مجتمع

نوابغ مغربية: محمد الطريس.. كبير المقام الذي وضع كفاءته التفاوضية في خدمة الدبلوماسية المغربية

نوابغ مغربية

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

الحلقة 32: محمد الطريس.. كَبيرُ المَقام الذي وضَع كفاءته التدبيرية والتفاوضية في خِدمة الدبلوماسية المغربية

بسم الله الرحمن الرحيم

يَعود بأصوله إلى عائلة أندلسية نَزحت إلى شمال المغرب إبّان حروب الاسترداد، واستقرّت بمدينة تطوان، فكان منها الصُّناع والمَهرة والكتّاب والقادة السياسيون والزعامات الاجتماعية والسياسية التي خَدمت المخزن والوطن، ولعلّ أشهر أفرادها وأعْرقهم في العمل الدبلوماسي والسياسي، الحاج محمد بن العربي الطُّريس.

وُلِدَ محمد برِحاب المدينة العتيقة لتطوان سنة 1827 _ ويُرجِّحُ البعضُ ولادَته سنة 1920 _، مُحاطاً بعناية أسَرية بالغة، ومُتَـلقيا تربيته على يد والده العربي الطُّريس الذي تولَّى لسنوات عديدة وظائف مخزنية، كأمانة الديوانة، ثم باشوية مدينة الصويرة التي توفِيَ بها سنة 1854 بعد قضاء 12 سنة في خِدمة المخزن. وفي الصويرة سيتلقّى محمد مبادئ المعارف والتربية وقِسطا من التعليم الديني، بعد أنْ درس قليلا بحاضرة تطوان. 

كان له ميلٌ إلى التجارة، لذا حرِص والده أثناء مُقامه بالصويرة، وهي مدينة التجارة البحرية والبرية أواخر القرن التاسع عشر، على تعليمه الحساب وعلم التوقيت والهندسة، فأتقنها الفتى بتميُّز وتفوّق، ثم نشأ وشَبّ متصِّفا بالحزم والعزم والاستقامة والنزاهة. وهي الأخلاق التي ستسبقه إلى مسقط رأسه، وستكون حينَ عودته إلى تطوان؛ فضلا عن كفاءته العلمية والتدبيرية؛ جوازَ العُبور إلى دار المخزن لشغل وظائف غاية في الأهمية. 

ولما كان مُترجَمُنا سليل أسرة خَدمت السلاطين والدولة المغربية؛ ارتَفع به نَسبه واشتهار كفاءته لتَولّي مهمة أمين ديوانة تطوان_مرتيل  مُعيّنا من قبل السلطان محمد بن عبد الرحمن سنة 1867، قضى بها خمسة أعوام، زاد فيها رصيداً معتبَرا من ثقة المخزن، ومعرفة بدقائق سيْر العمل التنظيمي والإداري للمراسي والديوانات والتجارة المحلية والدولية، وتعزيز العلاقات مع الساكنة والوافدين، فاختيرَ أميناً على “مُستفادات الدار البيضاء والأملاك المخزنية بها، وترقّى إلى أمانة مرسى المدينة” حسب ما أوْرَدَتْهُ (موسوعة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير) في مُجلَّدها الأوّل، الصفحة 166، وكان ذلك في دجنبر 1875. 

هذا المنصب الهام في الميناء الكبير لمدينة الدار البيضاء فتَح للسيد محمد الطريس أوسَع أبواب إقامة العلاقات مع كبار التّجار نظَرا لكثافة ونوعية المبادلات التجارية للمغرب مع الخارج، وتوطيد الصِّلات مع الأجانب الذين شَرعوا منذ ذلكم التاريخ في الاستقرار بالدار البيضاء. وكانت مرحلة تدبيره لمهمته قد نالت استحسان السلطان الحسن الأوّل الذي أمَر بتعيين السيد الطريس حاكما لعمالة الدار البيضاء. 

العامِل الشَّمالي الجديد للسلطان على آنفا بدءً من 1879، ذاع صيته في أوساط التجار والمُلاك والسياسيين والمخزن، رجلاً وفيا لوطنه، خدوماً لدولته، نزيها في مهمته، كُفئاً في إدارة الخلاف والأملاك التي تحت تَصَرُّفهِ، حازما إزاء الاختلالات التي كان يقف عليها، عدْلاً في إنفاذ القانون في حق المخالفين. كما ساهم في استقرار الأوضاع أمنيا، لصالح المغاربة والرعايا الأجانب، الذين كالوا له المدح والثناء، وقدّموا عنه تقارير إيجابية إلى قناصل دُولهم وصَحافتها، ونوهوا بتدخّله الفعّال لإنقاذ “ركَّاب سفينتين بريطانية وأمريكية من الغرق في شاطئ الدار البيضاء” كما نَقل ذلك كاتبٌ مجهول في مؤلَّفٍ موسوم بعنوان “نُبذة يسيرة من ترجمة المرحوم المقدّس الحاج محمد بن العربي الطريس”، فكان أنْ وُشِّحَ السيد الطّريس بوِسام الشّرف مِن دولتَي بريطانيا وأمريكا تقديرا وتنويها بأعماله.  

ثلاث سنوات بعد مؤتمر مدريد سيتم إعفاء العامِل الطريس، وسيلتحق بمدينته تطوان. إلا أنّ السلطان الحسن الأول سيَأبى التّخلي عن كفاءة السيد محمد الطريس، وسيُعيِّنه سنة 1884 نائباً مُساعِدا للموظّف السامي محمد بركاش بِدَار النيابة بطنجة، أهمّ مؤسسة دبلوماسية وسياسية في مغرب النِّصف الثاني من القرن التاسع عشر، مكلَّفا بالشؤون الخارجية. 

سيَشرع الطريس في مهامه الجديدة، قريبا من نخبة مسؤولي البعثات الدبلوماسية الأوربية المعتمَدين بمدينة طنجة وقتئذ، وقائما بواجبات النظر في القضايا الدبلوماسية التي يعرضونها عليه باسم السلطان، ونيابة عنه. 

مَطْلَع سنة 1886 سيتولى محمد الطريس مهمة النائب السلطاني بدار النيابة بطنجة، خلَفا للراحل بركاش، مسنوداً بموظَّفين عَزَّزوا الجهاز الإداري لدار النيابة، تفاعلاً مع الطبيعة المعقَّدة والصعبة التي صارت تشتغل في نطاقها دار النيابة، ونظراً لتوالي الضغوط الدبلوماسية على المغرب أيضا. 

ظَلَّ ابن العربي الطريس في منصبه لغاية سنة 1908، وطيلة هذه المدة، شَهِدَت الدّار أحداثا سياسية وإدارية ودبلوماسية حساسة وكبيرة، دفَعَت المخزن إلى تَقوية أداء النائب السلطاني، وجهازه التدبيري والإداري، الذي أبان عن نجاعة وفعالية تحت رئاسة السيد الطريس. هكذا؛ سنجِدُ  السلطان الشاب عبد العزيز العلوي يُقدِمُ على إدخال إصلاحات هامة على دار النيابة وعمِلها، وتشكيل مجلسِ إداريٍّ لها، بناءً على ظَهير في الموضوع أصدَره يوم 30 غُشت 1900، وتَكَوَّن المجلس من “الحاج محمد الطريس، إضافة لخمسة نواب مُساعدِين له، ثم قاضٍ مُلحَق، وعَدْلَين، ومُترجِمين، وثمانية كُتَّاب”، انظر: (مجلة زمان) في عددها 74 لسنة 2019. فَدَار النيابة؛ ابتداءً من هذا التاريخ، وبناءً على الظّهير السلطاني ستتكفَّل بالتنسيق مع “المخزن والوُلاة ونواب الدُّول وحِفظ مصالح البلاد”، انظر: (موسوعة الحركة الوطنية)، ص: 167.

كانت طبيعة المهام المسنودة للسيد محمد الطّريس مما أثْرى شَخصِيته وعَضَّدَ مَواهِبه، لا سيما ما تَعلَّق منها بالتفاوض وفَنّ المراسلة والخطاب السياسي وإدارة الفريق والمؤسسات المخزنية، كما ساهمت الوظائف التي اضطَلع بها بتكليفٍ مِن دَار الـمُلْك في إبراز قُدراته. 

ومن ذلك؛ أنَّ مُترْجَمنا تَرَأَّس البعثة المغربية الأولى في العهد العلوي إلى الفاتيكان، مَعية محمد الريفي، ابن السفير عبد الصادق بن أحمد الريفي والكاتِب محمد طايطاي والفقيه أحمد الكردودي وثلاثة من الأعوان، مَصحُوبِينَ بالراهب (خوصي ليرتشوندي) والأب (دومينو غارسيا)؛ ممثِّلاً للحسن الأول لدى البابا ليون الثالث عشر سنة 1888 لتهنئته بمناسبة مرور عشر سنوات على جلوسه على كرسي البابوية. حَلَّ الوفد المغربي بالفاتيكان يوم 13 فبراير 1888، وألقى الطريس الخطاب الرسمي ثم سلَّمه للبابا، ثم زار إيطاليا، وجمَعه لقاء بسفير إسبانيا، فتحادَث معه بشأن الحماية القُنصلية، وأوصَلَ له مضمون رسالة السلطان بشأن مخرجات مؤتمر مدريد، ثمَّ قَفل عائدا إلى المغرب على متن باخرة إسبانية. 

ومِنها؛ دَوْره الكبير في إقناع السّلطان بعدم تنظيم المؤتمر الثاني في مدريد سنة 1888، مُبيِّنا له أنه لم يكن مرتاحاً إلى مساعي الدول الأجنبية، واقترح عليه بَدلاً من ذلك؛ إصدارَ قانونٍ يُنظِّم علاقة المغاربة مع الأجانب والـمَـحْمِـيِّـين أو ما أسْماه في رسالَته إلى السلطان بــ”جَعْل قانون ضابِط لـمخالطة الرعية مع الأجانب”، “مع إلزام العُمّال التخفيض من الضّرائب حتى يَقِلَّ تسابُق المغاربة للبحث عن الحماية، وبالتالي يَحصُل الاستغناء عن طَلب إسقاط الحماية من الدول الأجنبية”، انظر: (دراسة في مجلة كان التاريخية، العدد 35، السنة 10)، بما يُفيدُ تنامي وعْي الطريس بمخاطِر الإصلاح المفروض خارجيا، ودعوته المخزن المغربي إلى إجراء إصلاحات استِباقية بإرادة داخلية. 

ومنها أيْضاً؛ مساهمته بنصيبٍ وافِر في دعم الجيش المغربي الذي كان يخوض حملة إخضاع بوحمارة وإنهاء ثورته، وتوفير الحماية لفيالق الجيش في الطريق الرابطة بين الشّمال والشَّرق. 

ومِن تلك المهام الرسمية البالِغة الفائدة في المسار الدبلوماسي والإداري للسيد محمد الطّريس؛ مُشارَكَته في التحضير والمفاوضات الخاصة بمؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، وتمثيله _ في أخريات أيامه _ السلطانَ في مؤتمر الخزيرات سنة 1906، رئيسا للوفد المغربي، وقاده حَدسه الوطني وتقديره السياسي لعدم التوقيع على ميثاق المؤتمر، وأسندَ الأمر إلى مُساعدِه، محتَفِظاً لنفسه بموقفٍ متحفِّظٍ من المؤتمر ومُخرَجاته رُغم تمثيله الدولة المغربية رَسميا، وكَونه وزيراً للخارجية، وذلكَ منذ 1900 عقِب وفاة الصّدر الأعظم النافذ باحمّاد. 

لقد كان السيد محمد الطريس طاقة تَدبيرية وتفاوضية ودبلوماسية هائلة، يجنَح إلى المفاوضات، ويحلُّ الخلافات، ويتوسّط لقواد القبائل والتجار والقناصل عند طروء بعض المشاكل، ويُراسل دار المخزن بانتظام ودقّة، مُحيطاً السلطان بتطوّرات الأوضاع السياسية والاجتماعية بطنجة ونواحيها، في سياقٍ اشتدّت فيه التحرشات الأجنبية بالبلاد، والضغوط الدبلوماسية، والحمايات القنصلية. وكان يُدير عَمل فَريقِ دار النيابة باقتدار، رُغم ما شابَ الفريق من اختلاف في وجهاتِ النَّظر والموقف من العلاقة مع الفرنسيين، وانقسامه بين تيّار مُهادِن مُسالِم وتيار مناهِض مقاوِم للوجود الاستعماري. 

فضلا عن ذلك؛ تَميّز محمد الطريس بإخلاصه الشديد لوطنه ولسلاطين الدولة العلوية؛ تجلّى ذلكَ في موقفه الإيجابي من السلطان عبد العزيز، حيث دعّمه وبقِيَ سنداً له، محافِظاً على ولاء الشمال له إلى غاية عَزله سنة 1908، وصَمد في وجه تيار المهادَنة مع الاستعمار، الذي استطاع فرْض حضوره ونفوذه في دار النيابة، مع تَوْلِية محمد الجباص _ وزير الحربية وقتئذ _ نائباً أوّلاً للطريس سنة 1906. وبقِيَ محمد الطرّيس قائماً بواجباته التّـنظيمية والإدارية والدبلوماسية تُجاه قضايا بَلده إلى أنْ وافَـته المنية يوم 13 شتنبر من سنة 1908، الموافِق ل 16 شعبان 1326 حَسب الوثائق التي اعتمَدها المؤرخ الراحل محمد بن عزوز حكيم، وأثْبَتها في (مَعلمة المغرب) ص 5737.

فرحِم الله كبيرَ المقام، وأشْهَر دبلوماسيي المغرب منذ أواسط القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. 

مصادر ومراجع:

* موسوعة “الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير بالمغرب”، المجلّد الأوّل، الصفحة 166، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة الأولى 2009
* “مَعلمة المغرب”، مجموعة مؤلِّفين، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، الطبعة الأولى 1989، ص: 5737.
* مجلة “كان التاريخية”، العدد 35، السنة 10، نُسخة إلكتورنية.

* إعداد: عـدنان بـن صالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *