منتدى العمق

أطباء أم تجار؟

نقد مقالة جهاد لبريكي

من العيب حقا ، تحوير مغزى مقولات الفلاسفة ، و تجريدها من كافة دلالات سمو رسالة أصحابها ، بإعطائها تحليلا محرفا عن المقصد الحقيقي ، ليتماشى و فقط مع أهوائنا و قناعاتنا الشخصية ، كما الجرم الذي ارتكبته جهاد البريكي بحق الفيلسوف ” ادغار موران ” ، اثر كتابتها لمقالها المصغر في جريدة الأخبار ، و تحديدا عند الصفحة الأخيرة بالجريدة .

قد تكون مهنة المدونة جهاد البريكي طبيبة ، لكن هذا لا يخول لها سلطة استغلال المقولة بنحو خاطئ ، حتى تدعم بذلك صحة وجهة نظرها المشبعة بالنرجسية ، الغير ماثة لغتها بصلة للحياد ، فكما و أنه لا يجوز الاستشهاد بنص قرآني في غير محله ، هو الأمر ذاته حتما يتعلق بالأطروحات الفلسفية ، و التي أود تذكير جهاد لبريكي بأنه لم يتفوه بها عبثا أو تكتب اعتباطا ، حتى نشغلها كما يطيب لنا.

يقول ادغار موران ” إذا كان هناك مكان يجسد الإنسانية في كمالها فهو المستشفى و إذا كان هناك مكان يجسد اللاإنسانية في بشاعتها فهو أيضا المستشفى ” . هي المقولة نفسها ، التي اختتمت بها جهاد لبريكي نصها الصحافي ، و كلها عين ثقة بأنها قد ذهبت إلى تدعمي وجهة نظرها بالحجة الدامغة ، التي ترد لممارس مهنة الطب بريق كرامته ، بينما و من نسق مغاير لما جعلتها ظنونها تحسبه ، فصديقتنا المدونة غفلت عن تأديتها لطقس في غاية الأهمية ، و الذي يستوجبها بإلزامية تأمل المقولة الفلسفية ، قبل أن تستأثر بها كدليل تبرهن من خلاله عن سداد رأيها . و لأن هذه الفكرة غابت عن ذهن صديقتنا جهاد ، أو لربما تغاضت عن اللجوء إليها ، بحكم طبيعة الإنسان الميالة لتعظيم الأنا و الاستكبار ، فقد وقعت المسكينة بتصرفها ذاك في شرك تمرير المغالطات ، و الإساءة بتأويلها المكذوب إلى مصداقية مقولة ادغار موران .

حقا، هي مقولة في غاية الروعة، و تعد بمثابة تمثل لما نحن في خضمه، و ما ينبغي للإنسان عليه أن يكون، فمن المرجح للمستشفى أن يغدو جنة أو جحيما، لكن السؤال المطروح هاهنا هو بحق من في رأيكم ، الطبيب أم المريض . طبعا هو المواطن و ما من احد سواه ، فهو المقابل بالاهانة و عبارات التجريح ، من لدن الأطباء و المشرفين على قطاع الصحة ، كلما أكرهته ظروف سقمه على زيارة المستشفى بغرض التطبيب و مداواة نفسه ، أما حضرة الطبيب و الذي وصفت جهاد في كلمات مثيرة للاستغراب ، أجرته بالزهيدة و موقعته في موضع الطبقة الفقيرة ، كذبة لفقتها و جعلت نفسها تصدقها ، بالرغم من معرفة الناس التامة بأن أدنى مراتب الطبيب ، تعينه على العيش في ترف و بذخ ، فانه الشخص الوحيد الذي يمكننا إدانته في هذا الصدد ، و اعتبار مقولة ادغار موران تنطبق عليه .

جميعنا نعلم و بلا استثناء ، مقدار معاناة المواطن كلما قصد المستشفى ، اذ تتم معاملته بأساليب تحقيرية مستفزة ، و كأنما هو من طينة مختلفة عن بني البشر ، تائها بين الأروقة لا يلقى الرعاية اللازمة ، أمام معشر أطباء منعدمي الضمير لا يرقون لشرف هذه المهنة ، و لا يتأخرون ولو لوهلة واحدة عن تلطيخ هيبة تلك الوزرة البيضاء . أنى للمدونة جهاد البريكي حق المشتكى ، في دفاعها المستميت عن كرامة الطبيب و علو قدره ، و هو المستهتر في تأدية المهام الموكلة إليه ، حيث لا تجد له أثرا في المستشفى إلا بمشق الأنفس ، دائم الغياب و التهرب من تقديم واجباته كطبيب ، هذا و دونما الحديث عن الممارسات المخلة للأدب التي تعج بها المستشفيات ، و كأنما هي قد أعدت لتصبح ماخورات لا أماكن للتطبيب و خدمة المواطنين .

إذن ، فالواقع يثبت لنا كيف أن هذه المقولة تصب في اتجاه آخر ، معاكس و بدرجة كبيرة لتلك الرؤيا التي صاغتها لأجلها جهاد البريكي ، فالطبيب لا سواه من تعود إليه مسئولية تنظيم الأجواء بالمستشفى ، إما بإضفائه عليها طابع الرحمة فتصير موطنا للإنسانية ، أو إصباغها بطابع العذاب جاعلا منها مقرا للشر المستطير ، أما المريض فمستبعد و بحد كبير عن توجيه اللوم إليه بمثل هذه المقولات ، و إن كانت تصدر عنه سلوكيات عنيفة و غير سوية ، و التي ما هي إلا تحصيل التهميش و الاستخفاف المتعاطى به معه من قبل الموظفين بالمستشفى ، و بوجه التحديد الأطباء الذين يفضلون إغلاق أبواب مكاتبهم ، و تبادل أطراف حديث كلها ثرثرة فارغة مع ممرضيهم ، عوضا عن كشفهم على مرضاهم الذين يكتفون بالنظر إليهم بطرف كله ازدراء و استخفاف .

ما أشفقني حقا على مثل هذه العقليات ، التي يحجب عنها الطمع إبصار نور الحقيقة ، و الدفاع عن قيم الإنسانية الحقة بالتزام نقطة الحياد و الموضوعية ، فالصديقة جهاد البريكي أفضت بما لديها من غضب ، و هي توجه كلمات العتاب لكل من يستقوى في نظرها على الطبيب ، الذي تحسبه ضحية سياسة المطرقة و السندان ، في تبريرها الشديد لجميع سلوكياته المشينة بأنها تحصيل حاصل ، لمجرد أنها ليست قنوعة بالأجرة التي يتقاضاها الطبيب .

و لعل رائحة الجشع ، بدت فواحة من السطور الأولى للمقال ، في محاولة يائسة منها بوضع مقارنة بين راتب البرلماني و الطبيب ، هذا و إن لم تصرح عنه بشكل ملحوظ ، لكنه جد ظاهر بحكم سيادة منطق الأنا في سطور مقالها . و من هذا المنطلق ، أرغب في طرحي سؤالا على الطبيبة جهاد لبريكي ، ما إن كانت تعتقد فعلا بأن الأجرة التي يتلقاها زملاءها عند نهاية كل شهر ، هي في واقع أمرها زهيدة كما تدعي و تجعل الطبيب في طبقة الفقراء المحتاجين ، أم هو الطمع و شهوة الكلام فقط ما أجبرها على الكتابة بهذا النحو .