منوعات

هل تثبت الوقائع والتجارب فعلا أن الجن يسكن جسد الإنسان؟

الجن لا يسكن الأبدان.. وهكذا أرى علاقته بالإنسان (4)

هذه رابع مقالة ضمن هذه السلسة التي أحاول من خلالها تصحيح بعض المفاهيم المتعلقة بعلاقة الجن بالإنسان. كانت المقالة الأولى عبارة عن مقدمة وتمهيد للموضوع وقفت من خلالها على الأسباب والدوافع التي جعلتني أكتب في الموضوع ومن بينها طبعا الانتشار الفظيع لظاهرة ما يسمى بالمسّ وطرق علاجه التي لا تحترم الضوابط العلمية ولا الطبية ولا حتى الشرعية في الكثير من الأحيان، والتي تخلف مضاعفات خطيرة على الفرد والمجتمع. ووقفت من خلال نفس المقالة (الأولى) أيضا على بعض تجاربي الشخصية في ممارسة ما يسمى بالرقية الشرعية، لأبين للقارئ الكريم أنني لا أتحدث في هذا الموضوع من فراغ. فبالإضافة إلى المُدارسة والمناقشة العلمية، فأنا أيضا ابن الميدان وأعرف كل خباياه باعتباري مارست الرقية لمدة طويلة ووقفت على عشرات وربما مئات الحالات من مثل ما يستشهد به الذين يثبتون ظاهرة المس.

أما المقالة الثانية، فقد ناقشت من خلالها دلالة الآية الكريمة (275) من سورة البقرة وهي قول الله تعالى: (الذين ياكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) وخلصت بعد مناقشة هذه الآية الكريمة التي يستشهد بها البعض في إثبات ظاهرة المسّ مناقشة علمية هادئة، إلى أن الآية الكريمة ليست نصا صريحا في إثبات تلبس الجن بجسد الإنسان. في المقالة الأخيرة حاولت الإجابة عن سؤال: هل يوجد في السنة ما يثبت أن الجن يتلبس بجسد الإنسان؟ وخلصت في نهاية المقالة وبعد مناقشة بعض النصوص الحديثية التي يستشهد بها من يثبتون الظاهرة إلى أنه لا يوجد في السنة نص صحيح السند واضح الدلالة يثبت أن الجن قد يسكن جسد الإنسان.

بعد نشر المقالة الأخيرة تفضل بعض المخالفين لرأيي بالرد على ما كتبته. ومنهم من أورد حديثا نبويا لم أذكره ضمن مقالتي الأخيرة واعتبر أن هذا الحديث صريح وواضح في إثبات دخول الجن جسد الإنسان. وقبل الشروع في موضوع هذه المقالة، اسمحوا لي أن أرد ولو باقتضاب شديد على من استشهد بهذا الحديث معتبرا إياه نصا صريحا! ونص الحديث هو: “إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع فإن الشيطان يدخل.” فرغم أن الحديث صحيح السند، إلا أنه أيضا وكغيره من الأحاديث التي يستشهد بها في الباب ليس صريحا ولا واضحا في دلالته. وذلك لسببين:

السبب الأول، أن الدخول الوارد في هذا الحديث لا علاقة له بموضوع المس والصرع والتخبط الذي نحن بصدد الحديث عنه. هذا إن سلمنا بأن الدخول حقيقي وحسي.

السبب الثاني: ما أورده الحافظ ابن حجر في فتح الباري من أن لفظ الدخول الوارد في هذه الرواية لا يعني بالضرورة الدخول الحسي. قال رحمه الله: “وأما قوله في رواية مسلم (فإن الشيطان يدخل) فيحتمل أن يراد به الدخول حقيقة وهو وإن كان يجري من الإنسان مجرى الدم لكنه لا يتمكن منه ما دام ذاكرا لله تعالى، والمتثائب في تلك الحالة غير ذاكر فيتمكن الشيطان من الدخول فيه حقيقة ويحتمل أن يكون أطلق الدخول وأراد التمكن منه!!! لأن من شأن من دخل في شيء أن يكون متمكنا منه”. ومعنى كلام ابن حجر أن هذا الحديث ليس نصا صريح الدلالة في إثبات الدخول الحسي للجن في جسد الإنسان، لأنه يحتمل المعنيين.

وخلاصة القول فيما سبق: إنه لا يوجد دليل واحد من كتاب الله ولا من صحيح السنة المطهرة يثبت إثباتا قطعيا بأن الجن يتلبس بجسد الإنسان. وكل النصوص التي يستشهد بها المثبتون إما ظنية في الثبوت أو ظنية في الدلالة أو ظنية الثبوت والدلالة معا.

ولأن المثبتين لظاهرة المس يستندون في إثباتهم هذا أيضا إلى الوقائع والتجارب بالإضافة إلى النصوص الشرعية، فلا بد من مناقشة هذه الوقائع والتجارب والنظر فيما إن كانت تثبت بالفعل أن الجن يسكن جسد الإنسان أم لا.

أبدأ هذه المناقشة بالوقوف عند بعض التجارب الشخصية التي مررت بها ولا زلت، والتي عايشت من خلالها حالات مما يظن الكثيرون أنها مس، لكن تبين في الأخير أنها غير ذلك. واقول: إن هذه التجارب تبلغ العشرات ولا يتسع المقام لذكرها كلها، لذلك سأكتفي بالوقوف عند بعضها فقط:

التجربة الأولى: بعد نشر مقالتي الأخيرة في الموضوع وفي إطار نقاش مع أحد الزملاء الأئمة حول مضمون المقالة، أخبرني صديقي هذا بأنه قد يراجع موقفه من مسألة المسّ وقد يتبنى نفس الموقف الذي أتبناه، والذي لا يؤمن بأن الجن يمكن أن يسكن جسد الإنسان! ورغم أني لم أكن متأكدا من كونه قد قال ذلك جادا أم مازحا، إلا أنني سألته عن سبب هذا التحول المفاجئ في موقفه، فعهدي به أنه يؤمن بالمس وبتلبس الجان بجسد الإنسان ويدافع عن ذلك بشدة، بل ويمارس الرقية ليخرج الجن من أجساد الناس. كان جواب صديقي كالتالي: “لقد وقفت خلال الأيام القليلة الماضية على حالة جعلتني أعيد حساباتي وأقيم موقفي!” ثم أضاف: “لقد عرضت علي قبل أيام امرأة تعاني من المس منذ عشرين سنة. بعد محاولة رقيتها، تأكدت أنه لا أثر للمس بها. وكل ما في الأمر أنها تزوجت برجل كانت تحب غيره. خلال هذه المدة كلها (مدة عشرين سنة من الزواج)، لا تزال المرأة تحس بنفور تجاه زوجها المسكين لأن قلبها لا يزال معلقا بالآخر. ولأنها لا تستطيع أن تبوح لزوجها بهذا السر الخطير الذي قد يعصف بأسرتها، فهي تتظاهر بالمس وبالجن لتبرر نفورها من زوجها وعدم رغبتها في معاشرته!”. عشرون سنة من التمثيل والخداع، خداع الزوج وخداع عشرات الراقين الذين صّدقوا أن بها مسا من الجن وحاولوا إخراجه من جسدها ولم يفلحوا في ذلك خلال هذه المدة كلها، ليتبين في الأخير أن المرأة مسكونة فعلا، ليس بجني رجيم ولكن بحبّها القديم!

التجربة الثانية: ذات يوم، انتهيت من صلاة العشاء في المسجد، فإذا بي بشاب ينتظرني بالباب وقد بدت عليه بوادر القلق والخوف. اقترب مني وقال: هل بإمكانك أن تساعدنا؟ قلت له: ما الأمر؟ قال: إن أخي قد دخله جني وإن نبرة صوته قد تغيرت.. والجني يهدد أفراد الأسرة بأنه قد “يدخل فينا” جميعا! نحن خائفون ومتحيرون…ساعدنا من فضلك.

ذهبت معه إلى البيت فوجدتهم قد شدوا وثاق أخيه وربطوا يديه وراء ظهره. كان الشاب الذي ظنوا أن به مسا ضعيف البنية قصير القامة يبلغ حوالي الثامنة عشر من العمر. وكنا نحن ثلاثة رجال: أنا وأخوه وأبوه، كل واحد منا أقوى منه بنية. لما تأكدت أنه يمكننا السيطرة عليه حتى لو أطلق وثاقه، طلبت من أخيه أن يفك رباطه ثم اقتربت منه بحذر وسألته: ما اسمك؟ فأجابني بنبرة صوت حادة وخشنة: أنا الجني! قلت له: أنا لا أسأل عن الجني، أنا أسأل عن هذا الشاب الذي يسكنه الجني: ما اسمك؟ فأجابني بنبرة صوته العادية: اسمي فلان!!! وذكر اسمه. قلت له: ما بك يا فلان؟ ثم عاد وقال: أنا لست فلانا أنا الجني.. وإذا لم تذهب فسأخرج منه وأدخل فيك. قلت له تفضل “كن راجل”. بدأ يصرخ ويصيح ويقوم بحركات محاولا أن يخيفني.. أمسكت بيده ونظرت في عينيه بنوع من الحدة ثم قلت له: فلان، (اجمع راسك) إن الجن لا يدخل جسد الإنسان ولا يمكنه ذلك! تكلم معي بوضوح وأخبرني ما بك لأستطيع مساعدتك؟ فأجابني: كيف تقول إن الجن لا يسكن جسد الإنسان وأنا قرأت كثيرا حول هذا الموصوع وشاهدت الكثير من الأفلام حوله؟ قلت له: كل ذلك ظنون وأوهام ولا يوجد في القرآن ولا في السنة ما يثبت ذلك. أنت لست مسكونا وليس بك أي مس. وأنت أقوى من أن يسكنك الجني. لا أريد أن أسمع منك بعد الآن أنك الجني!

هدأ الشاب وبدأت تصرفاته تتغير بالتدريج ثم قلت له: انظر كم من الهلع والخوف سببت لأسرتك؟ إذا كنت تعاني من شيء ما، فليصحبك أخوك إلى الطبيب ويجري لك فحوصات وستتحسن بإذن الله. اقترب منه أفراد عائلته بعد ما ذهب روعهم وأقنعتهم أنه ليس به مس. سألت أخاه عن أحواله وظروفه وما الذي يشغله، فأجابني بأن الشاب كان يقضي معظم أوقاته في غرفته لوحده وأنه كان يكثر من مشاهدة الفيديوهات وقراءة القصص التي تتمحور حول الجن والمس! دعوت الله له بالشفاء ثم انصرفت بعدما نصحت أخاه بضرورة اصطحابه إلى الطبيب. في الصباح، اصطحبه أخوه إلى الطبيب وأجريت له فحوصات ووصف له الدواء فتحسن حاله ولله الحمد ولم يعد لفرضية إصابته بالمس والجن أثر لا بالنسبة له ولا بالنسبة لعائلته.

التجربة الثالثة: هي قصة فتاة دعاني أبوها يوما لأرقيها. لبيت طلب الأب وذهبت معه إلى البيت ثم سألته وابنته عن نوع المشكلة، فقيل لي إن الفتاة تحس بضيق وغمة في صدرها في بعض الأحيان وتظهر عليها علامات غريبة عند سماع القرآن! قرأت ما تيسر من القرآن ودعوت الله لها بالشفاء ثم قلت لها ولأبيها: يبدو لي أنه ليس بك جن ولا مس وعليك أن تبحثي عن أسباب أخرى قد تكون وراء ما تعانينه من ضيق وغمة.. قالت لي: لقد تثاءبت عندما كنت تقرأ القرآن وكانت عيناي ترفرفان! أجبتها: وماذا يعني ذلك في نظرك؟ قالت: أليس ذلك دليلا على المس؟ قلت: من أخبرك بذلك؟ من أخبرك بأن هذه علامات المس وتلك علامات السحر..؟ ثم أضفت: لعلك قرأت الكتاب الفلاني الذي يدّعي صاحبه أن التثاؤب ورفرفة العين عند سماع القرآن من علامات المس؟ فأجابتني: نعم لقد قرأته، أليس ذلك صحيحا؟ قلت لها: إن كل ما قرأته ادعاء وتخمين لا يستند إلى دليل شرعي ولا إلى دليل طبي أو علمي. كل ذلك ظنون في ظنون.

وأنا أحاول إقناعها بأنها ليس بها مس ولا سحر، إذا بأبيها يتدخل قائلا: “راه حاطّين عليها السي الفقيه وتابعينها في صحتها ودايرين ليها باش ما تتزوّجش..” ثم بدأ يتحدث عن تجاربها الفاشلة في الزواج. حاولت أن أقنعهم بأهمية الرضى بقضاء الله وقدره وبتفويض الأمور إلى الله واليقين بأن الخير فيما اختاره الله. ثم حذرتهم من سوء الظن واتهام الناس ورميهم بالباطل بدون دليل، لأن الأب كان يشير أثناء حديثه إلى بعض أقاربهم الذين يتواجدون بالمغرب متهما إياهم بسحر ابنته! حجة الأب وابنته وربما الأسرة كلها في هذا الاعتقاد وهذا الاتهام هو ما قرأته البنت عن علامات المس والسحر، وأيضا لأن تلك العائلة المتهمة في المغرب، سبق أن طلبت يد هذه الفتاة لابنهم من أجل الزواج فقوبلوا بالرفض! شاءت الأقدار أن تتحسن حالة البنت وأن تتزوج وأحضر وليمة عرسها. كنت حريصا على سؤال أبيها عن حالها وعن الأعراض التي كانت تقول إنها تعاني منها وكان جوابه أنها بخير ولله الحمد ولم يعد هناك أثر لتلك الأعراض! والنتيجة أنه ليس السحر أو الجن هو السبب في تأخر زواجها وإنما العكس، تأخرها في الزواج هو الذي جعلها تفكر في السحر وفي الجن! وما اكثر هذه الحالات.

التجربة الرابعة، هي قصة فتاة بين العشرين والثلاثين من عمرها. اتصل بي إمام صديق لم يمض على قدومه إلى هولندا آنذاك وقت طويل. اتصل بي هذا الصديق وسأل إن كنت أستطيع مساعدته في إخراج جني من امرأة بعدما تعذر عليه أن يقوم بذلك بمفرده. أخبرني أنه أمضى حوالي ثمان ساعات يقرأ عليها القرآن لكن الجني لم ينطق بعد ولم يخرج. والإمام يريد أن يكلم الفتاة ويستفسرها عن بعض الأمور لكنه لا يتكلم الهولندية كما أنها لا تتكلم العربية. قلت لصديقي الذي لم يكن على علم بموقفي من مسألة المس: وما حملك على هذا؟ كان عليك أن تدعو الله لها ثم ترشدها إلى زيارة الطبيب. ذهبت عند الفتاة فعلا وكان في استقبالي أبوها وأخوها وبعض أفراد عائلتها. بعد تبادل التحية وبعد اطلاعي من قبل أقارب الفتاة على أعراض مرضها التي ظنوا أنها أعراض المس، بدأت أسأل الفتاة عن ظروفها الخاصة في البيت وفي العمل. كانت الفتاة تعمل مدرسة وكانت إلى جانب ذلك تواصل دراستها. وكانت أيضا لها مشاكل كثيرة مع إدارة المدرسة ومع التلاميذ الذين لا يحسنون التعامل معها… وهي مسترسلة في الحديث عن معاناتها في العمل إلى جانب ضغط الاستمرار في الدراسة، لم تتمالك الفتاة نفسها وبدأت دموعها تنهمر! حاولت أن أنصحها بالبحث عن حل لمشاكلها وبأخذ قسط من الراحة. دعوت الله لها في الأخير وقلت: يبدو لي والله أعلم أن مشكلتك مع ظروف عملك وليست مع الجن الذي لا أرى لمسه أثرا عليك! اقتنعت الأسرة برأيي ثم طلبت مني الفتاة أن أعتذر بالنيابة عنها للإمام صديقي الذي اتصل بي والذي أمضى ثمان ساعات يقرأ القرآن بصدق ليخرج من جسدها جنيا تبين في الأخير أنه لم يدخل جسدها قط!

التجربة الخامسة والأخيرة: لسيدتين من أقاربي لن أطيل في تفاصيل تجربتهما. السيدة الأولى، كان الكل يعتقد أن بها مسا من الجن وكثيرا ما نطق هذا الجني على لسانها أثناء الرقية. ولا زلت أذكر أنني رقيتها مرة فنطق ذلك الذي قيل إنه جني على لسانها وأخبرني بأن اسمه عبد السلام! ولأن معاناة قريبتي هذه لم تتوقف رغم تكرار الرقية، فقد لجأت في الأخير إلى الطبيب، ليتبين بعد الفحوصات أن لديها مشكلا في ضغط الدم! بعد تناول الدواء ولله الحمد انقطع أثر “المس” وانقطع معه أثر (عمي عبد السلام الجني)! وكلما توقفت عن استعمال الدواء عاودتها نفس الاعراض. أما السيدة الثانية فكانت أيضا تعاني معاناة شديدة وكانت تصرع ويغمى عليها وتصيح وتهذي في بعض الأحيان. لم يترك أهلها بابا من أبواب الرقية وحتى الشعوذة وزيارة الاضرحة إلا طرقوه. كانوا جازمين بأنها مسكونة بالجن. بعد الفحوصات الطبية تبين أنها تعاني من بكتيريا في معدتها. أخذت الدواء فتحسن حالها ولله الحمد..

إن التجارب التي مررت بها من هذا القبيل بالعشرات كما ذكرت. وتبين في الأخير أنها كلها ليست مسّا.

فمن هذه التجارب ما هو اختلاق واصطناع فقط، حيث يتظاهر الإنسان بالإصابة بالمس ليجد مبررا لموقفه وتصرفاته التي قد لا تروق الآخرين، وقد تسبب لديهم ردات فعل غير مرغوب فيها كما في التجربة الأولى وكما في تجربة الفتاة التي ذكرت قصتها في أول مقالة. ففي هاتين الحالتين فالمس ادعاء واختلاق أريد منه تبرير الموقف وتضليل أطراف أخرى. وما أكثر هذه الحالات!

ومن هذه التجارب ما هو اختلاق كذلك، لكن ليس لتبرير موقف أو قرار وإنما لتبرير فشل كما في التجربة الثالثة. فالبنت وأسرتها لم يتقبّلوا فشلها في الحصول على زوج! البنت جميلة متدينة مثقفة (أو هكذا يرون على الأقل) … كيف يتزوج غيرها وتبقى هي عانسا؟ عدم قبول هذا الوضع جعلهم يفكرون في شيء يريح ضمائرهم ويزيل عنهم هذا القلق الغير مبرر في الحقيقة. الحل في نظرهم هو أن البنت مسحورة أو مسكونة! ليقنعوا أنفسهم أن تأخر بنهتم في الزواج ليس لعيب فيها وإنما لظلم وقع عليها يتحمل مسؤوليته غيرها. هكذا يفكر الكثيرون منا مع الأسف (لعب دور الضحية). ومثل هذا النوع كما في هذه التجربة والتجربتين اللتين ذكرتهما للتو، لا يريد أن يصدق أنه ليس به مس! لأنه يجد راحته ويجد ضالته في المس. وقد يكرهك عندما تقول له إنك لست مسكوناّ! وقد عشت تجربة بنفسي، فبعدما رقيت فتاة وأخبرتها أنها ليست مسكونة، غضبت مني وقالت: “أنت ماشي فقيه.. أنت ما كتعرف والو… جيبو لي فلان!” هؤلاء يبحثون في الغالب عن الراقين الذين يلبون رغباتهم ويقولون لهم ما يرتاحون له ويحبون سماعه! ( الله يجعل الغفلة بين البايع والشاري).

هذا النوع من المس المصطنع تعاني منه في الكثير من الأحيان النساء أكثر من الرجال بكثير. وانظروا من حولكم لتتأكدوا من صدق كلامي. والسبب في ذلك والله أعلم أن مجتمعاتنا الذكورية تضغط على المرأة بشكل كبير. مجتمعاتنا تثق في الرجل ولا تثق في المرأة وتغفر للرجل ولا تغفر للمرأة. العنوسة مشكل بالنسبة للمرأة لكنها ليست مشكلا بالنسبة للرجل حيث بإمكانه أن يتزوج مهما تقدم في السن. وقس على ذلك المشاكل الأسرية والطلاق وغيرها من الأمور التي تتضرر المرأة على إثرها بشكل أكبر بكثير من الرجل. وحينما لا تجد هذه المرأة آذانا صاغية ولا قلوبا مواسية، فقد تلجأ إلى هذا النوع من التظاهر بالمس الذي ما هو في الحقيقة إلا ردة فعل على ظلم المجتمع أو الأسرة وسوء الظروف.

ذلك لا يعني بالضرورة أن كل حالات ما يسمى بالمس اختلاق وادعاء. هناك تجارب يظن الكثيرون أنها مس من الجن، لكنها في الحقيقة أعراض لأمراض بدنية كداء السكري والاختلال في مستوى ضغط الدم هبوطا أو ارتفاعا وأمراض المعدة والدماغ والجهاز العصبي وغيرها من الأمراض البدنية التي يظن البعض لأول وهلة أنها مس، لكن يتبين بعد الفحص والمعاينة أنها ليست كذلك، كما في التجربتين الثانية والخامسة. وهنا لا بد أن أقول : إن الطب لا يمكن أن يعالج كل الحالات المرضية بالسرعة والكيفية التي نريد! فالطب يبقى مجهودا بشريا وهو في تطور باستمرار. لكن إذا عجز الطب عن علاج حالة من الحالات أو عن تشخيصها فليس ذلك بدليل على أنها حالة جن فعلا! قد يفشل هذا الطبيب وينجح الآخر في علاج المرض. وقد يفشل نفس الطبيب اليوم وينجح غدا وقد لا ينفع هذا الدواء وينفع دواء آخر. ولا ننسى كذلك أن الأخذ بالأسباب رهين بتوفيق الله تعالى. فالربط بين فشل الطب في علاج حالة ما أو القدرة على تشخيصها وإثبات ظاهرة المس، ربط يعوزه المنطق والدليل. وكثيرا ما نسمع أقارب المرضى يقولون: (درنا ليه السكانير وما لقاوا فيه والو..) يريدون القول بتعبير آخر: (إلى السكانير ما لقى فيه والو يعني راه فيه وللا فيها شي جن!) أي استنتاج هذا؟

الأخطر من هذا أن البعض يميز بين حالات المس وحالات المرض حتى قبل العرض على الطبيب! ففي الكثير من الأحيان يشتكي شخص من عرض ما، فيتدخل قريبه أو قريبته الذي يكون أميا في غالب الأحيان ويقول له: لا تذهب إلى الطبيب (هاد الشي ماشي ديال الطبيب، الطبيب لا يفهم في هذه الأمور)! وهذه قمة الوقاحة والتخلف. الطبيب الذي أمضى عشرات السنين لا يفهم في هذه الحالة، بينما تفهم فيها أنت أيها الأمي؟ الله يلعن اللي ما يحشم! أقول لهؤلاء: إذا كنتم أنتم تميزون بين ما يفهم فيه الطبيب وما لا يفهم فيه، فأنتم أعلم. لم لا تفتحون عيادات؟

من الحالات التي يظنها البعض حالات مس أيضا، ما يكون ناتجا عن أمراض نفسية وعقلية. هذا النوع من الأمراض يحتاج وقتا طويلا من أجل التشخيص وربما أموالا باهظة أيضا. ونحن نعلم ظروف الولوج إلى العلاج في بلداننا ونعلم كذلك ظروف الناس المادية وثقافتهم المجتمعية. حيث لا يزال الكثيرون من أفراد مجتمعاتنا ينكرون شيئا اسمه الطب النفسي! ومنهم من ينسب هذا الإنكار إلى الدين!!! ومنا آخرون لا يقبلون إطلاقا أن يوصفوا هم أنفسهم أو أحد أقربائهم بأنهم مرضى نفسانيون! وبحكم عملي إماما، تستغيث بي الكثير من المؤسسات الصحية الهولندية من أجل أن أقنع بعض الأفراد المسلمين بقبول العلاج النفسي وولوج المصحة لأنهم يرفضون ذلك. وكلما كلمت مريضا أو قريبه في الموضوع أجابك: “أنا ماشي أحمق باش نمشي عند طبيب نفسي”. ولسان حاله يقول: “اللهم يقولوا مسكون وللا مسحور وما يقولوش أحمق!” هكذا يفكر الكثيرون مع الأسف.

في ختام هذه المقالة أريد طرح بعض الأسئلة وأرجو من الذين لا زالوا يؤمنون بتلبس الجن جسد الإنسان الإجابة عليها:

أولا: قبل أن تجزموا بأن حالة من الحالات هي حالة مسّ، هل تقومون بتتبع جميع الاحتمالات الأخرى التي ذكرتها والتي يمكن أن تكون وراء الحالة وليس المسّ؟ لماذا تغلقون كل تلك الأبواب والاحتمالات الأخرى؟

ثانيا: لماذا لا يصيب هذا المس إلا من له خلفية حوله، إما قرأ عنه أو حضر حالة صرع أو سمع بالموضوع أو يفكر فيه..؟ المهم (المسّ عندو في الدماغ). أتحدى أن تأتوني بشخص لا خلفية له عن الموضوع أصيب بالمس!

ثالثا: لماذا يصيب هذا المس المسلمين فقط ولا يصيب غيرهم؟ فنحن المسلمين مؤمنون بالله وقريبون منه. وبهذا الإيمان بالله وبهذا القرب منه يفترض أن تكون أجسامنا أكثر حماية ومناعة من الجن والشياطين مقارنة بغيرنا. فلماذا يحدث العكس؟ نعم هناك من الغربيين من لا زال يؤمن بالمس، لكن نسبتهم لا تقارن أبدا بالنسبة الموجودة عندنا.

رابعا: لماذا يصيب هذا المس النساء أكثر من الرجال بنسبة كبيرة جدا؟ هل أجساد الرجال أكثر حصانة؟

خامسا: معظم النساء اللواتي يعانين من هذه الظاهرة إما عوانس تأخر بهن سن الزواج أو متزوجات يعانين مشاكل أسرية أو مطلقات. والكثير منهن من المنطويات على الذات اللواتي لا يتقاسمن همومهن وأحزانهن مع الآخرين (حدوديات). فكيف تفسرون ذلك؟ قد لا يكون الكل من هذه الفئة ولكنهن يشكلن الغالبية العظمى، فلماذا إذا؟

سادسا وأخيرا: هل يقبل عقلا ومنطقا أن يتلبس الجني بجسد الإنسان؟ هذا السؤال سأحاول الإجابة عنه من خلال المقالة القادمة إن شاء الله. فبعد مناقشة الأدلة القرآنية والأدلة الحديثية ثم الوقوف عند التجارب والوقائع التي يظن البعض أنها تثبت ظاهرة تلبس الجني بجسد الإنسان، لا بد من عرض المسألة كذلك على صريح العقل وقوة المنطق.

فإلى ذلكم الحين، استودعكم الله