الزاوية البودشيشية بين خطاب النقد وحقيقة الظاهرة: قراءة جدلية

تصدّرت الطريقة القادرية البودشيشية في الأسابيع الأخيرة واجهة النقاش العام بالمغرب، بعد وفاة شيخها سيدي جمال القادري وما تبعه من خلاف عائلي حول الخلافة.
هذا، وقد تحوّل النقاش، بفعل الإعلام ومنصات التواصل، إلى ساحة اتهام حادّة، جعلت الزاوية تُقدَّم في صورة “مؤسسة ريعية” أو “ذراع ديني للسلطة”.
غير أن هذه الصورة النمطيّة، رغم بريقها الإعلامي، تظلّ في حاجة إلى تفكيك أعمق، يميز بين الوقائع العارضة والظواهر البنيويّة، بين البشري والروحي، وبين المجال السياسي والمجال التربوي.
– من الحدث العابر إلى البنية العميقة
من منظور أكاديمي، لا يمكن اختزال تاريخ زاوية ممتدّ منذ القرن الثامن عشر في واقعة صراع إرث عائلي. فالأزمات البشريّة أمرٌ عارض يصيب كل المؤسّسات، الدينيّة والدنيويّة على حد سواء. الجامعات والأحزاب والجمعيات، بل حتى الكنائس والمساجد، عرفت صراعات حول القيادة.
لكن هل يختزل ذلك جوهرها؟ وما الذي يبقى من مشروع الزاوية الصوفي إذا نزعنا عنه هذه الطوارئ؟ أليس هو خطاب التربية على الذكر والتزكية والتجرد من الماديات؟
– العلاقة مع السلطة: تبعيّة أم جدليّة؟
كثيرون يرون في علاقة الزاوية البودشيشية بالسلطة دليلاً على “التبعية”. لكن القراءة التاريخيّة تكشف أنها علاقة جدليّة اعتماد متبادل في معادلة الدولة والزاوية، أكثر منها علاقة خضوع: الدولة المغربية، في تاريخها الطويل، احتاجت دائماً إلى الشرعيّة الدينيّة لتثبيت حضورها، والزوايا وجدت في حماية الدولة شرطاً للاستمرار.
فهل نقرأ هذه العلاقة فقط بمنطق “الريع” و”المصالح”؟ أم أن فيها بعداً أعمق: وبحثاً متبادلاً عن توازن بين المجال السياسي والمجال الروحي في مجتمع متشابك البنى؟
– وظيفة الصمت: حياد أم تواطؤ؟
يُحمَّل على الزاوية صمتها عن قضايا وطنيّة أو إنسانيّة كبرى، مثل القضية الفلسطينية أو التطبيع.
لكن هل الصمت هنا يعني التواطؤ؟ أم أنه خيار واعٍ للحفاظ على حيادها الروحي وتجنّب تحويلها إلى حزب سياسي أو جمعية احتجاجية؟
إن خلط المكانة والأدوار بين “الزاوية” و”الحزب” قد يكون مجحفاً، لأنه يطلب من الزوايا ما هو خارج وظيفتها الأصليّة.
وهنا يبرز سؤال جوهري: ما فائدة أن تتحوّل الزوايا إلى منابر سياسيّة، بينما لدينا أحزاب ومنظمات مدنيّة لهذا الغرض؟ أليس الأجدر أن تحافظ على مجالها الروحي الخالص؟
– عن مفهوم “الريع الصوفي”
وصف الزاوية بأنها “تعيش على الريع” قد يثير جدلاً. فالريع مفهوم اقتصادي وسياسي، بينما العلاقة بين الدولة والزوايا تقوم غالباً على الهبات أو الرعاية أو الدعم الرمزي.
هنا لا بد من التساؤل: هل يجوز أن نُسقط مفهوماً اقتصادياً صرفاً على مؤسسة روحيّة؟ أم أن الأصح أن نتحدث عن “رأسمال رمزي” يُترجم أحياناً في شكل دعم مادي، كما يحدث مع كثير من المؤسّسات الثقافيّة والدينيّة حول العالم؟
* والخلاصة: أسئلة مفتوحة لا أحكام مغلقة
إن اختزال الزاوية البودشيشية في صراع إرث أو في أداة بيد السلطة يُفقر فهمنا لظاهرة دينيّة مركّبة.
فالزاوية، رغم أزماتها، ما تزال تمثل فضاءً للبحث عن المعنى الروحي في مجتمع يعيش تحولات عميقة وأزمات قيمية خانقة.
لكن يبقى السؤال مفتوحاً:
– هل تستطيع الزوايا تجديد رسالتها الروحية في مغرب اليوم؟
– كيف يمكن أن توازن بين الحفاظ على نقائها الروحي والتفاعل مع قضايا المجتمع؟
– وهل يمكن أن تتحول من “موضوع نقد” إلى “موضوع تفكير” يساعدنا على إعادة طرح العلاقة بين الدين والسياسة في أفق جديد؟
هذه الأسئلة، وليست الاتهامات، هي ما ينبغي أن يوجّه النقاش العام حول الزوايا.
فالغاية ليست الدفاع عنها ولا الهجوم عليها، بل تحرير النقاش من الانفعال والإسقاط، ودفع القارئ إلى التفكير النقدي الهادئ.
اترك تعليقاً