غيثة والفضاء الرقمي: بين التشهير والإنصاف القضائي

عرف المغرب في السنوات الأخيرة نقاشاً متزايداً حول تلاقي العدالة وحقوق الإنسان مع الفضاء الرقمي. ومن بين القضايا التي كشفت هذا التوتر ما تعرضت له الشابة غيثة، حيث بادرت بعض المنابر الإعلامية إلى نشر أخبار تتناول قضيتها بطريقة تحمل الإدانة والتشهير، قبل أن يقول القضاء كلمته وينصفها عبر قرار الحفظ، مؤكداً بذلك براءتها.
لكن على الرغم من الانتصار القضائي، بقي أثر “الخبر الرقمي” حاضراً، يتداوله محرك البحث ويطفو كلما كتب اسمها على الشبكات الاجتماعية. وهنا يطرح سؤال محوري: هل يكفي إنصاف القضاء وحده إذا ظلت المنصات الرقمية توثق للوصمة؟
الحق في النسيان الرقمي
يعد “الحق في النسيان الرقمي” من أبرز تجليات حقوق الإنسان في العصر الرقمي. وهو حق يمنح الأفراد إمكانية محو أو تقييد تداول المعطيات الشخصية أو الأخبار التي أصبحت غير ذات صلة أو غير دقيقة أو مجحفة بحقهم، خصوصاً بعد صدور حكم قضائي منصف أو مرور زمن كافٍ يجعل استمرار تداولها ضرباً من التشهير.
في حالة غيثة، فإن استمرار وجود الأخبار التي تدينها رقمياً رغم حفظ القضية يشكل اعتداءً مزدوجاً:
1. اعتداء على قرينة البراءة التي كرسها القضاء.
2. إضرار بكرامتها الإنسانية في الحياة الخاصة والمهنية والاجتماعية.
الصحافة والمسؤولية الرقمية
لا أحد يجادل في أهمية حرية الصحافة ودورها في نقل الخبر. غير أن الحرية الإعلامية، في زمن الرقمنة، يجب أن تواكبها مسؤولية مضاعفة. فالنشر ليس مجرد ورق يطوى في أرشيف مكتبة، بل بيانات تنتشر بسرعة وتظل في ذاكرة الإنترنت إلى أجل غير مسمى.
من هنا، يصبح من واجب المؤسسات الإعلامية:
مراجعة أرشيفها الرقمي بشكل دوري.
تصحيح أو حذف الأخبار التي تبين لاحقاً أنها لم تكن دقيقة أو أن القضاء أنصف المعني بها.
احترام الحق في النسيان كجزء من التوازن بين حرية الإعلام وحقوق الإنسان.
المغرب والتحولات الحقوقية الرقمية
رغم عدم وجود نص قانوني صريح في المغرب ينظم “الحق في النسيان الرقمي”، إلا أن المنظومة التشريعية الوطنية (القانون 09.08 المتعلق بحماية المعطيات ذات الطابع الشخصي، والدستور الذي يكفل الحق في الكرامة والحياة الخاصة) توفر أساساً يمكن البناء عليه. كما أن التجارب المقارنة في الاتحاد الأوروبي تُلهم بضرورة إقرار آليات قانونية واضحة تمكّن المواطن المغربي من طلب مسح البيانات المسيئة أو غير الدقيقة، خاصة حين تكون العدالة قد حسمت فيها لصالحه.
نحو عدالة رقمية منصفة
قضية غيثة ليست استثناء، بل هي نموذج لعشرات الحالات التي قد يتعرض لها مواطنون، يجدون أنفسهم أسرى “أحكام رقمية” موازية لأحكام القضاء، تصدرها محركات البحث ومنصات التواصل الاجتماعي. لهذا، فإن الرهان اليوم ليس فقط إصدار قوانين جديدة، بل بناء ثقافة إعلامية وقضائية ورقمية تعترف بأن العدالة لا تكتمل إلا إذا امتدت إلى الفضاء الرقمي.
خاتمة
انتصار غيثة في المحكمة يعكس عدالة الدولة، لكن إنصافها في الفضاء الرقمي يظل معلقاً على وعي الإعلاميين، ومسؤولية المنصات، وإرادة المشرع. الحق في النسيان الرقمي ليس رفاهية، بل هو امتداد طبيعي لحق الإنسان في الكرامة، وشرط أساسي لتحقيق مواطنة رقمية كاملة في المغرب.
اترك تعليقاً