مجتمع

نوابغ مغربية: محمد الصنهاجي.. شيخ اللغويين المغاربة ومبدع تحفة الآجرومية الخالدة

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

الحلقة 35: محمد ابن آجَرُّوم الصنهاجي.. شيخُ اللغويين العرب بالمغرب الأقصى ونَجْم عِلْمَي القراءات والنحو الذي لا يَغيب 

بسم الله الرحمن الرحيم

علماء كُثُر في تاريخ المغرب الأقصى قُدّر لأعمالهم ومؤلفاتهم أنْ تعيش عمرا مديدا، وأن تُتدَاوَل في المجامع العلمية والمدارس والكتاتيب، ولكن قَلَّما طَبَقَت شُهرةُ عالمٍ مغربيٍ الآفاق وانتشرت مصنفاته وعلمه مشرقا ومغربا، ودام حضورها إلى يوم الناس هذا. فهذا الصنف من العلماء وأعمالهم الخالدة تُعَدّونَ على رؤوس الأصابع، ومع ذلك فإسهاماتهم ما تَزال ذات راهنية وتأثير واسع في العالم الإسلامي والغربي، من خلال الترجمات التي أنجزت عنها. ومِن صفوة العلماء الذين حَضوا بالعناية والانكباب الدائم على إرثهم، وتداوُل كُتُبهم إلى زمنا وإلى أن يشاء الله؛ العلّامة النّحوي النّحرير؛ محمد بن داود الصنهاجي، المشهور على ألسنةِ العلماء والعامة بــ”ابن آجرّوم“. 

يعود بأصوله الاجتماعية إلى قبيلة صنهاجة، توطّنت عائلته بالمنطقة المعروفة حاليا (صفرو)، إلا أنه ازداد بفاس العالمة سنة 672 هجرية، وقيل 692 الموافق لسنة 1273 في نفس السنة التي فَقد فيها العالَـم الإسلامي كَبيرَ النحويين واللغويين في زمانه، ابن مالك، صاحب “الألفية الشهيرة”، وكأنّ القدر هَـيَّــــأَ خليفةً لابنِ مالك، ولكن من المغرب لا المشرق، فكان ميلاد محمد بن داود الصنهاجي، تعويض عن الخسارة التي لحقت علوم اللغة العربية والقراءات واختصاص النحو بوفاة صاحب الألفية المذكور.

يَجهل معظم التراجمة والمؤرخين دقيقَ الأخبار عن الحياة الأولى لابن آجرّوم، عدا ما كان من اتفاقهم على قضاءِه سنوات التعلّم الأساسية في عُدوة الأندلس بفاس، وتمدرسه في كتاتيبها، وتَلَقِّيه الأدب والأخلاق من حياض الأسرة ومحيط الفقهاء.

انفرد الشيخ ابن مكتوم – وقد كان معاصرا لابن آجرّوم – بتزويدنا بمعلومات عن المسار العلمي للبحاثة ابن آجروم، وتميّزه الاستثنائي في علم القراءات، وبراعته في النحو، وتفوّقه في الأدب، إلى جانب اهتمامه بالحساب وعلم الفرائض، ورسوخه في فقه المذهب المالكي.

فَـبَعْدَ أنْ استوى عُودُه وأُشِرب العلومَ مِن أمّهات المصادر وأفواه العلماء؛ انتقل لممارسة مهنة التعليم والتدريس بالمدرسة التابعة لجامع الأندلس بفاس، حسْبما أورد العلامة عبد الله كنون نقلاً عن العلامة ابن القاضي في كتابه “جذوة الأنفاس”، حيث وَصَفَ ابنَ آجرّوم بأنه كان “مِن مُؤدِّبِــي أهل مدينة فاس”، ونعلم أنه يُطلَق في تراثنا التربوي على مُعلِّمي الصبيان لَفـظ “مؤدِّبي الصبيان”، وعلى تعليم الأطفال “رياضة الولدان”، ومن هذا الوصف؛ نستنتج مزاولة العالِـم ابن آجروم التدريسَ. فيما أكّدَت موسوعة “معلمة المغرب” في الصفحة 143 مزاولَتَه مهنة تدريس العلوم القرآنية واللغوية بجامع القرويين، حتى اشتهَر على الألسُن بــ”الفقيه الأستاذ الـمُقرِئ العلّامة”. 

اختصّ ابن داود الصنهاجي في العربية وعلم القراءات، وبرع فيهما. وارتحل إلى الحجاز لتلقِّي العلم على يد الجِلَّـة من العلماء، ولأداء مناسك الحج أيضا. ومنه عرَج على مصر، فحطّ بالقاهرة، متتلمِذا على يد عالِم النّحو فيها الشيخ محمد بن يوسف النّفزي الغرناطي الذي أجازَه في النحو والقراءات. كما أخذ العلم أيضا على يد أبي عبد الله بن القصاب ومحمد بن أبي العافية والشيخ عبد الملك بن موسى. 

ومن أرض الحجاز مهبط الوحي؛ سيتفرّغ ابن آجروم لكتابة أهمّ أعماله العلمية التي ستُخَلِّد اسمه وسترتبط به لقرون عديدة، تلك هي “المقدمة الآجرومية في مبادئ علم العربية”، المقدمة الأكثر شيوعا وذيوعا بعد مقدمة ألفية مالك. 

لا نعلم السر الكامن وراء احتفاء المغاربة والمشارقة بالآجرومية، غير أننا عندما نطّلع على السياق الذي كُتِبت فيه، ونعرف ما كان عليه صاحبها من صلاح واستقامة وتفقّه في الدين ومتانة في العلم ومكارم الأخلاق؛ تنقشع غيوم السؤال عن أسرار استمرار حضور المقدمة إلى عهدنا هذا. ناهيك عن أنّ الشيخ ابن آجروم كان قد شرع في تحريرها برحاب الكعبة المشرّفة، فنالت بَركة الزمان والمكان. 

أتى ابن آجروم في المقدمة الشهيرة بمنهج سليم، وطريقة مُبسّطة، واختصرها بشكل سهُل معها قراءتها وحفظها، وأحسَن ترتيب أبواب النّحو فيها، وتَـجَـنَّب التشويش على الطلبة والقُرّاء بالإتيان بغريب الإعراب ومشاكِله، ومنها تحصيلُه المفيد فيها لعلامات الإعراب. وجاءت المقدمة الآجرومية في 30 بابا وفصْلاً صغيراً مهَّد فيه لــ”أنواع الـكلام”. وإنّ المختصِّين في اللغة والنحو ليجِدُون في ورَقات المقدمة ما يُغنيهم، ويُفيد طَلبتهم، ويوافق دقيقَ اختصاصهم في علم النحو. 

لقد كانت هاته المقدمة المباركة النافعة سببا في شهرة ابن آجروم، لا سيما بعد عودته للمغرب، شُهرةً فاق بها سيبويه، ومُصَنَّفَه المعروف في علم العربية والنحو. وكانت سببا في إقبال الطلبة على تحصيل العلم على يد الشيخ ابن آجروم، فحجُّوا إليه من كل فج عميق، فكان ممن تتلمذ على يديه مباشرةً ابنه محمد الصنهاجي الذي صار عالما ونحويا بارعا كأبيه، ومحمد بن شعيب الجزنائي، والفقيه عبد الله الوانْغيلي، والقاضي محمد بن عبد المهيمن الحضرمي، والأديب محمد بن حزب الله الخزرجي، واللغوي المتفنّن محمد مَنديل..، ومن علماء الأندلس الذين تلقّوا العلم على يد ابن آجروم السيد عمر الغساني.

أما من لم يَـتتلمَذ على يديه مباشرة، واستفاد من مقدمته العظيمة في اللغة العربية إلى يوم الناس هذا؛ فخلْق كثير وتلامذة لا يُـحصَون عَدًّا، وما تزال تُعتمد في المدارس ومعاهد التعليم الديني في شتى الأصقاع.. كما تم رفْعها على منصات إلكترونية شهيرة، كمكتبة نور، ومكتبة المصطفى. ومن مظاهِر إقبال الناس عليها؛ تزايُد أرقام تحميلِ المقدّمة في نُسختها الإلكترونية (9145 مرة على شبكة نور). ولا غَرو؛ فقد كانت منذ القرن الثالث عشر الميلادي أوّلَ ما يُدرَّس في العالم الإسلامي في ميدان اللغة العربية، وكان مَن يُتقن الآجرومية، يتسنّم مكانا عاليا بين النّحويين المتمكنين.

ولما كان مَدار النّحو كله على الإعراب؛ فقد سَعى ابن آجروم – بذكاء – إلى وضْع مقدِّمته فجَمع فيها وأوْعى، ضاما إليها ما تَفَرَّق في المدرستين البصرية والكوفية في النحو، فأتت مقدِّمته جامِعةً بينهما، فوجَد فيها أهل المشرق بُغيتهم، حتى عَدَّها العلّامة الأديب عبد الله كنّون مِن “التآليف المدرسية النّاجحة، التي رُوعِيَ فيها نفسية الطّفل، وأصول التربية الحديثة، بالتدرّج مِن المحسوس إلى المعقول، ومِن البسيط إلى المركَّب، ولذلك نراها كثيراً ما تُستَعمَل حتى في المدارس العصرية (..) كما وَضَع لها الـمدرِّسون العصريون تمارين وجداول صَرْفية وأُمثُولات؛ مما يدلُّ على شِدّة عِنايتهم بها، ومَزيدِ حِرصهم عليها”. انظر كتابه “مشاهير رجالات المغرب”، ص: 428.

