مجتمع

“دارت”.. ملاذ المغاربة في زمن الغلاء رغم الشكوك الفقهية

في الأزقة الضيقة، وداخل البيوت المتواضعة، وفي المقاهي النسائية، وحتى في مجموعات الواتساب، تعود معاملات “دارت” إلى الواجهة بقوة في المجتمع المغربي. ما كان يعرف قديماً بـ”الدويرة” أو “الزها” أصبح اليوم ملاذاً اقتصادياً واجتماعياً لآلاف المغاربة، في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة وصعوبة الولوج إلى التمويل البنكي.

ورغم الانتشار الواسع لهذا النظام، لا يخلو من الجدل، إذ يثير نقاشاً فقهياً بين من يراه نموذجاً مشرفاً للتكافل، ومن يعتبره معاملة مالية محفوفة بمخاطر شرعية.

وما يزيد من تعقيد المشهد أن “دارت” لا تزال غير مؤطرة قانونياً، مما يضع المحاكم في مواجهة نزاعات يصعب البت فيها نظراً لغياب العقود والضمانات الرسمية.

تضامن اجتماعي من رحم الحاجة

يقول الدكتور محمد شرايمي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان، إن نظام “دارت”، المعروف أيضاً في الأوساط الشعبية بأسماء مثل “القرعة”، “الجمعية” أو “التعاونية”، يمثل صيغة تضامنية عرفية تقوم على اتفاق مجموعة من الأفراد على المساهمة بمبالغ مالية متساوية، تُمنح بالتناوب لأحد المشاركين وفق ترتيب محدد لتلبية احتياجاتهم المختلفة.

وأوضح شرايمي، في تصريح لجريدة “العمق المغربي”، أن هذه الآلية مستمدة من التقاليد المغربية العريقة في التضامن الاجتماعي، مثل “التويزة”، “النوبة”، “الغرامة” و”لوزيعة”، لكنها تطورت لتتأقلم مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة، مما يجعلها نموذجاً هجينا يجمع بين التقليد والعصرنة.

وأشار إلى أن “دارت” تشكل بديلاً عملياً عن القروض الربوية، خاصة في ظل تعقيدات البنوك وفوائدها المرتفعة، وهو ما ساهم في انتشارها الواسع خلال العقدين الأخيرين، لتشمل مختلف الفئات الاجتماعية دون استثناء، رجالاً ونساء، شباباً وشيوخاً، متزوجين وعزاباً، أغنياء وفقراء، عاطلين ومشتغلين.

وأكد أن قيمة الاشتراك في “دارت” تختلف حسب إمكانيات المشاركين، إذ يمكن أن تبدأ من 50 درهماً وقد تصل إلى أكثر من 5000 درهم، كما يمكن للفرد أن يشارك بأكثر من حصة، أو أن يتقاسم الحصة مع شخص آخر، كما هو الحال بالنسبة للزوجة التي تساهم نيابة عن زوجها.

وأوضح شرايمي أن “دارت” تنتعش بشكل خاص في أوساط النساء، لا سيما بعد دخولهن سوق الشغل ومساهمتهن في مصاريف الأسرة، كما تزدهر في البيئات التي تتسم بقوة العلاقات الاجتماعية، مثل القرابة أو الزمالة أو الجيرة، خصوصاً بين نساء الحي أو داخل مؤسسات العمل.

واعتبر أن الثقة المتبادلة بين المشاركين هي الركيزة الأساسية لنجاح هذا النظام، الذي يشبه في بنيته “بنكاً شعبياً غير رسمي”، حيث تُجمع الأموال وتُوزع وفق اتفاق مسبق، ما يتطلب قدراً عالياً من الالتزام والتواصل، خاصة في ما يتعلق بتحديد ترتيب المستفيدين، والذي يعتمد غالباً على معيار الحاجة.

وأشار إلى أن “دارت” تساهم في تغطية نفقات أساسية كالعلاج، والزواج، والعقيقة، وإصلاح المنازل، وأقساط السكن، واللوازم المدرسية، كما تُستخدم أحياناً كوسيلة للادخار.

ورغم طبيعتها المالية، فإن “دارت” تحمل أبعاداً اجتماعية ودينية، حيث تُعد بديلاً مقبولاً للقروض الربوية، وتُنظر إليها في الثقافة الشعبية باعتبارها “مباركة”، لما تعكسه من روح التعاون والمنفعة الجماعية.

