وجهة نظر

أي واقع للعلاقات بين الجيران !

في رحلة العمر الشاقة، وتحت وطأة ما يكتنف الواقع من أحداث ويخفيه القدر من أسرار ومفاجآت، يمضي الإنسان مراحل حياته وسط تقلبات الدهر، بين الشدة والفرج، اليأس والأمل، الحزن والفرح… حسب الظروف والمناسبات. يتغير نمط عيشه، تظهر عادات وتتوارى أخرى، ولا محيد له عن الاندماج في المجتمع والتأقلم مع المستجدات والتفاعل مع المتغيرات…

وفي هذا الصدد، يقودنا الحديث ولو باقتضاب شديد عما بات يطبع علاقاتنا من ضمور ونفور، خاصة بين الجيران، خلافا لما كان عليه الأمر قديما من توادد وتعاضد وتناغم وتراحم.

ذلك أنه في ظل التحولات العميقة، التي عرفتها دول العالم بعد الثورة التكنولوجية، وتسارع وتيرة الحياة وانشغال المواطنين بهمومهم اليومية، وسعيهم الدؤوب إلى محاولة تحقيق مصالحهم وقضاء مآربهم. وفي ضوء ما لحق قيم المجتمع وسلوك أفراده من تغييرات اجتماعية واقتصادية وثقافية، يصعب كبح زمامها والتحكم في صيرورتها، إثر انتشار وسائل الاتصال الحديثة، والهندسة المعمارية العصرية للأحياء والعمارات السكنية، ظهرت قيم أخرى تقوم على المنافع الذاتية والمادية. وهو ما أفقد المجتمع المغربي كغيره من المجتمعات العربية، كما هائلا من مقومات التآلف والتضامن، واتخذت العلاقات الإنسانية اتجاهات بعيدة عن قيمنا وتقاليدنا وعاداتنا، التي ظللنا نتشبث بها ونحافظ عليها بقوة. أوشك مفهوم “الجورة” على الانقراض، وصار مألوفا لدى عديد السكان العبث بأعراض الجيران والتشهير بمآسيهم، مما أدى بالكثيرين إلى لزوم بيوتهم والعيش في شبه عزلة اجتماعية دائمة.

وحتى نلامس موضوع الجار ونكشف عما خصه به الإسلام من قدسية ومكانة متميزة، دعونا نعود إلى ما ورد في الآية 36 من سورة النساء، حيث يقول سبحانه وتعالى: “واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين، والجار ذي القربى والجار بالجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم…”، ومن الوضوح بمكان أن هذه الآية الكريمة تتضمن أمورا ملزمة بعبادته سبحانه وتعالى، والنهي عن الشرك به، الإحسان إلى الوالدين والأقارب والفئات الاجتماعية الهشة والمستضعفة، ثم الجيران القريب منهم أو البعيد، مسلمين كانوا أم غير مسلمين. وللجار في القيم الإسلامية والآداب الشرعية، حقوق تكاد تشبه حقوق الأرحام على عدة مستويات، نذكر من بينها: التزاور، التناصح، الامتناع عن الإيذاء والصبر عليه، تقديم العون والمؤازرة عند الشدائد والأحزان، المشاركة في المباهج والمسرات… وقد قال سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام: “مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”، باعتبار الجار هو الأقرب إلى جاره من أقاربه حيث يراه يوميا، والأكثر اطلاعا على مشاغله وقضاياه متى خلصت النوايا وتعمقت جذور الثقة، مما يقتضي معاملته بلين ووقار والوقوف بجانبه في السراء والضراء، وعدم تعريضه للإساءة أو الاعتداء. فأين نحن اليوم من علاقات الصداقة والقرابة وحسن الجوار بمجتمعنا؟

للأسف الشديد، لم يعد الجار اليوم يحظى بما أوصى به ديننا الحنيف من تقدير واحترام، وبدا إخفاقنا جليا في ترسيخ ورعاية المبادئ، التي تقوي وشائج الألفة والتعاضد والمودة والوئام بين الناس، وتضبط العلاقات الإنسانية، إذ صرنا على عكس ذلك لا نعترف بواجباتنا حيال بعضنا البعض، كثرت الإساءات والعداوات، الغدر والخيانة، الحسد والبغض والكراهية… انعدمت الثقة وتعاظم الخوف من الاختلاط بالآخر خوفا من إفشاء الأسرار، تراجعت مكارم الأخلاق والوفاء وروابط المودة والأخوة والصداقة، وبتنا نتجاهل بوعي أو بدونه ما لحسن الجوار من آثار إيجابية على المجتمع في تماسكه وتلاحمه والارتقاء بمستوى أفراده.

ففي ما مضى كان الجار عنصر سكينة واستقرار وليس مصدر قلق وإزعاج، وكانت المرأة تشكل قطب الرحى في تنمية علاقات الجيرة، فهي أم لكافة أبناء الدرب وكذلك كان الرجل أي رجل أبا لهم، من حيث الرضاعة أو حسن العناية والاهتمام بمشاكلهم، والبيوت مفتوحة على الدوام في وجوههم حتى أثناء الوجبات الغذائية، وخلال الأعياد والأفراح والمآتم والأتراح. وكان الكبار يساعدون الصغار في مراجعة الدروس وحل الفروض المنزلية، دون الحاجة إلى حصص الدعم والساعات الإضافية المؤدى عنها. وكانت الأسر تجتمع في بيت أحد الجيران لمتابعة السهرات التلفزيونية الأسبوعية، أو مسلسلات رمضان والتظاهرات الرياضية الكبرى… لدرجة يخال معها المرء أنهم عائلة واحدة. إذ كانت العلاقات بين الجيران أشد ترابطا وأقوى تماسكا. فماذا تبقى اليوم من ذلك الزمن الجميل، سوى التباغض والتحاسد والتباعد والقيل والقال ومخافر الشرطة عند الخصومات المتواترة في الأحياء الهامشية والشعبية، أو ذلك المدخل الرئيسي وواجب “السانديك” في العمارات بالأحياء السكنية الحديثة؟ والأدهى من ذلك أن الأمر لم يعد يقتصر فقط على علاقاتنا بالجيران، بل امتدت عدوى التفسخ والتهتك إلى روابط الصداقة والأسرة والعائلة، مما أفضى بالمجتمع إلى التفكك وتدهور أوضاعه…

علينا بإعادة النظر في سلوكنا وعلاقتنا بجيراننا، وإيلائهما ما يستحقانه من أهمية بالغة، لأن رابطة الجوار تلعب دورا مركزيا في نهضة المجتمع وتطوره، وتشكل إطارا لعلاقة إنسانية متميزة، لما لها من تأثير عميق في بناء الأسرة. وبالنظر إلى كون الجيران، هم المحيط الاجتماعي المصغر للمجتمع، فإن المجتمع لا يمكن أن يكون قويا وسعيدا ما لم نسهر جميعا كلا من موقعه، على إشاعة روح التعاون والإيثار بيننا، تربية أطفالنا في البيت والمدرسة على قيم المواطنة، وغرس قيم الأخلاق والقناعة والتسامح ونبذ العنف… في أذهانهم منذ نعومة أظافرهم.