرة عِوض عمّن فارَقه، وأحوال وكرامات. حتى وصَل مراكش سنة 540 في عِزّ انتصار الموحِّدين على المرابِطين، وبدايات استِفرادهم بالحكم. 

أوّل قرار اتخذه أبو العباس السّبتي عند حلوله بمراكش؛ اتّخاذِهُ لخُلوةٍ شخصية في جَبل (جِـليز)، معية خَديمهِ سيدي مسعود، قَصَد بها وجه الله، تَعبُّداً وتبتُّلاً، وتدبُّراً في معاني سور القرآن الكريم، مع التركيز على الآيات التي حَضَّت على الإنفاق والصدقة والعطاء والبَذل والإحسان، وعلاقة ذلك بالطبيعة وتدبير خيرات الأرض ونهاية العالم والدار الآخِرة، وعامِلاً النَّظرَ والفِكَر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، ولم يخرُج مِن خلوته إلّا سنة 580 هجرية حسَب تقدير المؤرخين، وهي السَّنة التي تُصادِف تَولِّي يعقوب المنصور حُكم الدّولة الموحدية. 

بَعد تجربة المكابَدة الباطنية للتربية، تخْلِيةً، وتربية للنفس، وانقطاعاً عن الملذات في جَبل كليز بمراكش، وظهور الكرامات على يديه في صفوف مَن كانوا يتسامعون به ويأتونَ أو يأتيهم أحياناً في دُورِهم، وإقبال الناس عليه وعلى أجوبته الدِّينية وفتوحاته الربانية، شاع صِيته، فأمَر السلطان أبو يعقوب منصور الموحِّدي بإنزال الشيخ السبتي مِن مآواه التبُّعدي بجبل كليز، وحَـبَّس عليه مَدْرسةً وداراً للسكن، ثم تزوَّج وطال به الاستقرار بعاصِمة الدولة الموحدية. 

بالموازاة مع عمله في التدريس، وانخراطه في التوعية بأهمية التضامن والعطاء والإنفاق، مَارس التبليغ في الناس، في أسواقهم، وطُرُقهم، قبْل أن تَظهر طريقة الدعوة والتبليغ بعشرات القرون، ومَدار حديثه الصَّدَقة، والإنفاق من المال، قَلَّ أو كَثُرَ، حتّى لُقِّبَ بــين العامّة بــ”تاجِر الله بين خَلْــقِه”. 

كان دَيْدنُ أبي العباس السبتي؛ البحث عن الفقراء والمحتاجين ومَن يعيشون في ضائقة، فيأخذ بأيديهم، وله عجائب وغرائب في إغاثة الملهوف، وبركاتٍ أكْثَرَ مِن إيرادها بالعشرات ابن الزيات التادلي رحمه الله، وكان أيْضاً يَطوف على ذوي المال والجاه في المدينة، محفِّزاً إياهم على التصدّق والإعالة. ولم يقتصِر على تشجيع الأثرياء على العطاء، بل طالَب كل مَن يملك ولو قليلاً أنْ يتصدّق على مَن لا يملِك. وكان شعاره في ذلك “سَبَق درهمٌ مائةَ ألْفِ درْهمٍ”، وكان يقول لتلامذته “إنما أنا دَلّالُ خَير، وواسطة بين الخلق وخالِقِهم، أدُلُّهم على فَضله وإحسانه”. 

وبعد أنْ اشتَهَر بين الناس ونَبَغ في وسائل إقناع فئات واسعة في المجتمع بأهمية الإنفاق والتضامن بين جَسَد الأمّة الواحد، وتناقَل أخباره المغاربة، صارَ يقصِده التّجار والحرفيون والعلماء والفقراء والأمراء، وأقْبلوا عليه بالتّعظيم والتكريم، كما كان يقصده المرضى طَلبا للدعاء بالشفاء، وكان لا يَفتأ يطلُب من كُلِّ ذي مَرَضٍ أنْ يَتَصَدّق، أو يَدفع “الفْـتوح”، لأنّه عَدَّ البُخْلَ مَرَضاً، وحُبَّ المال بإفراطٍ هو الشِّرك الخفي، وأنّ في الصَّدَقة أسرار، ليس أقَلُّها حلول بركة العافية والشفاء في المريض. وكان يقول لمن يشتكي له الجفاف “لو تَصَدَّقوا لـمُطِروا”، ويوقِنُ أنّ “البخل يُؤدِّي إلى الـجَـدْب”. 

لقد رَبَط الشيخ السَّبتي حقيقةَ التوحيد والإيمان بالجانب العملي؛ أيْ التَّضامن بين أفراد المجتمع، والإنفاق في سبيل الله، أي أنَّه كان يَعُدُّ “الإنفاق في مقدِّمة أعمال التديّن” بتعبير الدكتور أحمد التوفيق.

وعن نفسه؛ فقد عَقَد العَزْم على أنْ لا يكون له مَتاع أو مال أو أكْل أو لباس إلّا وشاطَرَه مع أصحابه والنّاس، وعمِل بالإيثار، وتَمَثَّل بأوامِر كثير من آيات القرآن التي تَحُضَّ على الإنفاق. ورأى أنَّ الإحسانَ أعلى قيمة يمكن أنْ يتّصِف بها الإنسان. فارتقى به الحال والمآل والتصدّق طيلة 60 عاماً، إلى أنْ صارَ في مقامٍ لا يقول معه: “يا رب” إلاّ قال لي: “لبَّيْكَ”، كما حكى عن نفسه. 

إنَّ الشيخ السَّبتي صُوفِيٌّ ذاقَ جمالية الفِعل التعبُّدي في الإسلام، فكانت صلاته غير صلاةِ غيره، وصومه غير صوم غيره، وفهْمُه مؤيَّدٌ بالتعبُّد مطبوع بالتزهُّد في كل شيء، مُبادِراً، متطوِّعاً، سَخِيّاً، دائم الحركة في الأسواق والطرقات، قَصَده ذوو الفاقة فآواهم، وآتاه البعض عُراةً فكساهم، وجَوْعى فأطْعَمَهم. ومِن أغْرَب ما حُكِيَ عن زُهدِه وإحسانه، أنّه في ذات ليلةٍ مطيرة، بارِدة، اشتدَّ البَرد على الشيخ السَّبتي فأخذَ يَطْلُب من أبنائه مَدَّه باللحاف ليتدفَّأ، فما يزالَ يطوف بالبيت ذهاباً وجيئةً، إلى أنْ يسمِع أحاديث جيرانه وقد انتصف الليل، فيخرَج إليهم ويسألهم عن سبب بقائهم أيْقاظاً، فيُجيبُونَه أنهم لم يناموا مِن الأصْل، لابْتِلالِ أغْطِيتهم وافْتِقارهم إلى الأغشية، فيعودُ إلى أبنائه ويقول لهم: “تصدَّقوا بأغطيتي لجيرانكم، فمن هُنا كان يأتيني البَرد”. 

 لقد كرَّس الرجل حياته لعمل جليل، فأحَبَّه الناس وقَدّروه. ذَكَـرَ الفقيه الصومعي أنّ السبتي “كانت له هِمّة عالية، وكان بقُدْرة العزيز الجبّار تَنْفَعِل له الأشياء على مُقتضى مُرادِه، فكان يتعجَّب منه العدو، ويَزيدُ في مَحَبَّـتِه الصَّديق”. وأكَثَر القولَ في مذهبه وجُوده وأسرارِه خَلْقٌ كثير. فالشيخ الأكبر صوفيُّ الأندلس وعالِمها محيي الدين بن عربي، في كتابه المعروف (الفتوحات المكية) ص: 386 وصَفَه بــ”صاحِب الصَّدَقة بمراكش”، وقد كان ممن التَقى بهم في جولته الشهيرة إلى المغرب وتعقُّبه آثارَ الأولياء والصالحين، فاجتَمع بأبي العباس ولازمه أيامًا. وقال عنه ابن الزيات في مرجِعه الشهير (التشوّف إلى رجال التصوّف): “إنّ شأْنَه من عجائب الزمان، كان رحمه الله قد أُعْطِيَ بَسْطة في اللِّسان وقُدرةً على الكلام، لا يُناظِرُه أحدٌ إلّا أفْـحَمَهُ، وكان سريع الجواب”، و”كان جميل الصورة أبيض اللون، حَسَن الثياب، مفوَّهاً، حليماً صَبوراً”. ووصَفه السيّد أحمد بن الخطيب بــ” الفقيه العالِم الـمحقِّق (..) آية في الـمناظَرَة”، وقال فيه فيلسوف قرطبة ابن رُشد لَـمَّا أطْلَعه أحدُ مبعوثيه إلى المغرب على أمْرِ وحالِ ومَذهب أبي العباس السبتي؛ إنّ “هذا رَجُلٌ مَذْهَبُه أنَّ الوجود ينْفَعِل بالجود”. ووصَفه أحمد المقري التلمساني في موسوعته (نفح الطِّيب من غُصن الأندلس الرطيب): بـــــ”الولي العارِف بالله، صاحب الحالات والكرامات الظاهرة، والطريقة الغريبة والأحوال العجيبة”. وشبَّههُ العلّامة أحمد بابا التّنـبكتي في (كِفاية المحتاج لمعرفة مَن ليس في الدِّيباج) بــ”الولِي الزّاهد، الغَوث العارِف باللهِ تعالى”. وقال علّامة الأندلس لسان الدين ابن الخطيب “كان سيدي أبو العبّاس السبتي رضي الله عنه مقصوداً في حياته، مُستَغاثًا به في الأزمات، وحالُه مِن أعْظَم الآيات الخارِقة للعادات، ومَبْنى أمْرِه على انْفِعالِ العالَم عن الجود وكَونُه حِكمة في تأثير الوجود”. وحلّاه بأوصافٍ جليلة العلّامة إبراهيم التعارجي المراكشي في منظومته (إظهار الكمال) في أبيات منها: 

وأحــمدُ المجد يعلو قَدْرُه أبَــــــــــداً

        إفْضاله عَمَّ لا يَخْشى من إقــــــــــــــــــــــــــــــــتارِ

أمّا كَرامــاته فالعَــــــــــــــــــــــــــــــدُّ ممتنِـــعٌ

       جَلَّت عن الـحَصْر لا تُحْصى لإكْـــــــــــــثارِ

نَعم، إنّ العطاء والجود في مذهب أبي العباس، مَسْلكٌ ذَوقي، وتربوي، وجمالي، وتَعَبُّدي أيضاً، وعلى ضوء هذا؛ لم يكن رحمه الله ينظُر إلى المجتمع بنظرة طَبقية تَجعله طَبَقتان: أغنياء، وفقراء، بل إلى شريحتين: مُنْفِقين وبُخلاء، فالبخيل قد يكون فقيراً أو قد يكون غنيا. لذا لم ينهَج السّبتي منهج أبي ذرٍّ ولا منهج الحركات الاجتماعية الثورية التي آمنت بالعدالة الاجتماعية وسَعت لأخذ الأموال من الأغنياء ورَدِّها على الفُقراء، بل كان يرى ذلكَ واجباً مفروغاً منه، فجَعل مَنهجه قائماً على الـجُود الـجماعي، فكُلُّ فَردٍ في المجتمع بإمكانه أنْ يَتَصدَّق، ويُنفِق مما آتاه الله، ماديا أو عَينيا. وجَعَل ثَورَتَه سِلمية هادئة، لم تُثِر ضِدَّه حَنق الأثرياء والأمراء، بل آلَفت بين القلوب، وشجّعت على الإحسان العمومي، ودعّمت التضامن، ودَعت للـمُشاطَرة ولو بِشِقِّ تَمرة، فاتّفَقت على مَحبته العامة والنخبة. وظَلَّ بجميل صَبْره وحُسْن خُلُقه ولِينِ دَعْوته ودائِبِ سَعْيه لصالح البسطاء؛ يَترقَّى في سُلَّمَ الـمحْبوبية حتى أحَبّه أهل المغرب حَيا وميّتاً. 

أكْسَبته أعماله الجليلة وذَكاؤه في فهمِ وتفسير القرآن واستِيعاب طَبيعة المجتمع وحاجياته؛ سُمعةً طيبة، وتناقَل الناس أخبارَه، واجتمَع حولَه الأتباع وتَشكَّلت في مجالسه مجموعات من التلامِذة الأوفياء، منهم ابنه عبد الله السّبتي، وعيسى بن شعيب، وأبو بكر بن مُساعد، ويوسف بن الحسين الأنصاري، ومحمد بن خالِص الأنصاري، وأبو يعقوب الحكيم، وأبو الحسن البلنسي، فضلاً عن خَديمه القديم سيدي مسعود. وقال الفقيه أحمد الصومعي إنّ أتباع الشيخ السبتي وتلامذته وأبناءه لم يرِثوا عنه شيئا، “لِصعوبة طَريقه، إذْ هي مَـبنية على البَذل والإيثار الكلّي”، فمنهج الشيخ يقرن الإيمان بالعمل، ويُلِزِم النفس نصيباً من التمرُّن على الكفاف وعَيش النُّدْرة، والإحساس بآلام الآخرين. وكان هو في حياته نموذجاً وقُدوة، لا يدّخِر ولا يكتنِز، ولا يتوانى عن خِدمة الناس ومُشاطَرَتهم ما يَملِك، ناهِجاً في الصدقة مَسْلَكاً لم يُسبَق إليه، حتى وثِق فيه مَن يملكون إرْثاً، أو متاعاً، ومَن يرغبون في إيداع أموالِهم لصرفها في طُرُقها النافعة، حيثُ كان بعض السّادة الفقهاء إذا توفِيَّ أحدُهم أوصى بَنيه بتسليم جزء من ثروته المالية للشيخ أبي العباس السبتي، كما في القصة التي رواها العلّامة أبو القاسم بن رضوان.

لقد عاش القُطْب أحمد السبتي حياةً زاهدة، مبنية على العِلم والعمل، والإنفاق والتصدُّق، والاقتناع التام بكَون “أصْل الخير في الدنيا والآخِرة؛ الإحسان”، وكان لسانُ حاله دائما قَولُه “من يُعطِي دِرْهمين يُزال عنه وَجع الرأس”، ودعاءه الذي لا يتوقّف عن ترديده “يا مُصْلِح الأسرار صَفِّ أسْرارَنا”، ومُلاحَظته التي يُردّدها بمرارة قولُه لقد “رَكَن العلماء إلى الدُّنيا وبَخلوا بها”. فعاشَ كما قال فيه صديقه يوسف بن الحسين الأنصاري

يَدُلُّ بنا طريقَ الحقّ قصْداً

فليسَ يعوجُ عنه ولا يَميلُ

فتنتعِشُ مِن عوارِفهُ جُسومٌ

وتَنْعَمُ مِن مَعارِفهِ عُقـــــــــولُ

وإذا كان غالبية متصوِّفة المغرب والمشرق؛ قد تركَّزت جهودهم على التربية والتزكية والمشاركة في تحرير الثُّغور والدفاع عن الأوطان؛ فإنّ صُوفية الشيخ السّـبتي قد رَكّزت على قيمتَي العطاء والتضامن كَشَرطَيْن عَمليين عميقين للتوحيد وللتربية أيْضاً.

ولم ينقطِع ذِكره في الناس مُذ وافته المنية يوم الإثنين 3 جمادى الثانية 601 هجرية، الموافق لــ 26 يناير 1205 بمدينة مراكش، بحيث مَدَحه الشعراء، وتوسَّل ببركته البُسطاء، وكَتَب عن سيرته وكراماته المؤرِّخون والفقهاء، وشُيِّدَ له ضريحٌ حضِيَ بعناية الحكّام والرعية، واستُحْدِثَت صَدقاتٌ باسمه، بقِيَت تشْمَل الفقراء وذوي الحاجات والتيامى والأرامل قَرْناً على صَدْرِ قَرْنٍ، حتى قال مَن شاهَد ضريحه في باب أغمات “روضَة هذا الولِيّ ديوان اللهِ تعالى في المغرب، لا يُحْصى دَخْلُه، ولا تُحْصَرُ جِبايته”، وحَضَّ المؤرّخ والكاتب محمد الصَّغير الإفراني الناسَ على تخليد مناقِب ومنهج أبي العباس السبتي في أبياتٍ منها قولُه:  

زُر أبا العبّاس تَظْفَر

دون شـــــكٍّ بالأمانِ

هوَ غَوْثُ الناس طُرّاً

في عِـــــــــــــراقٍ مَعْ يَمانِ

وهْـــوَ سِـــرّ الله فيـــــنا

ما لـــــــه في السِّر ثانِ

إنّمــــــــا السَّبتِيُّ ذُخْـــــــــرٌ

ومَــــــلاذٌ للمــــــــــــــــعانِي

إنّـــــــــــــما السَّبتِيُّ بَحْـــــــــرٌ

لـــــــيسَ يَفنى بالأوانِي

ورغم بُعد الزّمن الذي يَفصْلنا عن الشيخ السبتي؛ إلّا أنَّ ذِكْرَاه ومذْهَبَه في الجود وحِكَمَه وأدوارَه الإحسانية ما تَزال مَحطّ تقديرٍ وحُضور واستِحْضار، يُكَرَّم مَزارُ الشيخ، وتُقام حَفَلات “العبّاسية” إكراماً لمذهبه وطَريقته، ويُطْلَق اسمه على المدارس والشّوارع والممرات والمكتبات، وتُكتَب عن سيرته وكراماته الكُتب والمقالات والرِّوايات، ويُذْكَر مقروناً بالسَّبعة الكِبار في مراكش، ويُحتَفى به في البرامج التّلفزية، وتُعقَد النّدوات لمدارسَة منهجه في الجود والإحسان ونُبوغِه في خِدمة العامّة، ويحيى السلاطين ليالي القدر بضريح أبي العباس، وتذكُره الذاكرة الجمعية للمغاربة كرَمْز مُشْرِقٍ مُؤثِّر في ماضي المغرب وحاضِره ومُستقبَله. 

أنا السَّبْتِيُّ الذي قد طابَ أصْلي

وقَرَّبَني الـمُـــــــــــــــــــــــــــــــهيمِنُ واجتــبانِي

مصادر ومراجع:

* (بن عربي) محيي الدين بن محمد: “الفتوحات الـمكّية“، ضبط وتصحيح أحمد شمس الدين، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، الطبعة الأولى 1999.
* (التنبُكتي) أحمد بابا: “كفاية الـمُحتاج لمعرفة من ليس في الدِّيباج“، جزآن، دراسة وتحقيق الأستاذ محمد مطيع، تقديم الدكتور الوزير عبد الكبير العلوي المدغري، الطبعة الأولى 2002، منشوات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
* (التادلي) يوسف بن يحيى: “التشوُّف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي“، تحقيق الدكتور أحمد التوفيق، الطبعة الثانية 1997، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.
* (علوان) محمد حسن: “موتٌ صغير“، رواية، منشورات دار الساقي، الطبعة الأولى 2016، نسخة ورقية.

* إعداد: عـدنان بـن صالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • عبدو المكناسي
    منذ 3 سنوات

    انه بحق من رجالات مراكش السبعة رحمه الله. قرأت في إحدى المقالات أن "العباسية " وجل المغاربة يعرفون معناها وعي حينما تدشن أو تفتتح محلا للبيع تكون العباسية وهي تقديم التمر والحليب للزاءرين يقال هذا العرف تيمنا بابي العباس السبتي.