منتدى العمق

الربيع العربي بعد عشر سنوات: قراءة في العوامل والحصيلة والمآلات

مقدمة:

تمرّ علينا في هذه الأيام ذكرى انطلاق ثورات الربيع العربي، منذرة هذه السنة بمرور عقد من الزمان على بدايتها، وذلك عقب إضرام البائع المتجول “محمد البوعزيزي” النار في نفسه، لتهتز آنذاك العديد من الأقطار العربية على وقع الزلزال الذي كانت بؤرته في شمال إفريقيا وبالضبط في تونس، لتحصل بعض ذلك موجات ارتدادية عام 2019 في الجزائر والسودان، والعراق ولبنان.

وهذا ما يجعلنا نتساءل حول الأسباب والعوامل التي أدت إلى اندلاع الربيع العربي؟ وهل هي عوامل داخلية، أم خارجية؟ وما هي أبرز تداعيات الربيع العربي؟ وما هي مآلاته؟

العوامل الداخلية والخارجية

أدت إلى اندلاع الربيع العربي العديد من العوامل الداخلية، منها ما هو سياسي تمثل في الاستبداد والانفراد بالسلطة، ومنها ما هو اقتصادي واجتماعي والذي لم يكن سوى نتيجة حتمية للأسباب السياسية.

ومن هنا يمكن القول إن ثورات الربيع العربي وبالرغم من كونها ثورات اجتماعية في الظاهر، طالبت بمجموعة من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، فإنها في جوهرها وباطنها ثورات سياسية بالأساس.

وإذا كانت هذه هي الملاحظات الجوهرية بشأن العوامل الداخلية التي ألهبت حماس الشعوب العربية، فإن ما يمكن ملاحظته بخصوص العوامل الخارجية هو أن الثورات العربية لم تكن مؤامرة أجنبية، كما يسوّق لنا أنصار تلك النظرية، وأن أقوى الحجج التي يعتمدون عليها هي دعم الحكومة الأمريكية للجمعيات المدنية الداعية للديمقراطية، وهذا لا ينهض دليلا على كون الثورات العربية مؤامرة خارجية، فالمجتمع المدني أضحى ركيزة أساسية من ركائز الدولة العصرية، ويلعب دورا فعالا في تكريس الحقوق الإنسانية.

أما بخصوص الحجّة الثانية وهي ما يسميه أصحاب “نظرية المؤامرة” باحتلال ليبيا والتدخل العسكري فيها، فالحق أن التدخل الأجنبي في ليبيا عن طريق حلف الناتو كان شرعيا، وجاء في إطار ما ينص عليه القانون الدولي، رغم بعض الانتقادات التي توجه لذلك التدخل، والتي يمكننا إجمالها في ازدواجية المعايير المعتمدة من طرف المجتمع الدولي؛ فإذا كان التدخل في ليبيا تم بعد استصدار مجلس الأمن لقراره الذي اعتبر فيه الوضع الليبي مخلّا بالسلم والأمن الدوليين، فإن نفس المجلس يغض الطرف عن أوضاع أخطر حالا وأشد وبالا من الوضع الليبي، وليس أدل هنا من الاستشهاد أولا بوضع الشعب الفلسطيني الذي يعاني من الاحتلال الصهيوني، وما يخلفه هذا الاحتلال من جرم مادي وقهر معنوي لا يقرهما ميثاق دولي ولا شرع سماوي. وثاني الأوضاع؛ هو الوضع السوري الذي يشبه إلى حد بعيد الوضع الليبي، فالشعب في كلتا الدولتين ثار من أجل حريته وكرامته، وكلاهما ووجه بالسلاح والعتاد، والتعنّت والعناد، من النظام المستبد في البلاد، بيد أن النظام السوري مازال قائما إلى اليوم دون حسيب ولا رقيب، في حين سقط نظيره الليبي في أشهر يسيرة ومدة قصيرة.

وهكذا يبقى الاتجاه الأصوب في نظرنا بخصوص دور العامل الخارجي في الثورات العربية؛ هو الاتجاه الثاني، الذي يرى أن الربيع العربي كانت أسبابه داخلية محضة، وأن الغرب (وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية) لم يكن راضيا عن الثورات العربية، وأنه سعى لاحتوائها والسيطرة عليها من خلال الثورات المضادة التي تولت كبرها أنظمة إقليمية عربية.