لقد كَتب الله لهذه المقدِّمة الخلود، فهي تُـتْلى وتُحفَظ عن ظَهر قلب، في عقول الناشئة والمدرِّسين والفقهاء منذ غابِر القرون، واعتنى بها خَلق كثير من الفقهاء واللغويين، وشَرَحها عدد كبير من الشرُّاح منذ كُتِبت واشتُهِرَت، ذَكر من بينهم الأستاذ عبد الله كنون؛ المحقِّق أبو عبد الله الشريف الفاسي، الذي شرحها شرحا مبسَّطا، مركّزا على الألفاظ ثم المعاني. والشيخ علي بركة، عالِم تطوان، الذي تفضَّل بشرحها في سِفر ضخم، فنفع الله بها أجيالاً وأجيالاً. والفقيه الراعي الأندلسي؛ والعلامة السوداني، والعلّامة المكّودي، والشيخ الأزهري، الذي اعتُمِد شرحه في بعض المدارس الحرة والكتاتيب القرآنية بالمغرب. والشيخ حسن الكَفراوي الذي اعتنى بجانب الإعراب من المقدمة الآجرومية، وقدّم خِدمة جليلة للطلبة. أما الصوفي الكبير الشيخ أحمد بن عجيبة رحمه الله فتفرّد بالشرح الإشارِي العرفاني البليغ للمقدمة.

أما الحواشي والشروح الصّغرى فقد تجاوزت إلى حدود سبعينات القرن العشرين 19 حاشية، فصَدق فيها قول الشاعر شرف الدين العمْريطي:

فــانــتَفَعَت أجِلَّـــةٌ بِـعِـلْـمِـها  * معْ ما تَراهُ مِن صِغَر حَجْمِها

ومن مَظاهر عناية الغَربيين بالمقدِّمة؛ إقدام اللغويين الإيطاليين على ترجمتها للغة الإيطالية سنة 1592، ثم إلى اللاتينية سنة 1610 ، ثم طُبعت مع شرح باللغة الإنجليزية سنة 1832، وفي نسخة فرنسية سنة 1846، ونَقلها إلى اللغة المجرية المستشرق كانْيوريسكي سنة 1930.

ومِن مؤلفات ابن آجروم الشهيرة عند أهل الاختصاص، التي نفع الله بها أيضا، وإن لم تصِل في اشتهارها ما وصلته المقدمة الآجرومية؛ إلا أنها تَدل على عُلو كعب ابن آجروم في العربية وعلم القراءات والشِّعر أيضا، وتمكّنه من خبايا اللسان العربي وعبقريته، نذكر: 

– (فرائد الـمعاني في شَرح حِرْز الأماني ووجه التّهاني)، وهو شرح مفصَّل دقيق للقصيدة الشهيرة للإمام أبي القاسم الشاطبي في علم القراءات. وقد طُبع كتاب الفرائد هذا في ثلاثة أجزاء، نشَرتْه جامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية، بعد أن كان في الأصل أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه سنة 1997، أنجزها الباحث عبد الرحيم نبولسي.

– نَظْمٌ شِعري في علم القراءات سمّاه (البارع في أصْل مَـقرأ الإمام نافع)، فرغ منه سنة 696.

– كتاب (المقدّمة الآجرومية في مبادئ علم العربية)، وقد طُبعت طبعات عديدة، ونُشرت ورقيا عن دُور نشر متعددة، وفي نسخ إلكترونية كذلك.

– أرجوزة بعنوان (التّبصير في نَظْـم التّـيسير) شَرح فيها كتاب “التيسير” للعلاّمة أبي عمرو الداني رحمه الله. 

لم يُعمِّر ابن آجروم الصنهاجي الفاسي إلا خمسين عاما، مَلأ فيها الدنيا عِلما، وطَبقَت في بضع أعوام منها مقدّمَتُه الآفاق، وانتفع بها طلبة العلم والمختصون سواء، وتوفي يوم 20 صفر الخير سنة 723 أواخر فبراير سنة 1323، ودُفن داخل باب الجديد بفاس، وقيل قرب باب الفتوح. 

مصادر ومراجع

* “معلمة المغرب” مجموعة مؤلِّفين، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا 1989، الصفحة 143
* (آجروم) محمد بن داود: “فرائد الـمعاني في شَرح حِرْز الأماني ووجه التّهاني“، مكتبة الزاية الناصرية – أمكروت، نُسخة مصوَّرة عن المخطوط الأصلي، صيغة * إلكترونية.
* (آجروم) محمد بن داود: “متن الآجرومية في النحو” دار الصميعي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى 1998، نسخة إلكترونية.
* (كنون) عبد الله: “ذكريات مشاهير رجال المغرب في العلم والأدب والسياسة“، ثلاثة أجزاء، مركز التراث الثقافي الغربي، دار ابن حزم للنشر، الطبعة الأولى 2010، نسخة إلكترونية.

* إعداد: عـدنان بـن صالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • غير معروف
    منذ 12 شهر

    من فضلكم عنوان الكاتب بن صالح او هاتفه وشكرا