ومع ذلك، نبه شرايمي إلى أن هذا النظام يواجه تحديات حقيقية، في مقدمتها غياب الإطار القانوني المنظم، ما يفتح الباب أمام مشاكل مثل توقف أحد الأعضاء عن الدفع بسبب فقدان العمل أو الوفاة، أو حتى بسبب النصب، خصوصاً إذا كان المتوقف هو المسؤول عن إدارة المجموعة.

ودعا إلى تطوير آليات جديدة لتأطير “دارت”، مع الحفاظ على مبادئها الأساسية مثل الثقة والتضامن، لتقليل المخاطر وتعزيز الاستمرارية. كما أكد أن “دارت” تساهم في التمكين الاقتصادي للنساء، خاصة في الأوساط الهشة، وتتيح فرص الادخار وتعلم مهارات التدبير المالي، وتشكل مقدمة للاندماج في عالم المقاولة الذاتية والأنشطة المدرة للدخل.

ورغم أنها تخلو من الفوائد، إلا أنها تفتقر أيضاً إلى الضمانات القانونية، وهو ما يميزها عن القروض الصغرى أو التمويل الجماعي (Crowdfunding) المعتمد في بعض المجتمعات الغربية.

واعتبر شرايمي أن “دارت” تمثل شكلاً من الاقتصاد التضامني الموازي للسوق الرسمية، وهي بديل عن الرأسمالية البنكية، حيث تستند إلى الثقة الجماعية بدل العقود والمصالح الفردية.

وأشار إلى أن هذا النموذج يساهم في بناء روح الانتماء داخل المجموعة، ويخلق التزاماً أخلاقياً يجعل كل فرد يشعر بمسؤولية تجاه الآخرين، كما يمنح شعوراً بالكرامة لأنه يوفر المال دون الحاجة إلى القروض أو التسول.

وأضاف أن “دارت” تعكس تحولات القيم في المجتمع المغربي، وتُجسد مزيجاً بين الفردانية الحديثة وروح التكافل التقليدي، وتُعد استجابة محلية واقعية للتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي لم تتمكن الدولة والمؤسسات المالية من مواكبتها.

واختتم شرايمي تصريحه بالتأكيد على ضرورة إدماج “دارت” ضمن السياسات العمومية الخاصة بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني، كما دعا إلى دراسة ميدانية مقارنة بين تجارب الحواضر والبوادي، واقترح إدراج “دارت” في المناهج التعليمية كنموذج يعكس مفاهيم التضامن والمقاولة الاجتماعية. ولم يستبعد إمكانية تطوير تطبيق رقمي أو منصة إلكترونية لتنظيم هذه العملية بشكل أكثر شفافية، مع الحفاظ على طابعها العفوي والتضامني.

خلاف فقهي يرافق الظاهرة

من جانبه، يرى الدكتور أحمد الفراك، أستاذ بكلية أصول الدين بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان، أن نظام “دارت” لا يحتاج إلى نقاش فقهي واسع، باعتباره ممارسة تضامنية نشأت من داخل المجتمع، وتعبر عن وعي جماعي بحاجات الناس وتدبيرها بعيداً عن القروض الربوية.

وأوضح الفراك، في تصريح لجريدة “العمق المغربي”، أن “دارت” تمثل صيغة تمويلية قائمة على التراضي والتعاون، حيث يتفق مجموعة من الأفراد على المساهمة بمبلغ مالي ثابت خلال فترة زمنية محددة (شهرياً أو حسب الاتفاق)، ويتناوبون على استلام المبلغ الإجمالي وفق ترتيب معين، إما بناء على الحاجة أو عن طريق القرعة.

وأكد أن هذه الآلية خالية من أي زيادة غير مشروعة، ما يُبعدها عن شبهة الربا، خلافاً لبعض منتجات المؤسسات البنكية، مشيراً إلى أن “دارت” تستجيب لحاجات اجتماعية واقتصادية ملحة، مثل تمويل مصاريف الحج، أو العمليات الجراحية، أو اقتناء مسكن أو سيارة، دون اللجوء إلى القروض بفوائد.

كما اعتبر أن “دارت” تعبر عن نوع من الاحتجاج الصامت على النظام المالي التقليدي، من خلال تقديم بديل عملي وأخلاقي يحفظ كرامة الأفراد ويعكس روح التكافل الاجتماعي المتأصلة في الثقافة المغربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *