وجهة نظر

نحو تقييم نقدي

أزيد من مئة سنة على رحيل ماكس فيبر، وما زال تراثه السوسيولوجي والسياسي حي يرزق في شتى أنحاء العالم، داخل الجامعات ومؤسسات ومعاهد البحث العلمي بكل تخصصاته، ولازال رجال السياسة ينهلون من حكمه ومن أفكاره ونظرياته التي تصف العالم الحديث.

وعالم السياسة والاجتماع الألماني فيبر، هو صاحب المحاضرة المشهورة “السياسة كمهنة” التي يعود تاريخها إلى 1919، والتي قال فيها أن السياسة عبارة عن “حفر ألواح سميكة”،  وهو ما جعل الرجل يمزج بين الممارسة والتنظير، ويؤسس مدرسة للإشكالات السياسية انطلاقا من كتابه الشهير “رجل العلم والسياسة”.

إن استحضارنا لفيبر اليوم، هو نوع من الاعتراف بالانغلاق الجامعي وانحطاط البحث العلمي وانسداد الآفاق الدراسية والتربوية، الذي قادنا اليوم إلى أزمة حقيقية في ممارستنا للسياسة، وفي مقاربتنا لظواهرها السياسية من مختلف الزوايا القانونية والاقتصادية والتاريخية والجغرافية.

ولعل ما يحز في النفس أكثر، هو ابتعاد نخبنا السياسية والثقافية عن أي مساءلة نقدية، حتى نضمن حدا أدنى من الموضوعية، ونحدد ما لنا وما علينا. وهذا ما أثر سلبا على جيل كامل من الباحثين الشباب في أبحاث العلوم الاجتماعية، والتي من دونها لا يمكن التعرف عن طبيعة وخصوصية نظامنا، وممارستنا السياسية، ودراسة منظماتنا وأحزابنا وجمعياتنا.

ومن غريب المفارقات أن تكون الدولة اليوم أكثر عقلانية من سلطتها التي لا زالت تؤمن بالإكراه، وتشرعن العنف بكل أشكاله، وتنتقم من طلبات الشعب، وتجرف آماله وتطلعاته، رغم دفاع الجميع عن الآليات الديمقراطية، عن طريق الاختيار الحر في الانتخابات، وأثناء التحالفات، وخلال التصويت على البرامج والمصادقة على القوانين.

فالوطن هو الرافعة، وهو العتلة التي تستطيع أن تنقلنا من حالنا الحالي إلى حال آخر بديل و ومكن. فإذا كان الصراع حتمي بين القوى السياسية في صراعها على السلطة، فيجب أن يكون من أجل الانتقال إلى حال التقدم، ومن حال السبات والانتظار إلى حال اليقظة والفعالية والإنتاجية والمردودية، وذلك حتى نخرج مما قبل التاريخ إلى التاريخ، وإلى العصر الحديث.

إن ما نحتاج له اليوم ليس “الشفقة في السياسية”، وهو ما يعتبره فيبر أمر بئيس. نحن في حاجة إلى سياسيين لهم القدرة على التنبؤ بما سيحدث غدا أو الأسبوع المقبل، الشهر المقبل، والعام القادم. وأن يكونوا (كما يقول ونستون تشرشل ) لديهم القدرة بعد ذلك ليشرحوا لماذا لم يحدث ذلك.

وبقدر ما كانت القوى الديمقراطية والحداثية معنية في مراحل قوتها بهذا التوجه، بقدر ما باتت متخلفة عن ركب الحراك المجتمعي المقاوم لكل أشكال النكوصية والارتداد. والمقصود هنا هو عجز النخب المتنورة عن تحديد موقع الظاهرات السياسية في المجمل الاجتماعي، ومراجعة المسلمات، وإعادة النظر في دور المؤسسات السياسية ومدى قدرتها على التحول والتكيف مع واقع المستجدات الوطنية والتحولات الدولية.

ومن الضروري، في زمن الانتكاسة السياسية هذا، بل في زمن الردة، أن يبادر الديمقراطيون الحداثيون إلى الدفاع المستميت عن فصل السلط بين المؤسسات ومراجعة الدستور ومفترضاته، لنصرة المتغيرات الظرفية والتاريخية، انطلاقا من نزعة جماعية خالصة، تتجاوز الاحباطات و الانتكاسات والرهانات البالية التي جعلت من “السلم” مجرد تكتيك لتلطيف الصراع بين التيار المحافظ والتيار التقدمي.

إن ما ينتظره الشعب المغربي اليوم هو الانفتاح على قضاياه الحيوية بكل شفافية، فالخطاب المناصر للتغيير لا يكفي لإقناع المواطن الذي يتشبث بالحق في التعليم والعلاج والعمل والسكن، كما يتشبث بالحق في الديمقراطية للتعبير عن آرائه وتصوراته ومطالبه.

إن تقييم تجربتنا السياسية في ارتباطها مع دستور 2011، بات ضروريا إن لم نقل ملزما لكل إستراتيجية جديدة، تطمح إلى برنامج حكومي جديد يجمع بين هدفين أساسيين ولا يسبق أو يؤخر واحدهما: طريق ديمقراطي وحداثي موحد، وطريق وحدوي إلى الديمقراطية والحداثة.