وجهة نظر

“نداء الإصلاح”: خلاصة قراءة متوازنة لتاريخ مغرب ما بعد الاستقلال

الجزء الثاني

تيسّر لنا في الجزء السابق من هذا المقالة أن نرى كيف أن التريّث المنهجي والمفاهيمي، اللذي أبدته هيئات “نداء الإصلاح الديمقراطي” إزاء مجريات الانتفاض العربي، كان له الفضل دون انجرارها وراء فهم يُحمّل ما حصل عربيا أكثر مما يتحمّل. كما مكّناها من التفاعل مع مطالب الحراك العربي، بزخمه الجماهيري غير المعهود، بشكل متوازن، إذ قاربته مقاربةً مسؤولاً فلا هي: (أ) بخّست هذا الحراك المبارك قيمته التاريخية ومخزونه النضالي الشاهدين على مقدار التضحيات الجسيمة التي بذلتها جماهير حاشدة من أبناء أمتنا العربية/الإسلامية أملا في الذود عن عزة الأمة وكرامة المواطن؛ (ب) ولا هي قرأته باعتباره لحظة ثورية “فارقة” و”مفصلية” تستدعي الانخراط في عمليات تفكيك جذرية لما هو قائم.

وقد كان لنفس التريّث والتحفّظ السالفي الذكر دور بالغ في تأطير انخراط هيئات النداء في لحظة الحراك الديمقراطي المغربي، وما قبلها، والتعاطي المسؤول مع مطالب الشارع في العشرين من فبراير. ذلك أن عناية هيئات النداء قد اتّجهت أساساً إلى تسكين هذا الحراك في سياق مسيرة نضال الشعب المغربي لما بعد الاستقلال من أجل معالجة إشكالات “دمقرطة ممارسة السلطة” و”التوزيع العادل للثروة”.

وفي إطار من هذا الرؤية، عملت قيادات هذه الهيئات على استجلاء أعطاب صيرورات الإصلاح المغربي بالاستناد إلى قراءة متميزة لتاريخ مغرب ما بعد الاستقلال، قراءة غير متماهية مع الأطروحة الرسمية التي تُروّج لها نخب مقرّبة من المخزن، وغير منحازة للأطروحات التي اعتمدتها نخب أحزاب المعارضة المنادية بضرورة اعتماد ملكية برلمانية بدل الملكية التنفيذية التي شكّلت المحور الأساس لـ”تقليدانية” النظام الدستوري المغربي. وإنما حاولت نخب هيئات النداء قراءة تاريخ المغرب لما بعد الاستقلال قراءة قاصدة وراشدة، تستحضر توثرات الماضي القريب، ولكن من دون إغفال مآزم مجريات الأمور.

مفاد هذه القراءة أن التاريخ السياسي للمغرب الحديث قد تقاطبه، طيلة عقود من الزمن، صراع مغلوط بين مشروعيتين: (أ) مشروعية السلطان الرمزية والتاريخية والدينية، واللاتي أضاف إليهن شرعية نضالية بفضل انحيازه المبكّر للحركة الوطنية وقيادته للمطالب التحرّرية، ليقرن به إلى جانب صفتيه ملكاً للبلاد وأميراً للمؤمنين صفتي مجاهد الاستقلال وبطل التحرير؛ (ب) في مقابل مشروعية الحركة الوطنية التي قاومت أطماع المحتل وسعت إلى طرده، والتي جعلت مطلب عودة السلطان من منفاه القسري مطلباً مقدماً على مطلب الاستقلال، وفاءً منها للعرش ورغبةً في عدم تشتيت جهود المقاومين.

هكذا، وبعد نيل المغرب لاستقلاله، سعت فيها أحزاب الحركة الوطنية، في أن تعيد تشكيل حقل السلطة على أساس مشروعية السيادة الشعبية والمطالب بدسترة ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم. وذلك أسوة بقريناتها من الحركات الوطنية بالعديد من الأقطار العربية، والتي آل إليها زمام أمر الحكم وقيادة البلاد، نذكر على سبيل المثال: حزب الدستور بتونس سنة 1955 وجبهة التحرير بالجزائر سنة 1962.

في حين سعت المؤسسة الملكية إلى تأبيد طابعها التنفيذي ومقاومة كل نزوعات التقليص من مهامها وصلاحياتها توطيداً لسلطتها السياسية واستمرارا لمشروعيتها التاريخية. وقد عملت الملكية على صيانة موقعها المحوري في مجمل النسق السياسي المغربي من خلال نهج استراتيجيات مزجت بين: (أ) الحيلولة دون الاحتكام إلى سلطة تأسيسية أخرى تشكل منبعا لشرعية موازية لشرعية الملك؛ (ب) أو من خلال العمل على إضعاف أحزاب الحركة الوطنية وتشتيت المشهد الحزبي؛ (ج) أو بإعادة بناء شبكة النخب المحلية والإدارية والاستعانة بالأعيان والسياسيين المستقلين كنخب بديلة.

لقد فوّت هذا الصراع على المغرب فرصاً واعدة لصياغة انتقال ديمقراطي حقيقي يُعزّز عنصري الثقة والقبول المتبادل بين المؤسسة الملكية ومختلف الفرقاء السياسيين، مما أخّر انخراط المغرب في إطلاق مسيرته نحو الديمقراطية. فقد تمخض، مثلا، عن الصراع السياسي حول مراقبة نظام الحكم والخلاف حول السلطة التأسيسية بهذه المرحلة الانتقالية أن تأخر أول دستور مغربي عن موعده المفترض بقرابة ثمان سنوات (منذ سنة 1955 إلى حدود سنة 1962 تاريخ وضع أول دستور مغربي).

وبقدر ما فوّت هذا الصراع على المغاربة خمسين سنة وزيادة من إمكانية بناء نظام ديمقراطي مستوعب لجميع مكونات المشهد السياسي، ومؤهل للاستجابة لتحديات الوطن الراهنة والمصيرية؛ بقدر ما أدى إلى تقويض شرعية الحكم وإضعاف ممكنات الأحزاب الوطنية. واقع التقاطب هذا شكّل فرصة مهمة لـ”تجذر” جيوب هيمنة تسعى إلى التحكم في السياسة وإجهاض كل أفق واعد لانتقال ديمقراطي حقيقي، وذلك باستغلال اتساع نطاقي الهوة الناشئة والمسافة الفاصلة بين العرش من جهة، وقوى الإصلاح والدمقرطة من جهة أخرى.

وكلما احتدّ هذا الصراع توسعت نطاقات هيمنة هذه الجيوب وتوطّد طوق رهنها لمؤسسات الدولة. لدرجة أصبح لهذه الجيوب امتدادات عميقة ومراكز نفوذ كبيرة في مختلف الهيئات المؤسساتية والحزبية والبنيات الإدارية والاقتصادية والمجالات الاجتماعية والثقافية، وكأننا بـ”حزب شبح”، (نعثه بعد قيادات النضال الديمقراطي بالحزب السري أو جيوب مقاومة الإصلاح)، يتحكم في مجمل دواليب صناعة القرار العمومي بعيدا عن رقابة المؤسسات وبشكل متحلّل من عبئ المسؤولية الديمقراطية ووطأة المراقبة الانتخابية.

لقد أدرك الموقعون على النداء، من خلال هذه القراءة المتبصرة للتاريخ السياسي الحديث للمغرب، ضرورة استدراك هذا المسار الخاطئ بعدم الإصرار على خوض هذا الصراع المفتعل، لإيمانها الحقيقي، أولا، بأن أي عملية إصلاح سياسي لا بد أن تتم من خلال الاحترام المبدئي لثوابت الأمة والوطن؛ ثم ثانيا لأن نهج هذا المسلك سيُفوت الفرصة على الجيوب المناوئة للديمقراطية، والتي ما فتئت تستغل كل نزاع يطرأ بين المؤسسة الملكية والأحزاب الوطنية والديمقراطية، لتكريس مزيد من هيمنتها وتحكّمياتها.

لذلك انحازت مذكرة النداء الديمقراطي لحقيقة الاستثناء التاريخي القاضي بأنه كلما اقترنت الإرادة الملكية بالإرادة الشعبية إلا استطاع المغرب، بوحدة قيادته وقاعدته، اجتياز الإشكالات ومجابهة التحديات الراهنة والمستقبلية. وذلك بدل القراءة التاريخية التي انبنت على فرضيات ومفاهيم ومنهجيات لا تنسجم مع طبيعة الخبرة المغربية المتوارثة في المجال السياسي، والتي لم تؤد إلا توريط المؤسسات السيادية والقوى السياسية في صراع لا طائل منه سوى مزيد من إضعاف مؤسسات الدولة ومحاصرة الأحزاب الديموقراطية والشعبية.

(يتبع)