وجهة نظر

عندما صرح” روبير شومان” بضرورة إزاحة العائق بين فرنسا وألمانيا

ألمانيا

تبرهن أحداث عالمنا المعاصر بأن مواجهة مختلف التحديات والمستجدات مثل العولمة والمنافسة الاقتصادية الدولية وحتى جائحة كوفيد 19 وغيرها يستلزم ويفرض على الدول أولا ضرورة التسلح بالعلم وايلاء البحث العلمي العناية اللازمة وثانيا التكتل في تنظيمات جهوية قوية ومتضامنة تسعى لتحقيق التنمية والازدهار والرقي لشعوبها عبر مخططات وبرامج محددة الأهداف .

بطبيعة الحال لكل دولة على حدى خصوصياتها، تشترك في بعضها مع محيطها وتنفرد بأخرى والتي تكون ذات طابع خصوصي ومميز لها ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا ، هكذا انطلاقا من أهمية الانخراط في التكتلات الجهوية نقدم هذه المساهمة حول موقع بلادنا ضمن هذه التكتلات الاقتصادية التي أصبحت ضرورة استراتيجية رغم بعض الاكراهات والعوائق التي تعترضها أحيانا .

فالتكتل الاقتصادي الجهوي أصبح أمرا حتميا تسعى إلى الانخراط فيه جميع الدول سواء ذات الاقتصاد القوي أو غيرها السائرة في طريق النمو من أجل تحقيق التعاون والتكامل و سعيا لضمان الامن الاقتصادي وبهدف تحقيق أكبر المكاسب الممكنة جهويا ودوليا وفي نفس الوقت مواجهة ومنافسة باقي التكتلات الاقتصادية العالمية وتنسيق السياسات المشتركة من أجل مواجهة التحديات ومواجهتها ، الامر الذي تكون له انعكاسات ايجابية على الدول المتكتلة وتستفيد شعوبها من ثمار النمو الاقتصادي الذي يتحقق بفعل هذا التكتل وما يرافقه من تحسن على مستوى جميع المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية مثل ارتفاع معدل الناتج الداخلي الخام ، تطور مؤشر التنمية البشرية نحو الأفضل ، توفير فرص الشغل ، جلب الاستثمارات ، الحصول على أسواق جديدة ، تحقيق رخاء ورفاهية المواطنين..، أي أن التكتل الاقتصادي يعتبر بمثابة فرصة ثمينة لتسهيل وتسريع تحقيق التنمية الاقتصادية للدول المنضوية في إطاره .

المغرب يتميز بموقعه الاستراتيجي في أقصى شمال غرب إفريقيا وعلى بعد بضع كيلومترات من أوربا مع إطلاله على واجهتين بحريتين ،بالإضافة لاحتوائه على مؤهلات وموارد طبيعية متنوعة تؤهله لكي يكون فاعلا من الدرجة الأولى ضمن تكتل اقتصادي ناجح ،لكن أين هو هذا التكتل ؟

فعلى الورق ينتمي المغرب إلى اتحاد المغرب الكبير الذي تأسس سنة 1989 بمدينة مراكش ، مع العلم أن فكرة إنشائه كانت تراود رواد الحركة الوطنية في كل من المغرب والجزائر وتونس إبان فترة الاستعمار، فعند تأسيس هذا الاتحاد كانت بشائر الخير وأفاق المستقبل المزدهر تلوح في الافق ،خصوصا وأن الدول الخمس المكونة لهذا التكتل لها قواسم عديدة مشتركة تسهل الاندماج ولكل منها مقوماتها الاقتصادية التي من خلالها يمكن تحقيق التكامل والتعاون ،غير أنه مع مرور السنوات يظهر أن الاتحاد المغاربي ليس على ما يرام بالنظر لمحدودية الانجازات المتحققة والعلاقات المتوترة بين المغرب والجزائر وأيضا عدم انجاز وتحقيق بنود معاهدة مراكش ، فمثلا من بين الأهداف المسطرة نجد العمل تدريجيا على تحقيق حرية تنقل الاشخاص وانتقال الخدمات والسلع ورؤوس الأموال بين الدول الخمس ، فكيف سيتحقق هذا الهدف والحدود بين المغرب والجزائر مغلقة لأزيد من عشرين سنة !! ،كذلك تشير وثيقة المعاهدة بأنه على الصعيد الدولي تسعى السياسة المشتركة للبلدان المغاربية إلى تحقيق الوفاق بين الدول الأعضاء وإقامة تعاون دبلوماسي وثيق بينها يقوم على أساس الحوار ،ونتساءل كيف سيتحقق مثل هذا التعاون والجزائر تدعم إنشاء دولة وهمية في الصحراء المغربية !! ، كذلك تعيش دولة ليبيا دات المؤهلات الهائلة اقتصاديا من المحروقات مرحلة انتقالية قصد بناء دولتها المدنية العصرية والتي يدعمها المغرب من خلال استضافة الفرقاء الليبيين لمفاوضات الصخيرات الناجحة ، بالنسبة للجارة الجنوبية موريتانيا بدورها لها مقومات اقتصادية مهمة للدفع بعجلة التكتل المغاربي خصوصا الثروة المعدنية وربما الطاقية مستقبلا بالإضافة الى الصيد البحري ، ثم تونس أصغر دولة مساحة مغاربيا و التي عاشت تجربة انتقالية نحو ترسيخ الديموقراطية والتي تتشابه مع المغرب من حيث المؤهلات الاقتصادية …

من حيث الحصيلة المتحققة ، لقد تم إهدار فرص ثمينة وتضييع حلم أجيال من الساكنة المغاربية التي تكن الود والمحبة لبعضها البعض بسبب سوء التفاهم الحاصل بين المغرب والجزائر والذي يعرقل البناء المغاربي ، حيث يتم استغلال المنابر الاعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي مع الأسف لتجييش الناس و لترسيخ الوضع السلبي القائم بدل العمل على تصحيحه ووضع الاتحاد المغاربي في سكته الصحيحة، الأمر الذي كان ممكنا لو تحقق أن يعود بالنفع العميم على دول وشعوب المنطقة .

إن يأس المغرب من الجمود والتعثر الذي يعرفه التكتل المغاربي لعدة أسباب أشرنا إلى بعضها ورغبته أيضا في الانفتاح على أفاق أرحب جعله يطالب بالانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس) سنة 2017 ، هذا التكتل المتكون من ثلاثة عشر دولة والمتباينة من حيث مؤهلاتها الاقتصادية وخصوصياتها الثقافية والاجتماعية …وينتظر المغرب الرد من إيكواس من أجل الحصول على عضويته الكاملة والاستفادة من التعاون الاقتصادي بين دوله والذي هو موجود منذ مدة طويلة مع دوله الأعضاء وإنما سيتعزز أكثر بنيل عضوية هذه المجموعة الاقتصادية التي ستعوض المغرب في العديد من الفرص الثمينة والزمن المهدور في الاطار المغاربي .

إنه لأمر مؤسف أن نرى كل دول العالم تتكتل وتتحد لمواجهة التحديات بينما تكتلنا المغاربي يظهر فاشلا ولا يساير مستجدات العصر وكأن فضاءنا عقيم من أناس وخبراء عقلاء لهم نظرة ثاقبة ومدركون للمستقبل الصعب الذي ينتظر البشرية بدون تكتل وتعاون ، إذ كيف يمكن تفسير فضاء غني بموارده الاقتصادية الباطنية والسطحية بينما شبابه يلقون بأنفسهم في ظلمات البحر الابيض المتوسط بحثا عن ما يسمونه الفردوس الاوربي !! ، كذلك الخدمات الاجتماعية لا ترقى للمستوى المرجو بالدول المغاربية والعديد من المؤشرات كان يمكن أن ترتقي للأفضل لو كان هناك تكتل مغاربي فعال وناجح …، فحسب المعطيات فإن خلق مصالحة مغربية – جزائرية هي المفتاح لخلق الدفء بالاتحاد المغاربي ودوران عجلته المجمدة وإعادة الحياة إلى هياكله ونفض الغبار على مكاتبه حتى تخطط لنا أفكارا وبرامج تنموية ناجحة ،إذ مع هذه المصالحة التي تحتاج إلى تفعيل من طرف عقلاء ومتنوري البلدين ستفتح الحدود وسيطوى المشكل المصطنع حول الصحراء المغربية وسينتعش اقتصاد بلدان المنطقة مما سيوفر فرص العمل والاستقرار لشباب المنطقة ويحقق التقدم والرفاهية للمجتمعات المغاربية ويدافع عن حقوقها ..كما تنص على ذلك معاهدة مراكش لسنة 1989 ، وهذا الامر ليس بالمستحيل إذ لنا في التاريخ أمثلة وعبر ، فمن كان يظن أن دول أوربا الغربية التي عانت من تداعيات حربين مدمرتين خلال القرن العشرين ستتوحد و تتكتل لكي تخلق واحد من أنجح التكتلات الاقتصادية العالمية ، بل من كان يعتقد أن المبادرة والانطلاقة ستأتي من دولتين طيلة سنوات وعلاقتهما متدهورة وتتسم بسوء التفاهم وهما فرنسا وألمانيا ، غير أن الارادة القوية وحضور وازن لأشخاص عقلاء من الجانبين أنجح الأمر الذي كان سابقا مستحيلا ، هكذا ففي سنة 1950 صرح الفرنسي “روبير شومان” الملقب بالأب الروحي للاتحاد الاوربي بأن بناء أوربا لا يمكن أن يتم بشكل فوري أو شمولي ، بل إن بناءها سيكون عبر إنجازات ملموسة تنطلق بخلق تضامن فعلي ، لكن في نظره هذا غير كاف حيث فطن بأن هذا الطموح الأوربي لا يمكن تحقيقه من غير إزالة العائق القديم بين بلاده وألمانيا ، ولعله هنا يشير إلى حدث قريب وهو الحرب العالمية الثانية التي لم تضمد أوربا جراحها بعد لحظة الادلاء بهذا التصريح ، حيث كانت فرنسا مع الحلفاء بينما ألمانيا تخندقت مع دول المحور (ايطاليا، اليابان ) ، ولقد كانت فاتورة سنوات الحرب باهضه جدا على جميع الأطراف وشملت كل الميادين والنظام النازي الالماني استعرض قدراته العسكرية داخل أوربا واحتل العديد من الدول خلال المرحلة الاولى من الحرب وكان تلثي الاراضي الفرنسية محتلا ، غير أن المرحلة الثانية التي عرفت انضمام الولايات المتحدة شهدت انقلاب موازين القوى لفائدة الحلفاء الذين حسموا الحرب لصالحهم وتم احتلال واقتسام المانيا من طرف الحلفاء الأربع ضمنهم فرنسا .

إذا ابتعدنا عن هذه المرحلة أي مرحلة الحرب العالمية الثانية وما تلاها خلال منتصف القرن العشرين وعدنا إلى مطلعه سنجد ذلك التنافس الشديد بين البلدين حول المستعمرات ولا سيما بإفريقيا حتى أن بلادنا كانت من الدول التي اشتد حولها التنافس الامبريالي بين فرنسا وألمانيا وأدى ذلك لوقوع أزمة 1911 التي كادت تشعل الحرب العالمية الأولى ، هذه الحرب ستندلع سنة 1914 والتي عرفت تمركز ألمانيا مع دول الوسط التي تشمل الامبراطورية النمساوية-المجرية والامبراطورية العثمانية ، بينما فرنسا تخندقت مع حلفاءها التقليديين وكما هو معلوم فالحرب حسمها الحلف الفرنسي وكان من نتائجها عقوبات قاسية في حق المنهزمين وعلى رأسها ألمانيا التي فرضت عليها معاهدة فرساي حيث تم تحميلها تبعات هذه الحرب باعتبارها المسؤولة عن اندلاعها … ، إذا ابتعدنا شيئا عن أحداث القرن العشرين وعدنا للقرن التاسع عشر نجد الصراع الالماني – الفرنسي قائما حيث انتصر الالمان بقيادة الوزير “بيسمارك ” عسكريا على بعض الدول الاوربية وضموا بعض اراضيها إلى مملكتهم ومن ضمنها أراضي فرنسية وذلك سنة 1870 ..، قبل هذا الحدث وفي مطلع القرن 19 م استعرضت فرنسا قوتها العسكرية خلال الحروب النابليونية وفرضت سيطرتها على معظم أوربا الغربية بما فيها الولايات الألمانية ….

هذه سلسلة من محطات سوء التفاهم والصراع الدائم بين فرنسا وألمانيا على امتداد قرنين من الزمن و التي عاصر “روبير شومان” بعضها وهي التي يقصد في تصريحه بالعائق القديم ، فأكيد أن كل مرحلة تاريخية تحتاج إلى عقلاءها ورجالاتها المتنورين قصد تدبير المستجدات وحل الخلافات بطرق دبلوماسية ومعقولة ،لأن غيابهم يؤدي لوقوع الكوارث ، ويعتبر “روبير شومان ” الذي تقلد عدة مناصب في بلاده واحدا من هؤلاء العقلاء والمخططين للمستقبل وذوو بعد نظر وكان مقترحه بسيط جدا لكن قيمته لا تقدر بثمن ، إذ اقترح أولا إجراء مصالحة بين فرنسا و ألمانيا ، ثم بعد ذلك وضع كامل الانتاج الفرنسي – الألماني من الفحم والصلب تحت تصرف سلطة عليا مشتركة ، في إطار منظمة مفتوحة للبلدان الأوربية الاخرى.

لقد اعتبر “روبير شومان ” بأن الانتاج المشترك للفحم والصلب سيضمن تأسيس قواعد مشتركة للتنمية الاقتصادية والتي هي بمثابة الخطوة الأولى ضمن مسلسل بناء اتحاد فيدرالي أوربي سيغير مصير هذه البلدان التي أمضت أزمنة طويلة في صنع أسلحة الحرب التي غالبا ما تكون هي ضحيتها الأولى ، ولقد أنهى “روبير شومان ” تصريحه بأن التعاون الاقتصادي المأمول سيظهر بأن كل صراع بين فرنسا وألمانيا مستقبلا سيصبح غير معقول و عمليا مستحيل.

هذا التصريح سيعطي أكله من خلال إنشاء المجموعة الاوربية للفحم والصلب بمقتضى معاهدة باريس لسنة 1951 م ، ثم معاهدة روما التي بموجبها أنشئت المجموعة الاقتصادية الاوربية سنة 1957 ، حيث مع مرور السنوات انضمت العديد من الدول لهده المجموعة والتي ستتحول انطلاقا من سنة 1993 الى الاتحاد الاوربي مع استمرار انضمام دول جديدة لهذا التكتل وتحقيق نجاح تلو النجاح ( إزالة الحدود من خلال تطبيق اتفاق شنغن ، اختيار عملة الاورو الموحدة ، سياسة خارجية وأمنية مشتركة …) ، فمتى سنرى “روبير شومان ” المغاربي الذي سيصوب بوصلة الاتحاد المغاربي نحو الاتجاه الصحيح ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *