أدب وفنون

الحاجة الحمداوية.. مسيرة زاخرة لفنانة قاومت الاستعمار بفن “العيطة”

نجحت في تأجيج الحيرة والاستفهام لدى المستعمر، غنت بقلب مكلوم أنهكه الاستبداد والظلم ثم أثبتت أن للفنان موقف وكلمة ولازالت أزقة الدار البيضاء حتى الآن تصدح بأغانيها الضاربة في العمق والتي رددتها ثلاثة أجيال بدون كلل.

هي الحاجة الحمداوية صرح شامخ في التراث الشعبي وأيقونة فن العيطة ، ولدت في ثلاثينات القرن الماضي وترعرعت في “درب كلوطي ” بمدينة البيضاء، ورثت حب ” العيطة ” عن والدها الذي زرع في وجدانها عشق هذا الفن، فقد كان دؤوب الاستماع لفرق الشيخات ويدعوهم لكافة المناسبات والاحتفالات. وسط هذا المناخ الفني رسمت الحمداوية مسارها الذي استهلته بأب الفنون فوقفت على خشبة المسرح مع فرقة بوشعيب البيضاوي هذا الأخير الذي اكتشف خامتها الصوتية الرفيعة التي أضحت موردا تعيش به في ظل الفقر والعوز الذي عايشته.

إن ما يميز مسار الراحلة هو ثورتها باللحن والكلمة في وجه التهجين والفساد الذي كان يسود الوطن إبان فترة الاستعمار، وهو ما كان يثير حفيظة المستعمر إذ تضاعف عدد المرات التي تمت دعوتها فيها للتحقيق والتساؤل عن المعاني والرسائل التي تحملها، ولعل أبرز الأغاني التي وضعت الحجاجية، وهو اسمها الحقيقي، أمام فوهة مدفع الاستعمار، أغنية ” أش جابك لينا حتى بليتينا الشيباني… ” حيث كانت تقصد “بن عرفة” الذي نصبه المستعمر “ملكا” للبلاد عندما نفى الملك محمد الخامس.

أخلصت الحمداوية للغناء في وقت كان يطبعه تضييق الخناق على المرأة، فلما أحست أن زواجها المبكر سيكبل مسيرتها الفنية النضالية وسيضع قيودا لطموحها طلبت الطلاق في سن 19 عاما وواصلت التشبث بشغف وهبها المزايا والمآسي في آن واحد، فهي مطاردة دائما من قبل سلطات الحماية وهو السبب الذي جعلها تهرب للاختباء في فرنسا فاشتغلت هناك في أحد المطاعم واستمرت في الغناء إلى حدود اقتيادها للتحقيق، اعتقلت على إثره لمدة يومين وتزامن وقت مغادرتها السجن مع عودة الراحل محمد الخامس من المنفى.

تألقت الحمداوية منذ ذلك الزمن في فن العيطة وظلت رمزا حيا من رموز هذا اللون الغنائي الذي يطرب الصغير والكبير وسمعت ألحانه داخل الوطن وخارجه ، فقد قامت بجولات فنية في مختلف دول العالم مما أكسبها شهرة واسعة فضلا عن سطوع نجمها في القصور والمسارح بأغانيها المختلفة (الكاس حلو) (هزو بينا العلام) (منين أنا ومنين نتا )… ولأن الفنان لابد أن يؤدي ضريبة شهرته فهي لم تستثنيها الإشاعات من قبل الجمهور كإشاعة “الموت” التي ظلت لصيقة بها حتى ضايقتها وضايقت محبيها.

استطاعت الراحلة قبل موتها سنة 2021 أن ترسم ملامح فن يميز المغرب دون سائر الدول غنت العديد من المواويل والأحداث فقد كانت صوت المغاربة آنذاك وأعربت عن أحزان وهموم خلفها المستعمر في نفوسهم، نادت بالتحرر وآمنت به وتركت وراءها ذاكرة حافلة لا يمكن للتاريخ أن يمحوها، فهي المناضلة والفنانة التي لم ينطفئ أبدا فنها مع موتها بل ظل حيا في أذن كل مغربي أحبها وأحب أغانيها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *