منتدى العمق

توجس الدولة والإسلاميين

لا أدري صراحة إن كان بإمكاني الحديث عن الإسلاميين بالتعريف الشائع ، فالقول بمنهجية الإسلام وقدرته على ضبط إيقاعات الحياة والتفكير من داخل أبجدياته لا يعني دائما الحديث عن الإسلاميين، فهناك مفكرون كثيرون يفكرون من داخل الدين لكنهم لا يحسبون على دائرة الإسلاميين . ولكي نخرج من هذا التيه اقترح ما اعتمده عادة في الحكم على شخص ما بأنه إسلامي أم لا .

إن الإسلاميين يشتركون في العادة في أمرين إضافة الى ما سبق:

الأمر الأول وهو أن الإسلاميين يشتركون في الاعتقاد بفساد الأنظمة السياسة، ليس هذه الموجودة عندنا ولكن الأنظمة الموجودة في العالم حتى ولو كانت أعرق الديمقراطيات، ذلك أن مفهوم الدولة في العقل الإسلامي مفهوم مثالي لم يتحقق إلى اليوم، ولهذا تستطيع الدولة الإسلامية أن تحافظ على مثاليتها لما تشربه العقل المسلم من النصوص والعمريات المنتقاة بعناية عند محترفي الوعظ والتنظير، إنها دولة مثالية لم ولن تتدنس بالواقع المرير .

فهناك من الإسلاميين من يعتقد بفساد الأنظمة لكنه لا يجد نفسه ملزما بتغييرها مادامت الدولة تحافظ على جوهر ما يبقيها دولة إسلامية مثل رفع الآذان وإقامة الصلاة وباقي الشعائر والعبادات، فالمسلم ملزم فقط بالعمل الصالح وحث الناس على الفضيلة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. أما الصنف الثاني فيعتقد بفسادها ولكنه يجد نفسه ملزما بالحرب عليها وتغييرها وهنا نكون أما حركيتين : الأولى تؤمن بالعنف وهو شأن الجماعات السلفية الجهادية ، والثانية لا تؤمن بالعنف وهو شأن الحركات الإخوانية.

الأمر الثاني من التحديد وهو أن الإسلاميين في مجملهم يؤمنون بدولة للخلافة كانت وستعود لا محالة، ففكرة الخلافة فكرة جوهرية تقوم مقام الوعد الذي يترسخ في اعتقاد الإسلاميين، حتى وجد منهم من يجعلها من أصول الاعتقاد وبنى عليه كل نظره ( العدل والإحسان ). ضدا على إرادة التاريخ الذي لا يقيم لمثل هذه الأمور اعتبارا.

إن الذي ينظر في ما كتبه المسلمون قديما يلفي أن الفكر كان ينثر بمعنى أن الذي كان يؤلف كتابا لم يكن يقصد به فئة، بل إنه كان ينثر الفكرة بين الناس فتفهم على مقاصد شتى دون أن تكون مخصوصة بتأويل معين عند فئة ما، فقد يستطيع أي إنسان مسلم أن يقرأ ما كتبه ابن تيمية أو الخطيب البغدادي أو الإمام الغزالي أو الإمام القرافي وابن عبد البر..، دون أن يحس بأي شيء ، فأفكار الغزالي مثلا مطروحة في الطريق يقرؤها الأعجمي والعربي والقروي والبدوي على تعبير أستاذنا الجاحظ ، لأن واضعها أخلص في تخليصها من التبعية لفئة ما ، وقد بقي المسلمون على هذا حتى جاء الحسن البنا فكتب لفئة ووجد المسلمون أنهم غير معنيين بخطابه لأنه موجه لحركة سميت الاسلاميون.

عندما وقعت الأمة الإسلامية تحت الاستعمار ونشأت الحركة الوطنية بمختلف تلوينها، لم يكن مفهوم الخلافة واقعا في أبجدياتها ، فالذي يضطلع على ما كان ينظر له مثلا الزعيم علال الفاسي يجد أنه كان يقر علنا بالتناقض الموجود بين حكم الإسلام المسمى شريعة وحكم الديمقراطية الذي يسمى وضعا، فحاول بما أمكن أن يفتح باب الاجتهاد على مصراعيه وأطلق موجة مقاصدية لم ينتبه إليها المغاربة إلا بعد فوات الأوان، بعدما تم إطفاء شمعة الاجتهاد المغربي السياسي بريح المشرق الوهابية والإخوانية ، وهذا ما جعلني أقول بداية إن التفكير من داخل الدين لا يعني الإسلاموية، فعلال الفاسي مثلا وغيره كثير يفكرون من داخل الدين ولكنهم لا يحسبون على دائرة الإسلاموية ماداموا أنهم يبقون باب الاجتهاد مفتوحا على المصلحة المرسلة وليس على وعد الاستخلاف وآراء المرشد.

وحتى عندما نشأت الدولة المغربية الحديثة لم تكن فكرة الخلافة حاضرة في دولة المخزن رغم استغلال الدين بطرق شتى، بل إن الدولة المغربية استطاعت أن تضع حجرا أساسا لدولة حديثة بالإمكان معارضته وتقويمه بالمشاركة السياسية الحقيقية والتوافقات، فالمعارضة والنظام في جدل وأخذ ورد وصراع يعطينا في النهاية دولة لها مؤسسات بالمواصفات الكونية، فالإسلاموية بهذا خارج المعادلة لأنها لا تؤمن بجدلية التدافع ولكنها تؤمن فقط بوعد الاستخلاف.

لما نشأت الحركة الإسلامية نشأت على ما ذكرناه آنفا، فقضية السياسة والمشاركة السياسة انطلاقا من الممارسة الديمقراطية لم تكن مطروحة، فالديمقراطية كفر ومحاربة لحكم الله، هكذا تم التنظير باديء الأمر، فنشأت الحركة أخلاقية الغرض منها تقويم سلوك المسلمين بعد موجة الحداثة التي اجتاحت بلاد المسلميين وميعت المجتمع على حد تعبير سيد قطب، وهذه الفكرة ظلت محتفظة بشق منها السلفية الجهادية حيث قالت علنا بكفر الدمقراطية بينما احتفظت جماعة مثل جماعة العدل والإحسان بالتربية وتكثير العدد لهدم النظام من خارجه وإفقاده الشرعية بعدما حاكى الشيخ عبد السلام يس ثورة الإمام الخميني في إيران الشيعية.

إن التوجس بين الدولة والإسلاميين نشأ انطلاقا من هذه المقدمات، أي أن الدولة تنظر إلى الإسلامي جسما غريبا في فضاء السياسة، ليس لأنه يضع في أبجدياته إسقاطها من الداخل أو الخارج، ولكن لأن الإسلامي لا يؤمن أصلا بالمبادئ الكونية التي تقوم عليها الأنظمة في العالم، فالإسلامي لا يؤمن بالديمقراطية إلا غاية توصل للسلطة لا غير بعد فشل المشروع الوطني في العالم العربي الاسلامي، فهم آمنوا بها لما علموا أنها توصلهم للسلطة ولولا هذا لما آمنوا بها قط …

فالتوجس يبقى موجودا مادام أن الإسلامي يجيز لنفسه التبدل والتغير للوصول للغاية المرسومة، والتوجس يبقى قائما حتى ولو أظهر للنظام أعلى درجات الولاء وقال فيه ما لم يقله المتنبي في سيف الدولة، وهذا تأويل أن الدولة في المغرب تقبل توبة المعارض الشرس المحارب بالسلاح الذي هم بإسقاط النظام في سنوات خلت وتقربه وتضعه في أعلى المراكز الحساسة دون خوف منه مادامت تعلم إيمانه بممارسة السياسة من أجل السياسة ، لكن يستحيل أن تقبل بتوبة الإسلامي حتى ولو أظهر الولاء مضاعفا ويستحيل مطلقا أن تضعه في المراكز السياسية المتحكمة أو تطلعه على الخبايا والأسرار المخابراتية ، ذلك أن الإسلامي يجيز لنفسه أي شيء للتقدم وحتى ولو تغير فهو يتغير لإستراتيجية الحرب ليس إلا، وهذا ما تفهمه الدولة حتى قال ملك البلاد في تصريح ينسب له : إن الإسلاميين ملة واحدة.

وأنت ترى كيف أن النظام في تركيا علماني ديمقراطي، يقيم علاقات قوية مع الكيان الصهيوني ويبني علاقاته السياسة والتجارية وفقا للمصلحة لا لموقف الشرعة، فالنظام التركي انطلاقا من منظور الشرع هو نظام فاسد، لكنه يصبح صالحا في نظر الإسلاميين فيبجلونه حتى خرقا للنظام الأخلاقي، لأنهم يعتقدون جازمين أن ما يقوم به آردوغان في أعلى درجات السياسة الحديثة ما هو إلا توغل وإستراتيجية للحرب وليس غاية في أصله إذ إن الغاية إقامة الخلافة . وحتى حين تقصف غزة فإن آردوغان يندد ويندد حكام العرب فيلتمسون لآردوغان عذرا ولا يلتمسونه لحكام العرب.

فأنى للدولة أن تثق في الإسلاميين وهي ترى كيف أن الشيخ الفزازي كان بالأمس في أقصى اليمين يكفر النظام طولا وعرضا ويدعو للجهاد، حتى انقلب إلى موالي فوق العادة، وقال إنه لم يكن سلفيا قط ولا آمن بالفكر الجهادي يوما . وأنى لها أن تامن المكر وهي ترى كيف أن رئيس الحكومة الذي صرخ في قضية تقريب الهمة هو نفسه الذي دافع عنه عند وصوله للحكم ، وهو الذي يدعو للقطع مع حفل الولاء لأنه مهين ثم يدافع عنه بعد ويعتبره موروثا شعبيا يعتز به المغاربة . تناقضات كثيرة تفهم منها الدولة أن الإسلاميين يغيرون من إستراتيجيتهم ولا يتغيرون.

إن التوجس بين الدولة والإسلاميين لن يزول حتى ينخرط الإسلامي في السياسة من أجل السياسة بشكل واضح اعتبارا من أن السياسة فن الممكن وليس حكما لله وليس نيابة عن الله ، بهذا يستطيع أن يتقدم للانتخابات من اعتبارات سياسية .وأخلاقية وعملية وليس غيرها ، فلا نسمع أن شخصا ما يصوت لحزب سياسي فقط لأنه يحارب العلمانيين ويغيظهم طبقا لاعتبارات لا علاقة لها بما تقوم عليه السياسة ، ولكن التصويت يكون من أجل نظام وحفاظا على نظام علماني يضمن لنا البقاء مجتمعيين في هذا الوطن اليوم وغدا وإلى الأبد ، وليس نظاما اسلامويا فئويا اقصائيا تقطع فيه الرقاب ويضطهد فيه الناس لاعتقادهم.