مجتمع

نوابغ مغربية: عثمان جوريو.. أديب وعالم وسياسي بأفق متعدد المواهب

نوابغ مغربية

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

الحلقة 31: عثمان جُورْيُو.. أديبٌ وعالِمٌ وسياسي بأفُقٍ مُتَعَدِّدِ المَواهِب

مِن أصولِ أُسرةٍ أندلسية _ من جهة الأب _ ارتبطَ فيها الأجداد والأحفاد بالأساطيل البحرية، مهنة وحِرفةً، إبّان مَقْدَمها إلى المغرب، واستَوْطَنَت عُدوة سلا ورباط الفتح، ومِن أُصول أسرة تونسية _ من جهة الأمّ _، ترتبط بآل مِحرز الذين كانوا على صِلة علمية بالعالِم الكبير أبي زيد القيرواني، وفي مَدينة الرِّباط كان مولِد عثمان جوريو سنة 1911، وفي مساجِدها حفِظ القرآن الكريم، وأتْقَن القراءات السَّبع على يد شيخه المكّي بربيش. بعد 1921، سَيَشْرع في حُضور دُروس العَلّامة المدني الحسني والفقيه أبي شعيب الدّكالي، وأتْــبَعَ ذلكَ بِـتَعَلُّمِ الفقه والحديث وعلوم الآلة والتّـفسير والحساب، وبرَز فيها من بين أقرانه.

في سنٍّ مبكِّرة، والمغرب يصطلي بنار الاستعمار، سيجتهد الطّالِب عثمان جوريو في بَذْل ما تَعلَّمه لصالحِ أبناء وبنات المغاربة، وسيتَطوّع لخدمة اللغة العربية والقرآن، والنضال من أجل الوطن في صفوف الحركة الوطنية، فكان بذلكَ من الماهدين للعمل الوطني بالمغرب. 

ولِـمنزعه التديُّني وتربيته الأصيلة تشوَّقَ لنفحاتٍ المدنية المنوّرة ورَواء مكّة المكرّمة، فَحَجَّ شاباً معية عمّه محمد جوريو سنة 1932؛ فزار فلسطين وغزّة، وجالَس الشيخ أمين الحسيني، ونَال شهادات علمية من لَدُن شيخ الشام بدر الدّين الـحسيني، وعالِم الحرمين الشريفين محمد العمري، فكان لهذه الرحلة التزكوية العلمية أثَرٌ بالغٍ في سلوك وشخصية السيد عثمان، ونُودِيَ بين أقرانه مِن وقْتِها؛ بالـحاج عثمان جوريو. 

إثْرَ عودته مِن الحج، ازداد اعتكافاً في حضور الدّروس والنّهل من العلم، فانتقَل من صفوف التعلّثم إلى مصاف التّعليم، فَدرَّسَ بالزاوية المختارية والزاوية المعطاوية بالمدينة العتيقة في الرباط، وتَــمَيّز بين الأساتذة والفقهاء بالرّوح التضامنية والتطوّعية، فانتصَب مُدرِّساً ومحفِّظاً للقرآن في الجمعية الخيرية الإسلامية سنتيْ 1932-1933، فذاع صيته، وانتقَل للتدريس بمعهد جسّوس، أعْرَق المدارس الحضرية بالرباط، إلى جانِب الحاج أحمد بلافريج، فساعده مُساعَدةً عظيمة، جعَلت الأستاذ بلافريج يُــنِـــيـــبُـه عنه في إدارة المعهد حينَ اشتدَّ به المرض وأقعده شهوراً في سويسرا. وظلَّ مديراً وأستاذاً إلى مَطالع سنة 1944، وهي السّنة التي احتَلَّت فيها سلطات الاستعمار معهد جسّوس، وطَردت الأساتذة، فما كان مِن الحاج جوريو إلّا أنْ فتَح باب منزله للتلاميذ، وأشْرَف على تدريسهم ببيته العامِر، لإكمال المنهاج الدِّراسي، وتَـيَـسَّــر لــــ(60) تلميذاً النجاحَ تلكَ السنة، بفضل أستاذهم الماهر جوريو، وبعض الفضلاء مِن الأستاذة المتطوّعين. كما تولَّى الأديب جوريو مهمة مدير المدرسة القاسمية. 

عثمان جوريو، رجل فِكر وتربية وسياسة وأدب، عَرفها وعرَفَـتْـه، وما ادّخَر وُسْعاً في إيصال ما تَعَلَّمَهُ لمن لا يَعْلمُه، وما زاده عِلمه وسَعة معارفه وتَعَدُّدُ مواهِبه إلى تواضُعًا. عُرفِ بحيوية منقطعة النّظير، في الخلْف والظِّل، يَقُود الأعمال التّطوعية، ويَدعو للانخراط في صفوف حزب الاستقلال، ويؤطِّر الشبان، ويُساهم في تأسيس الجمعيات (جمعية المحافَظَـة على القرآن الكريم – رابطة مُديري مَعَاهِد التَّعليم الحر – هيئة صندوق الطّالب – العُصبة المغربية لكرة القَدم..)، يَقود مجموعة مَدارس محمد الخامس بَعد تعيينه بظهير ملكي مُديراً لها، فيَستفرغ الجهد والذِّهن لإدارتها وتأطير التلاميذ فيها، وإحسان العلاقة بأطُرِها. حينَ إدارته لمجموعة مدارس محمد الخامس؛ انعكَسَ نُبوغُه وتعدُّدية اختصاصاته على طريقةِ تسيير وتعليم وتكوين التلاميذ، فأسَّسَ بهم فُرقاً للإنشاد والغناء، وأخرى لفَنّ التّمثيل، والخطابة والإلقاء، ومجموعات للفنون التّشكيلية، إلى جانِب تكوينِ الفرق الرياضية، وتنظيمِ الـمَعارِضِ العِـلمية والـمُخيَّمات الصَّيفية. وتَخَـرَّج على يديه نجباء كُثُر مِن تلامذة مغرب الحماية، نذكر من بينهم المفكّر الراحل المهدي المنجرة، والسّفير محمد توفيق القباج، والحاجب الـمَلَكي إبراهيم فرج، والأستاذ حمادي لحلو. 

هذه النّجاعة المهنية والرّوح الوطنية التي أبان عنها الأستاذ عثمان؛ دَفعت الملك محمد الخامس إلى تعيينه مُدرِّساً للأمراء والأميرات بالقَصر الملكي سنة 1948، وفي نفس السَّنة، رُقِّيَ إلى رُتبة عالِم من الدّرجة الثانية بأمْرٍ مَولوي، وسُجِّلَ بوزارة الأوقاف تحت عدد (5835). وفي مجموعة مدارس محمد الخامس المذكورة أعلاه؛ حَضَر الأستاذ عثمان جوريو اللِّـقاءات التّأسيسية للجنة الملكية المكلَّفة بإنجاز طريق الوحدة، ولقاءات العُصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية التي بَدَأ عملُها رسميا يوم 16 أبريل 1956، وكان للسيد جوريو دَور فاعلٌ ومؤثِّر فيها. 

مِن أهمّ مساهماته الوطنية البارزة في مساره؛ إشرافه على كتابة وثيقة المطالَبة بالاستقلال وتوقيعه عليها ضمن الأعلام المغاربة الآخرين في يناير 1944. فبِخَطِّه الجميل خَطَّ النُّسخة النهائية لوثيقة الـمطالَبة بالاستقلال، وذلك بطلبٍ من الحاج أحمد بلافريج رحمه الله. ورغم الْتِزاماته العديدة؛ واصَل نضاله إلى جانب إخوانه في الحركة الوطنية، شاعراً بالكلمة، وواعِظاً بخُطَبِ الجمعة، فانقادت له الجموع، واهتزّت لخطبه المنابِر، وتَمَّ توظيفُ خُطَبِه للتوعية والتأطير والتنوير، وتبليغ رسالة الكفاح والتحرير، وأدى نتيجة ذلكَ ضريبةً؛ ليس أقلُّها اعتقاله على خلفية أحداث اغتيال النقابي التونسي فرحات حشّاد سنة 1952، حيثُ قضى سنةً في سجن انفرادي بـمنطقة “إغْرم”، وسَنة أخرى بـمعتَـقَل جماعي في مدينة كُلميم..، وفي المعتقَل؛ أشرف على إنجاز وإصدار مجلّة أدبية أطلق عليها “سمـير الـمنفى”. وجَمَعَـتْه بالسّاسة محمد اليزيدي عبد الله إبراهيم وعبد الكبير الفاسي وبالأستاذ عبد الله الجراري وبالعلّاَمة محمد بن العربي العلوي وبالسياسيَين وبالأديب الطاهر غلّاب وبالزعيم المهدي بن بركة صَدَاقة حميمَة، وفي هذا الأخير يقول أبياتا مِن الشعر: 

صُورتي رَمز وِدادِ لك يا خير صديـــــــــــــــــــــــــــــــــــقْ

فاشهد الإخلاص فيها واجتلي السرّ العميقْ

وإذا ما شئت فاقرأ آية القلب الشَّفيـــــــــــــــــــــــــقْ

لك يا مهديُّ تُهدى في ضُحَى عيدٍ شَريـــــــقْ

تَــميّز الأديب الوطني الـمُلـتَـزِم عثمان جوريو بِغَــيْـــرةٍ بالِغة على الكُتب، والخطّ العربي، والتّراث الأندلسي، والأصالة المغربية، والتّعليم؛ صَرَّفها في مواقِف عَمَلية، ومقالات علمِية، وفي تربيتهِ لأبنائه، وفي نَظْمِ الشِّـعْر، ولا سيما القصائد الوطنية. فنَظَم للمدارس المغربية أزيدَ مِن خمسينَ نشيداً، ولَــحَّنَها. فالرجل كان عازفًا ماهرا على آلتَيْ العُود والـكمان، ويَطْرَب للموشَّحات الأندلسية ويُردِّدها كثيرا، ويُشرِف على فرق غنائية تَلمذية، وله اهتمام واسعٌ بالأدب الفرنسي وبالكتابات المسرحية الإنجليزية. أمّا الشِّعر؛ فكان يحفظ منه ديوان الشَّوقيات لأحمد شوقي عن ظهر قلب، وديوان أبي الطّيب المتنبّئ وأشعار أبي القاسم الشّابي، وألفية مالِك ومنظومة الإمام أبي القاسِم الشاطِبي، ولذا دَانَت له القوافي والأوزان، وبرِع في الشِّعر نَظْماً وغزارةً وجَوْدة ووطنية، فنَشَر عشرات القصائد، وجُمِعت له أخرى في ثلاثِ أطروحاتٍ جامعية، إحداهما دبلوم الدّراسات المعمَّقة أعدّها الباحث محمد لعزيزي موسم 1997 بعنوان “الحاج عثمان جوريو؛ المربّي الشاعر، محاولة لجَمع وتبويب أشعارِه”، وأخرى للباحثة سمية الأزرق بعنوان “شِعر عثمان جوريو؛ تقديم وتبويب” سِلك الإجازة، وأطروحة للدكتوراه أنجزتها الباحثة حبيبة شيخ عارف في موضوع “شِعر عثمان جوريو؛ جَـمْع ودِراسة”. وبَلَغت مُساهماته الشّعرية أزيد من 60 قصيدة، بين مُطوَّلات ومقطوعات وأناشيد، بما معدّله (2486) بيتاً، وهذه نماذج مِن شعره رحمه الله: 

-جَــمــَـعَـــتْــنا عُروبــــــةٌ مُـــــــــذْ كُـنَّــا  

وتَــــعـــاليمُ شِـــــــــــــــــــرْعةِ الخَـلَّاقِ

-وهَــــدَتْنا مَـــــــــــبادئ وسَجـــايــا

للتحلِّي بأنفسِ الأعـــــــــــــلاقِ

-وصَمَدْنا في وجه كلِّ مُغـــــيرٍ

وانْطَلَقْنا كــــوابِلٍ دَفَّــــــــــــــــــــــــــاقِ

-واستَمَتْنا لِسَحْقِ كُلِّ أثيـــــــمٍ

دَنَّسَ القُدسَ قْبْلة السِّبـــــاقِ

-وتَرَكْنا أبناءَ صَهيونٍ صَرْعى

كجذوعٍ في باطِنِ الأنــفاقِ

 

وفي قصيدةٍ أخرى يقول: 

-لاحَ الهــــــــــــلالُ فَقُــــــــــم بِنا يا صاحِ

نَجْلُ القلوبَ بِنُــــــــــوره الوضَّــــــــــــــــــــاحِ

-قُوموا اعمَلوا كَيْماَ نؤسسَ نهضـــة

تُحــــْيِي الرَّجـاء بِــــصَــوْلةٍ وكفـــــــــــــــــاحِ

 

ومن شِعره في صِنف الإخوانيات: 

-بُناةُ المجدِ يا رَمْــــــزَ التَّـــــــداني

وعنوان الشّهامةِ والتَّـــــــفاني

-ويا مَجْلَـى الفضائلِ والمزايـــــا

وخيرةَ مَن بَـنَواْ دونَ امتنانِ

غزارةٌ شِعرية تَفيضُ جَمالاً في اللُّغة والإيقاع والصُّورة والأغراض الشعرية، ومن خصائص رُوحه الشّاعرية وإبداعاته؛ الـمُنافَحَة عن القيم الإسلامية والاعتزاز بها، والمنافَرة عن القِـيَم الوطنية والاستماتة من أجْلها، والـمَزْج بين النَّفَس الإسْلامي والوطني في تناغُمِ وانسِجام. 

دافَعَ عن اللغة العربية كتابةً وخطابة وشِعراً ونضالاً ميدانيا، وكان _ كما تحكي ابنته الدكتورة وفاء جوريو في مذكّراتها الصّادرة سنة 2018 في (469) صفحة، عن والدها _ “يَستسيغُ الأعمال الراقية الـمنطوقة بالعامية التي لها مَكانها ودورها في تحقيق التواصل الشَّفهي في الفنّ والزّجل والملحون، وذلك باسْتِخلاص الروح الشَعبية من أمثالٍ وأغانٍ ونِكاتٍ تِلقائية..”. 

ومِن إضافاته التربوية النافعة أيضاً؛ تأليف الكُتب، حيث خلَّف لنا الرّاحل مجموعة مِن الإصدارات القيّمة، أذكر منها: “المحفوظات العربية والأناشيد الـمختارة”، “دروس الدِّيانة الإسلامية”، “الحضارة الإسلامية”، “ديوان شِعر”، “منجَزات تتحدّث” وهي عبارة عن قصة قصيرة، “الموسيقى الأندلسية”، “النّوادِر والفكاهات”، وهي مجموعة أدبية لم تُنشَر بعد، ذَكرتها ابنته في مذكّراتها المذكورة أعلاه. 

ومِن خلال سِلسلة “النُّـصوص الأدبية للقراءة” التي أَعَدَّها ودَرَّسَ بها، ثُــمَّ اعتمَدَتْها وزارة التربية الوطنية في المغرب الـمستَقِل؛ تَشَبَّعت الأجيال الـمتمدْرِسة باللغة العربية وبثراء الثقافة العربية والإسلامية، وتعرَّفت إلى الـمتنبّئ، وابن الرّومي، وسيف الدولة الحمداني، والطُّــغْرائي، وابن زيدون، والمعتمِد بن عبّاد، وابن خَفاجة، ومالك ابن الـمُرحِّل، وابن حزم الأندلسي، ولسان الدين ابن الخطيب، وابن الفارض، ومِهْيار الدليمي، وغيرهم من الفطاحل والأدباء والشعراء النوابغ. 

ومِن واجِهات الجهاد الأكبر للأستاذ عثمان؛ انخراطُه الـمبكِّر في معركة محاربة الأمية، تخطيطاً وتتبُّعاً وتنفيذاً. بَدأ بأهل بيته، فكانت والدته أوَّل متخرِّجة مِن شهادة الابتدائي في محاربة الأمية مِن الدّروس الليلية بمجموعة مدارس محمد الخامس، ثمّ عَلَّـمَ أخواته، وبناتِهِنّ. ودافع عن حَقّ المرأة في التعلُّم والمشاركة الـمدنية. إلى جانِب تأسيسهِ لـمجلّةٍ خاصّةٍ موجَّهَةٍ لفائدة الـمستفيدين والـمستفيدات من برامج محو الأمية أطْلَق عليها اسم “مَـنار الـمغرب”، نوهَّت بها اليـونِسكو واعتَبَرَتْها ابتكاراً إعلاميا غير مَسبوق في العالم الـعربي. 

ومن أدواره الاجتماعية؛ تَـبنِّــيهِ لأبناء الشُّهداء وإيوائهم بالقِسم الدّاخلي لمدارس محمد الخامس. وبَعد الاستقلال أبى تَولِّي مَهمة أو مسؤولية حكومية أو برلمانية، وتَـمَنَّعَ دونَ فِتنة الصُّعود، والْتَمس مِن الملِك الإبقاء عليه مُديراً لمجموعة مدارِس محمد الـخامس، ليُمارِس مِهنته الأثيرة إلى قلبه؛ تَعليم الناس. هكذا؛ سنراه مواصِلاً رسالته الوطنية والدينية والتربوية؛ مـحْتَضِناً العديد من التلاميذ منكوبي زلزال أكادير سنة 1960، ومُلْحِقاً إياهم بمدارس محمد الخامس في الرّباط، ومُتابِعاً باهتمام شديدٍ تَعلُّم كثيرٍ من السُّجناء بعد الاستقلال إلى حينِ تخرُّجِهم ونيلِهم الشهادات. ونراه عاملاً على إدماجِ الأساتذة والـمثقَّفين الفارّين من جحيم الحرب الأهلية اللبنانية، وساعياً إلى مساعدتهم على الاستقرار والعطاء. 

لم تكن حياةُ مُتَرْجَــمِنا مُقتصِرة على النضال الوطني والتعليم والكتابة؛ بل تَعدّاها إلى الفاعلية الاجتماعية في نَوادٍ وجمعيات وهيئات، حيث شَغَل عُضوية المجلس الأعلى لرابطة علماء المغرب، وساهم في تأسيس نادي الفكر الإسلامي بالمغرب، وكان عضواً مؤسِّسا للجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني سنة 1968، وعضواً مُؤسِّساً كذلك لرابطة الـمجوِّدينَ المغاربة، ودار القرآن. وشارَك في تحكيم جائزة ماليزيا الكبرى لتجويد القرآن الكريم في الثمانينات؛ عُضواً مُبرَّزاً لخبرته في علم التجويد والقراءات. كما كان عضوا نشِطاً في النوادي الأدبية والثقافية في سَلا والرباط وفاس، كنادي الشريف سيدي عبد الكريم الوزّاني، أحد الأشراف الوجهاء الكبار في مدينة الرباط، ونادي الأديب أحمد الزَّبَدي، ونادي المؤرِّخ محمد بن علي دِينية، ونادي العلّامة عبد الله الجراري، ونادي الفقيه الـمدني الـحسني، كما كانت له مُسامراتٌ مع علماء وفقهاء ووطنيين بالصالون الكبير في بيته المسمّاة “قاعة عثمان”. وكان رحمه الله مِن علماء الـمغرب القلائل الذي وقَّع على بيانِ استنكارِ الـعدوان الأمريكي على العراق سنة 1991، وشارَك في المسيرات الـمليونية ضدّ الاحتلال الصهيوني لفلسطين. 

إننا أمامَ رجلٍ من طينةٍ خاصّة، مناضل، مثقَّف، كاتِب، مدرِّس، فنان ومربِّي، بمَواهِب متعدّدة جَعَلت منه عَلامة بارزة في ثَقافة مدينة الرباط، فضلاً عن إتقانه للقراءات السَّبع، وكتابتِه للمصحف الشّريف بخطِّ يَده سلَّمه لخزانة المسجد الأعظم بالرباط، وإجادته لفنِّ الخَط، وكتابتهِ للشِّعر، وتمكُّنه مِن فنِّ الإلقاء والخَطابة، وشَغفه بتَصميم لوحاتٍ فنية يُمتِّع بها ناظِرَيه في منزله، ووضْع إطاراتٍ تَشكيلية وإخراجٍ فني لمجلّته “سمير الـمنفى”. كما احترَفَ هواية فنِّ الحَفر على الخَشَب والرّسم والنّحْت، وفنُّ الرِّمـاية، والصّيد البَرّي، اللَّذانِ كانَ يُزاوِلهما شَهْر أكتوبر مِن كل عام. 

لقد الْتَقَت فيه صُوفية تربوية تَرى الـجمال في كلّ شيء، وروح الشّاعر، ورَهَف الموسيقي، وحِسّ الفنّان، إلى جانب اهتمامه بالمسرح وتوظيفه كأداةِ دِعايةٍ ضدّ الاستعمار وتربية الناشئة على الوطنية الحقّة. 

فيما بين مرحلتي الحماية والاستقلال؛ زار مِصر ودمشق وفيينا وأمريكا وبلاد الـحَرَمين، وأقام صِلاتٍ وعلاقاتٍ مع مثقفين ومؤرّخين وفنّانين ووطنيين مناضلين؛ أمثال المؤرخ عبد الله عنان، والفنان يوسف وهبي، والأديب عجّاج النويضي، والـمُطرِبة مُنيرة مهدية. وفي مُقامه بمصر؛ التَقى وجالَسَ الأديب الكبير مصطفى صادِق الرّافعي، والعلّامة محمد الخضر حسين، وعميد الأدب العربي طه حُسين، والكاتب حسن الزّيات، وأحمد أمين..، وكانت له معهم أحاديث ومناقَشات وتبادل المعلومات عن الأقطار العربية. 

إنه بحقّ رجل وطني أديب معلِّم الأجيال يَصْدُق فيه ما قاله في شِعره: 

رجُلُ المعارِفِ والعوارِفِ والعَطا  **  ونَبــــــــــــاهةٍ ونجابة وتَفَضُّلِ

وفُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنونِ أصالةٍ وحضارةٍ  **  بِرُبوعِ أندَلُسٍ ومَغـْنى أوّلِ

قُلِّدَ أوْسِمةً ملكية مِن لدُن العاهل المغربي محمد السادس، وبقِيَ ضيفا فوق العادة على مختلِف الفعاليات الثقافية والأنشطة ذات الصِّلة بأسرة المقاومة وجيش التحرير في الرباط والمدن المجاوِرة، إلى أنْ انتقل إلى عفو الله ورحمته يوم السابع مِن شهر دجنبر سنة 2009. 

رحمه الله وأبقى ذِكره في الصالحين. 

مصادر ومراجع:

* (جوريو) وفاء: “الحاج عثمان جوريو؛ شخصياتٌ في رائد”، الطبعة الأولى 2018، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
* (عاطف) حبيبة شيخ: “شِعر عثمان جوريو؛ جمع ودراسة”، الطبعة الأولى 2012، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.

* إعداد: عـدنان بـن صالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • محمد
    منذ 3 سنوات

    أديب وعالم وفقيه وسياسي ومقاوم ومفكر كبير علامة بحر العلوم تقي نقي ورع .......لا يوجد هكدا وصف الا عندنا حتى الذي اكتشف المصابيح الموجودة في كل بيت Edison ام يحضر بهدا Einstein والو pasteur والو ........ اتمنى ان توضحوا العقارات والقصور بالرباط والمال والعلاقات التي استفاد منها حتى حفد ته...