والملاحظة التي ينبغي تأكيدها؛ هي أن العامل الخارجي لم يكن لينجح في عرقلة مسار الانتقال الديمقراطي العربي، لو لم يجد سندا داخليا. وبتفصيل أكثر؛ فإن الدور الذي لعبه الغرب في كبح جماح الربيع العربي، لم يكن لينجح لو لم يجد سندا داخليا من داخل المنظومة العربية نفسها، تكفّل بدعم الثورات المضادة وتمويلها، وأن هذا السند لم يكن لينجح لولا وجود سند داخلي من داخل الدول المعنية ذاتها، لم يرض بالصناديق وشرعيتها، والديمقراطية وعدلها.

تداعيات الربيع العربي:

أدى بروز ظاهرة الثورة المضادة في الربيع العربي إلى التأثير في مسار الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

فعلى المستوى السياسي، وفي الوقت الذي نجت فيه تونس من الثورة المضادة وشرورها، واستطاعت نسبيا تحقيق انتقال ديمقراطي، وتمكنت من ضرب خير مثال في التوافق السياسي والتداول السلمي للسلطة بين مختلف المكونات؛ فإن مصر وليبيا وقعتا في براثن الثورة المضادة وكيدها، فعادت الأولى إلى الرزوح تحت نير العبودية العسكرية والاستبداد السياسي، في حين وقعت الثانية في حرب أهلية طاحنة كانت ومازالت تهدد استقرار البلد ووحدته.

وإذا كان هذا هو حال الوضع السياسي، فإن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لم تتغير كثيرا عما كانت عليه في فترة ما قبل الربيع العربي، وربما يكون الأمر مفهوما ومقبولا بالنسبة للحالة التونسية، نظرا لما تتطلبه عملية الانتقال الديمقراطي والتغيير السياسي، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار ذلك النجاح النسبي الذي حققته تونس على المستوى السياسي، رغم أن الطريق مازال شاقا أمام التونسيين لتحقيق أهداف الثورة كاملة.

أما بالنسبة للوضع المصري، فإن هيمنة المؤسسة العسكرية سياسيا واقتصاديا، بشكل يفوق ما كان عليه الوضع قبل 2011، يجعل من الصعب تقبل سوء الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للشعب المصري، ويجعل من غير الممكن الوثوق بكل المشاريع والوعود التنموية التي يبشّر بها النظام الجديد.

أما ليبيا، فلا مجال فيها للحديث عن تنمية اقتصادية واجتماعية في ظل الأوضاع السياسية المزرية، وتبقى أولى الأولويات هي استتباب الأمن والحفاظ على استقرار البلد ووحدته، والوصول لاتفاق سياسي يجمع شرق ليبيا بغربها.

ومن جهة أخرى فإن بلدان الربيع العربي عانت كذلك على مستوى الإصلاح الدستوري، سواء تعلق الأمر بدسترة الهوية، أو دسترة الحقوق.

فبالنسبة لمسألة الهوية، فالجدال الأزليّ، والصراع الأبديّ، بين أنصار الكونية والخصوصية في مرجعية حقوق الإنسان؛ مازال قائما، فإذا كان التيار الأول يؤمن بضرورة سيادة المرجعية الكونية لحقوق الإنسان، فإن أنصار التيار الثاني يتشبثون بخصوصيتهم الثقافية أو الدينية التي تتفق أحيانا مع كونية حقوق الإنسان وتخالفها أحيانا أخرى.

وهذا ما ظهرت نتيجته من خلال التنصيص المقيّد والمشروط على مبدأ سمو المعاهدات الدولية، وجعله سموا جزئيا لا كليا، بحيث يسمو على التشريعات المحلية دون الدستور الذي هو أسمى القوانين وأعلاها.

والملاحظ أن مسألة الهوية شكّلت فرصة سانحة لعرقلة مسار التحولات الديمقراطية، فاتخذت حجة لإعادة الديكتاتورية وإرجاع النظم التسلطية، لا سيما في الحالتين المصرية والليبية. فبالنسبة لمصر اتخذ النظام العسكري من مقارعة الإسلاميين ومحاربة “الإرهابيين”، مطية للاستفراد بالسلطة من جديد، والحكم بقبضة من حديد.

وبالنسبة لليبيا اتخذ “حفتر” نفس الحجة لقيادة انقلاباته المتكررة بغية السيطرة على ليبيا والتمكن من حكمها. وفي تونس كذلك يتم الضرب على نفس الوتر، واللعب على نفس الحبل ولكن دون جدوى إلى حد الآن.

أما فيما يخص دسترة الحقوق فالملاحظ أن دساتير ما بعد الربيع العربي، قد تضمنت زخما من الحقوق؛ سواء تعلق الأمر بالحقوق المدنية والسياسية، أو الاجتماعية والاقتصادية.

ولكن الجيل الأول من حقوق الإنسان مازال خاضعا لصراع الهوية (آنف الذكر)، وهذا ما ظهر جليا في مشروع الدستور الليبي خصوصا، الذي انتهج مقاربة متشددة إزاء حقوق المرأة، وإزاء الأقليات غير المسلمة، ضاربا عرض الحائط بكل ما تنص عليه المواثيق الدولية، التي هي نتاج لما توصلت إليه البشرية جمعاء، وضاربا بمختلف الآراء الأكثر انفتاحا حتى من داخل التيار الإسلامي نفسه، التي تؤمن بالمساواة التامّة بين جميع المواطنين.

ومن جهة أخرى فإن تأثير المناخ السياسي حال دون تنزيل الحقوق على أرض الواقع، ولو استثنينا الحالة التونسية التي عرفت تقدما لا سيما على مستوى الحقوق السياسية والمدنية وضمانها؛ والحقوق الاجتماعية والاقتصادية وتكريسها، فإننا نجد الحالة المصرية؛ قد وضع فيها الدستور الجديد من طرف سلطات استبدادية، مما يمكن معه القول إن هذا الدستور هو من طبيعة الدساتير التي وصفت بأنها “دساتير من ورق”، أو إنه من طبيعة “الدساتير الزائفة”، وهي تلك الدساتير التي تعد بكثير من الحقوق، ثم لا تفي السلطة المسؤولة عن تطبيقها بتلك الوعود.

مآلات للربيع العربي:

ومن هنا يحق لنا التساؤل عن مآلات الربيع العربي، في ظل هذه الوضعية، فهل من الممكن أن تنتصر الثورة المضادة على رغبات الشعوب ومطالبها؟ وإن حصل ذلك؛ فإلى أي وقت سيستمر هذا الانتصار؟ أم أن حركة التاريخ ستلعب دورها وتفعل فعلها؛ فتنتصر الشعوب العربية، وتكون لها الكلمة الفصل في هذا الصراع بين الثورة والثورة المضادة، كما تغلبت الشعوب الغربية من قبل، ولا سيما في فرنسا بعد ثورتها الشهيرة، فجنت الثمار على المستوى الحقوقي؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ فما هي الطريقة التي ستستعيد بها الشعوب كرامتها وترد بها حريتها وتكسب بها حقوقها؟ فهل من الممكن أن تشهد الدول المتضررة موجات ثانية من الربيع العربي والاحتجاج السلمي؟ أم أن بعض هذه الدول المتضررة ستعرف موجة مما يسمى في العلوم السياسية ب “الانقلابات العسكرية الديمقراطية”، التي تقوم بها فئة غيورة وطنية داخل المؤسسة العسكرية، فتسلّم الحكم لسلطة مدنية، في أمد محدود، وأجل معدود، كما حصل في البرتغال سبعينيات القرن الماضي ضمن ما أطلق عليه “ثورة القرنفل”، التي كانت لها نتائجها الإيجابية على المستوى الديمقراطي والتنموي؟ أم أن الأنظمة الاستبدادية ستلتقط الرسالة –ولو بشكل متأخر-فتختصر الطريق على نفسها، وتحافظ على ماء وجهها، وتحقن دماء شعوبها، وتحفظ كرامة أوطانها، فتنقذ الجميع من هذه الصراعات وآثارها؟

أسئلة جمّة يمكن طرحها في نهاية المطاف، ويبقى الباب مفتوحا على مصراعيه بخصوص مآل الربيع العربي، والكيفية التي يمكن بها استثماره للتأسيس لأوطان تشمل كافة أطيافها، وتضم جميع تياراتها، وتجمع سائر مكوناتها، ويسود فيها حكم القوانين والدساتير، وتتمكن فيها الشعوب من تقرير المصير.

* وسيم الصغيوري، باحث أكاديمي في سلك الماستر، تخصص حقوق الإنسان – جامعة سيدي محمد بن عبد الله كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- فاس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *