وجهة نظر

صناعة الهويات المغلقة

لم تكن إشارات الأستاذ حسن أوريد، في حواره مع إحدى الجرائد الوطنية، حول التناقض، الذي تعاني منه بعض الهيئات الأمازيغية، بين مطالبتها بالخصوصيات الإثنية وزعمها الانفتاح على فضاء الحداثة والعولمة، لتمر دون أن تثير ردود فعل بعض المقتاتين على خطابات الهوية والتشظي الهوياتي. فحديثه عن التوظيف الخارجي لخطابات التنوع والتعدد في زمن العولمة ضد الدولة الوطنية، كما تمثلته بعض التجارب المشرقية، يحيلنا على ضرورة قراءة هذه الخطابات ليس في بنائها الداخلي المؤسس على شعارات الحق والتعدد والأصل، وإنما داخل منظومة صناعة الهوية التي ترسمها مشاريع الاخضاع والهيمنة. ففي كل مراحل التحول التي تعيشها الأمم تستدعى مفاهيم الانتماء والهوية لتقديم قراءة مغايرة للواقع من خلال مساءلة الذات والآخر والمفاصلة الممكنة بينهما في حقلي الثقافة والمجتمع. لكن هذه المفاهيم، زيادة على كونها أداة لصناعة مخيال جماعي جديد، فإنها آلية للتحكم في قرارات الدول وتدبير الحكام.

قال ذات يوم أرثر شلزنج المستشار السياسي للرئيس الأمريكي كينيدي: “المجتمع الأمريكي يأكل بعضه بعضا من الداخل بسبب الجنسيات المختلفة والديانات، وهو يحاول أن يثبت وجوده ويؤكد هويته بافتعال العداء مع الآخرين”. فالتناحر الهوياتي، خطابا وسلوكا، يؤدي إلى تقويض سلطة الدولة وتفتيت المشترك الوطني. لذا فصناعة الهويات، في دول الجنوب، بالرغم من العناوين الحقوقية التي تغلفها، وشعارات الحداثة التي تزين قسماتها، ليست إلا محاولة لتركيب هويات جديدة على أنقاض الدولة الوطنية. وفي هذا الإطار تبدو النماذج الأكثر اشتعالا هي التي بنيت فيها الدولة القومية على مبدإ العرق والانتماء المفروض. وإذا كانت الثقافة هي إحدى الأدوات الاستيهامية في بناء الهوية والتنافس على امتلاك الرأسمال الرمزي وتحديدات الذات داخل العالم المعاصر، فإن طرح أسئلة الثقافة وإعادة بناء التاريخ الرمزي يتطلب قراءة طبيعة التوسعات والاستقطابات والانهيارات والتراجعات التاريخية للمشروع الوطني.

فقد كانت الثقافة على الدوام مجالا حيويا لتقديم المشاريع البديلة ليس من أجل إثبات الوجود ولكن بغية تفتيت الموجود. لذا تقوم صناعة الهوية على إنتاج خطاب الانتماء البديل من خلال مفردات: الرمز والدين والتاريخ واللغة. والتلازم بينها ليس جوهريا في شكله وإنما في المنظومة القيمية التي يقدمها ويحيل عليها. فالخطاب الهوياتي البديل يبحث في حفريات الذاكرة عن رموز مؤسسة للانتماء الجديد ولو لم تسندها المعطيات العلمية الدقيقة، فالحرف والاسم والنقش والتعابير الفنية والأشكال الهندسية والأدوات التقليدية.. كلها سمات يتحدث عنها باعتبارها مكونات حضارية أفقدتها المنظومة السائدة مقومات وجودها، والواجب على المعتقدين بأصالتها إحياؤها. لذا يصر أصحابها على تعبئة الأتباع من أجل حروب رمزية دفاعا عن اسم أو علم أو أشكال يصعب إقناع المجتمع بصدقيتها العلمية والتأريخية. لذا ستجد من يحدثك في قرن العولمة والتقنية عن أساطير القرون الخالية باعتبارها تعبيرا عن الذات الموعودة، وحيث “الرغبة في شعيرة متميزة رافقت السيرورة الدائمة للاختلاط الطوعي أو الإكراهي الذي جعل من كل نقاء عرقي أو قبلي أو إثني مجرد أسطورة جميلة يرويها الآباء للأبناء” كما يقول أحد الباحثين. ولأن كل بديل لا بد له من مبرر وجودي في التاريخ والحاضر فقد بحث الخطاب البديل عن سند تاريخي لنماذج ماضوية تبرر وجوده من خلال إنشاء ذاكرة مصطنعة يرجع إليها عند الحاجة الاستحضارية وتنتقى من ملايين الوقائع المتعددة بغية الاستدلال على عمق التصور الانتمائي البديل.

تقوم صناعة الهوية على المفاصلة الجماعية عن الغير والتميز الذاتي. وإذا كان التراكم المجتمعي قد أسس هويات لا يمكن وصفها بالثبات، لأنها رؤية ميتافزيقية هيجيلية متجاوزة، فإنها تحتفظ بدرجة من القبول الجماعي والتعبير عن الذات المشتركة. لكن الانقضاض عليها يخلق كيانات رمزية ونفسية هي جزء من جغرافيا ما بعد التشظي وبناء الدول الفاشلة. فإضافة إلى النماذج المشرقية التي تعيش حالة من التجاذب الهوياتي المسيس، يسطع النموذج الليبي الصاعد المؤسس على التقسيم القبلي والجغرافي والذي سيكون مثالا حيا على الحدود. لذا فخطر الانسياق مع منظومة صناعة الهويات البديلة لا يتوقف في بناء النمذجة الجديدة ثقافيا بل في تقديم البدائل السياسية والجغرافية. لذا لا يتورع منظرو وسدنة الخطاب في الحديث عن كيانات سياسية بديلة والدفع باستقلال مناطق جغرافية والدفاع عن الكيانات المؤسسة وفق المنطق نفسه مثل الأكراد في العراق. وفي كل هذا المسار تكون النهاية هي هدم المشترك السياسي للوطن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *