منتدى العمق

جاك بيرك أو المقاربة اليقظة‎

ولد عالم الاجتماع الفرنسي جاك بيرك بفرندة (الجزائر) في 4 جوان 1910 زاول تعليمه الابتدائي والثانوي بالجزائر قبل أن ينتقل إلى جامعة السوربون بفرنسا ليدرس علم الاجتماع، ولكنّه اتّخذ قرار مغادرة الجامعة بعد سنتين لعدم ارتياحه للأجواء والتوجهات التي كانت سائدة بها. ألّف في مجال الدراسات العربية والإسلامية العديد من الكتب القيمة، وقام بترجمات عدّة من أهمّها ترجمته للنصّ القرآني الصادرة بباريس عن نشر “سندباد” عام 1990 وقد أثارت جدلا كبيرا إلى أن أعقبها بكتابه المعنون بـ”إعادة قراءة القرآن” صيف 1993 وهو مجموع المحاضرات التي ألقاها بـ”معهد العالم العربي” بباريس لتقديم ترجمة لمعاني القرآن.

اشتغل مدّة من الزمن (1934-1953) بالمغرب الأقصى وانتقد نمط الحياة الاستعمارية فنقل مباشرة إلى ناحية امنتانوت بالأطلس الكبير وهناك تعلّم اللغة الأمازيغيّة واهتمّ بدراسة البنية الاجتماعيّة لسكّان المنطقة وتحديدا قبيلة سكساوة المغربية من خلال كتابه “البنى الاجتماعيّة في الأطلس الكبير” . ثمّ طلب التفرّغ ليشغل منصبا عرضته عليه منظمة اليونسكو في مدينة سرس الليان بمصر سنة 1953. كما شغل على مدى ربع قرن كرسي “التاريخ الاجتماعي للإسلام المعاصر” في المعهد الفرنسي (Collège de France) وذلك من سنة 1956 إلى سنة 1989.

وأشرف ردحا من الزمن في لبنان على معهد تعليم العربيّة للمستشرقين.

إن جاك بيرك وهو يحاول إبراز الأهمية التي ظلت على امتداد فترات زمنية متقاطعة، واعية بحدودها.

إنها مقاربة يقظة ترفض كل تعميم انطلاقا من حالة مزدوجة التحديد.

إن مرحلة التنظير، كمرحلة ملازمة لكل بحث علمي، لايمكن التوصل إليها حسب جاك بيرك إلا انطلاقا من عمل مقارن بين حالات منفردة “. ومن ثم ستعطي الأولوية للتحليل قبل التركيب مع ما يتطلبه ذلك من قطع مع المناهج التي اعتادت البحث عن الثوابت وعن الاطلاقية “.

وفي هذا الإطار كذلك سيتم تعويض البحث عن التشابهات، بالبحث عن الاختلافات والفوارق. ومن ثم الاهتمام بتعددية الأشكال التنظيمية، وكذا البنيات الاجتماعية التي بلورها سكان هذه المنطقة أو تلك، بالخصوص سكان الأطلس الكبير الذين شكلوا مجال اهتمام، ودراسة جاك بيرك.

بالرغم من طغيان منظور ما يسميه هو نفسه { بالاستمرارية المغاربية }لابد إذن من إدراك القبيلة ضمن صيرورتها التاريخية، وبالتالي فعوض تعريف واحد لها، ستبرز تعاريف ومتغيرات عديدة تستمد مصداقيتها من أهمية السياق التاريخي، والانتباه إلى علاقة القبيلة بالدولة، وإلى لحظات الصراع حول السلطة، ومدى آلتصاقها بالوطن المسكون.

ينبغي إذن، حسب جاك بيرك دائما الاهتمام بدراسة “الحالات” في ذاتها وفي أبعادها التاريخية، ومن ثم سيهتم بدراسة المجتمع القروي، وبشكل أدق المجتمع الزراعي في علاقته مع الوسيط الطبيعي، أو ما يسميه ب”الأساس أو الجوهر الطبيعي”.

هذا التداخل بين الإنسان ووسطه القروي هو الذي سيحدد في نظره، الشكل المجتمعي Sociétal، لقبيلة معينة { سكساوة } بالنسبة إليه”.

بالإضافة إلى المتغيرات السابقة ، وضمن إشكال نظري آخر متعلق أساسا بمحاولة قراءة أو إعادة كتابة التاريخ الاجتماعي لشمال افريقيا، سيركز جاك بيرك على دراسة العلامات، وما يمكن أن توفره من إمكانيات في فهم التاريخ الحقيقي لهذه المجتمعات، يقول جاك بيرك : “لقد سعينا فقط إلى التأكيد على الأهمية التفسيرية التي تكتسيها العلامات في فهم جانب من الظواهر الاجتماعية في شمال إفريقيا، لأن هذه المنطقة ظلت باستمرار أرض البحث عن هوية الذات بالاستناد إلى التأويل أو التأكيد أو الخذاع، أو بواسطة الاندماج أو الانشطار، ففي حياة الكلمات يكمن قسط من تاريخ ومورفولوجية المجموعات”.

هذه الاعتبارات ستجعله ينظر إلى القبيلة في أبعادها الحقيقية، ومن ثم محاولة مقاربتها بحذر شديد ليس باعتبارها وحدة مغلقة بل ضمن إطار عام شامل”. ضمن شرط تاريخي محدد، عبره تم تعمير المغرب.

“إن تعمير المغرب – يقول جاك بيرك – يبدو لنا كفسيفساء، لكن الحبة به صغيرة ومحدودة، والألوان رغم تعددها فإنها تتجمع تقريبا دائما في نسق واحد هو الأسماء التاريخية الكبرى.” إلا أن هذا لا يعني أننا استطعنا حل ألغازها ودلالتها، ولكن يقول جاك بيرك، أليس التمييز بين خطوطها عملية تحفز عليها أبسط ضرورات المنطق، وأبسط متطلبات العقل؟

هذا ما قام به باحثونا، فقد اعتمد بعضهم على الوهم النسبي الذي ينتشر الأبناء بمقتضاه بعيدا عن الأب، بينما اعتمد البعض الاخر على التفسير التاريخي الذي يقوم على تناحر المجموعات، هكذا شرح كل بطريقته الخاصة هذه التكرارية الغريبة التي تعرفها أسماء المجموعات “.

إن القبيلة لا تتطور فقط بواسطة التباعد، بل إن التباعد يشكل فقط إحدى اتجاهاتها الممكنة، وهو نتيجة للتقلبات التي فرضها عليها التاريخ. إنها تتطور وبنفس القدر عن طريق التقارب. ومن ثم يمكن إدراكها {كعسلوج} واحد تمتد جذوره من قريب لقريب حتى يشمل مجموع جهات الأفق “.

إنها لا تنمو فقط عن طريق الاندماج، بل كذلك عن طريق التجميع. وعندما نقول تجميع فهذا يعني أن ثمة فاعل، ثمة دوافع وعوامل ساهمت في خلق تكتلات، وتشتيت أخرى.

تكمن هذه العوامل حسب بيرك في “الانتصارات والهزائم، تنقلات الغزاة أو تيهان الهاربين، الحيوية التي تبعث على الانتشار، أو الضعف الذي يقترن بالتشتت، حركات التوسع أو الانكماش التي يعرفها الاقتصاد الفلاحي وعلى الأخص الرعوي، تكاثر أو اختلاط المجموعات.” وبشكل عام التقلبات التي فرضها عليها التاريخ كما أشرنا آنفا، وهكذا يخلص جاك بيرك في الأخير، إلى إظهار طغيان عامل الكسب والمعاش، مع ما يترتب عن ذلك من حروب وصراعات، في فهم، وتفسير تكتلات بشرية معينة.

يقول جاك بيرك :” إذا ما حولنا، الآن، تجميع المظاهر الأكثر تأثيرا في التنظيم القروي، فإننا سنتبين أنه نتيجة لغلبة الإنسان الاقتصادي.” Homo économicus .

إن الحديث عن تكتل بشري معين من خلال صراعه مع الطبيعة ومع التاريخ، من خلال صراعه مع الحياة، هو ما طبع تصور جاك بيرك للقبيلة. وباعتبار أن هذا الصراع يستدعي الديناميكية والتحرك، فإن ذلك سينعكس لا محالة على مستوى التعريف، مستوى تحديد مفهوم القبيلة.

إنها حسب تعبير “بول باسكون” وبصيغة تلخص جيدا طرح بيرك، عبارة عن جمعية سياسية مبنية على عوامل اقتصادية جغرافية:”أية علاقات الإنسان بالأرض، والطاقة البشرية بالثروة البيئية وفضائها في مستوى تكنولوجي معين.

هكذا عوض العثور من خلال مجهود جاك بيرك على تعريف محدد للقبيلة سنجد أنفسنا أمام تساؤلات أخرى جديدة تتعلق أساسا بالعامل المحدد الذي على أساسه نفهم هاته التكتلات البشرية التي ندعوها قبائل، هل هو العامل الاقتصادي، الجغرافي، أم شيئا آخر، ومن ثم الرجوع مرة أخرى، أو بالضرورة، إلى الميدان، إلى المادة الخام، الأساس لكل تنظير حسب بيرك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *