منتدى العمق

انتخابات “ديمقراطية” في زمن “إقطاعي”

“الكلْمة”، “رمي العار”، “عهد الله”، “الحلف على المصحف”، … مصطلحات وتصرفات وغيرها الكثير مما يُتداول في قاموس الانتخابات المغربية، حتى يخيل للمرء أنه أمام حملة نفير عام لقتال عدو متربص، أو خطب عصماء يلقيها قائد فذ على رؤوس أتباعه لحثهم على الصمود أمام حصار خانق. بل وينتقل الأمر في الكثير من الأحيان إلى النهل من قاموس ديني موغل في الفردانية حين يتوسل “الفاعل السياسي” (إن جاز التعبير) بعلاقات الأبوة والأمومة والأخوة وما يتبعها من “سخط” و”رضى” وقطع رحم أو وصله.

هذا المنطق نفسه نجده في ترشيح الأب “السياسي” لابنه أو ابنته أو أحد أقاربه الذين لا تربطهم صلة بالعمل الحزبي إلا أن يكونوا ممن قال “هذا أبي!”، وخاصة عندما يحول مانع قانوني أو صحي دون مشاركة الأب نفسه في العملية الانتخابية، فيُغلَّف الأمر بشعارات من قبيل التشبيب والتأنيث وفسح المجال أمام الوجوه الجديدة وغيرها.

وتزداد اقتناعا بأنك تعيش في هذا “الزمن الإقطاعي” حين ترى الولائم الدّسام تُعدّ والأموال توزع على الرؤوس، و”المرشح المبجل” يترجل عن خيله ليلاقي النساء والرجال والأطفال في الأسواق والدروب، مسلِّما وملوحا بيديه تارة ومبتسما أخرى، عليه أردية تشبه عامة القوم ليقول لهم أني منكم وأنتم مني، ومجال النفوذ – بمدلوليْه الجغرافي الطبيعي والبشري – يقسّم، وألوية شعارات “الحزب” – الذي لا يربطه في الغالب بالمرشح سوى الشعار والتزكية – تُعقد على ناصية الخيل بأشكالها الحديثة التي تجوب هذا المجال، مخلفة وراءها صكوكا تلوث نظر الناظر قبل بيئته، لكنها في ذات الوقت تخبر المنافس بأن غريمه قد مرَّ من هنا، وأن الحرث فوق الحرث لا يجدي.

أو ليس كل هذا منبئ بأننا نعيش في زمن غير الزمن “الديمقراطي” – الذي طال الحلم بنا للانتقال إليه ذات زمن – الذي تعد فيه الانتخابات محطة من محطات المحاسبة الشعبية للمرشحين والأحزاب والبرامج والتصورات، تتقارع فيها البرامج المستقبلية الواقعية وتقدم فيها حصيلة التدبير السابق، ويعبر المواطن بكل حرية عن رأيه وتطلعاته. كما أن المحطة ذاتها – حسب العرف الديمقراطي – تشكل حلقة من حلقات بناء المؤسسات التي تستمد شرعيتها من الناخب “المواطن” الذي يملك صوته ولا يبيع نفسه في سوق النخاسة الانتخابية مقابل الفتات، مدركا أن لصوته الانتخابي القدرة على التغيير وقلب موازين القوى لصالح هذا المرشح / البرنامج / الحزب أو ذاك.

“زواج المتعة” هذا بين الإقطاع والديمقراطية في بلدنا خلال هذه المحطات الانتخابية الخاطفة، ينبهنا إلى أننا أبعد ما نكون عن الممارسة الديمقراطية في بعدها النبيل، بما هي فن لتدبير الاختلاف ومؤسسات لخدمة المواطن وتحقيق آماله في التقدم والحرية والعدالة الاجتماعية، وقبل ذلك وبعده ساهرة على احترام كرامته وعدم امتهان آدميته. كما أن الممارسات التي ذكرنا بعضا منها سلفا، ليست سوى انعكاس – من وجهة نظرنا – للواقع الثقافي والسوسيو-اقتصادي لمجتمع انفتح على الفكر ومظاهر التحديث الغربيين، دون أن يتمكن من مواكبة وتوفير الشروط اللازمة لتطبيق هذا الجهد الفكري البشري في واقع الناس، وخاصة في الجانب التعليمي / العلمي / الثقافي الذي يؤهل العنصر البشري، ليس فقط لنبذ تلك الممارسات المسيئة للعملية الديمقراطية، بل وينخرط بفعالية في النهوض بالمجتمع وتطوير مؤسساته بما يخدمه في المسير والمصير.

* محمد حمداني / مستشار في التوجيه التربوي / باحث أكاديمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *