وجهة نظر

هل الأولوية للديمقراطية أم للتنمية؟

هل الديمقراطية هي التي تقود إلى تحقيق التنمية باعتبارها الغاية التي ينشدها كل مجتمع وكل نظام سياسي؟ أم على العكس من ذلك، يعد تحقيق التنمية أمرا حتميا لانتقال المواطن(ة) إلى مرحلة التفكير في الديمقراطية؟

بداية، مسألة الأولوية، هل هي للديمقراطية أم للتنمية؟ لم تحسم بعد في الأوساط الفكرية والأكاديمية. لكن، واقع الشعوب خاصة في الدول النامية ونحن منها لا يحتمل انتظار هذا الحسم. لذلك، سنلامس فيما يأتي كل طرح على حدة، مع التركيز على جوهر كل طرح. ونمر إلى حالة المغرب ونحن نتساءل: وماذا عنا نحن، لتصحيح أخطاء الماضي البعيد والقريب ولإحداث التغيير الذي ننشده؟

المنظور الأول: من دون التنمية لا يمكن تحقيق الديمقراطية

ينطلق هذا المنظور الذي تبنته نظريات التحديث والتنمية السياسية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، من فرضية مفادها أن ” التنمية متغير مستقل، أما الديمقراطية فهي متغير تابع “. والمقصود، أن الديمقراطية باعتبارها هدفا نهائيا وحتميا للتنمية السياسية، لا يمكن أن تتحقق إلا إذا توفرت مجموعة من الشروط الأولية، أهمها: تحقيق معدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي.، تحول البنية الطبقية.، ظهور طبقة بورجوازية.، التوسع العمراني.، وجود قيم ثقافية ودينية تدفع باتجاه الديمقراطية.

المنظور الثاني: الديمقراطية أولا والتنمية ثانيا

ظهرت هذه المقاربة في سياق يتسم بعولمة القيم الديمقراطية ومبادئ اقتصاد السوق، حيث شهد العالم موجة جديدة من الانتقالات الديمقراطية، إضافة إلى انتشار اعتماد سياسات تقوم على مفاهيم ليبرالية بعد نهاية الحرب الباردة. وتقوم هذه المقاربة على أن الديمقراطية هي النظام الأمثل لتحقيق التنمية الاقتصادية. وبالتالي، ترفض افتراضات مدرسة التحديث من خلال تأكيدها على ضرورة اعتبار الديمقراطية شرطا أوليا للتنمية وليس العكس. أي، ” الديمقراطية متغير مستقل، والتنمية متغير تابع”.

ويوضحون كيف أن الديمقراطية أفضل من غيرها من النظم لتحقيق التنمية الاقتصادية، كالتالي: فالانتخابات المنتظمة تجعل الأنظمة تستجيب بشكل دائم لمطالب المواطنين والجماعات الاجتماعية، والمساءلة، والشفافية، وتدفق المعلومات، (…) هي وغيرها من العناصر، تمكن الديمقراطية من التفوق على غيرها من النظم في أغلب المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية.

ومما يستدلون به، دراسة لباحثين مختصين في مجال التنمية بعنوان: ” فائدة الديمقراطية، كيف تعمل الديمقراطيات على ترقية الازدهار والسلم “. وقد تضمنت هذه الدراسة مراجعة ل 40 عاما من البينات الاحصائية، حيث تم التأكيد على أن المستويات المحققة من قبل الدول الديمقراطية الفقيرة فيما يتعلق بالمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية أفضل بكثير من تلك المحققة في الدول غير الديمقراطية الفقيرة.

وفي دراسة على عينة شملت 90 دولة بين عامي 1960 و 1989 أشار الباحث ” داني رودريك” (Dani Rodéric) إلى أنه يمكن استنتاج أربعة فوائد للديمقراطية مقارنة بالأنظمة التسلطية، تتمثل في: ضعف تقلبات النمو على المدى البعيد، واستقرار الأداء الاقتصادي على المديين القريب والمتوسط، والسيطرة بشكل جيد على الاضطرابات الخارجية، وارتفاع مستوى الأجور.

إن هذا المنظور الثاني الذي يسود منذ نهاية الثمانينيات من القرن العشرين إلى يومنا هذا، دعمته أطروحة الحكم الراشد (الديمقراطي) التي تتبناها مؤسسات ووكالات التنمية الدولية التي اتجهت إلى التركيز أكثر على المعطى الديمقراطي، كمقاربة لتحقيق التنمية البشرية ومكافحة الفقر تحت تأثير أطروحة ” أمارتيا سن” (Amartya sen) والتي تشكل منظورا ثالثا.

المنظور الثالث: في أطروحة ” أمارتيا سن”

لم يكتف عالم الاقتصاد ” أمارتيا سن ” وهو حائز على جائزة نوبل للعلوم الاقتصادية سنة 1998 ، في أطروحته بطرح مسألة الأولوية، بل اعتبر أن التنمية في جوهرها حرية (التنمية حرية). وبالتالي، ضرورة الاهتمام بمسألة الحريات والديمقراطية، ليس فقط باعتبارها وسيلة لتحقيق التنمية، ولكن لأنها ذات أهمية جوهرية في مفهوم الحرية الإنسانية بشكل عام.

تطرح هذه الأطروحة رؤية للتنمية تتجاوز التركيز على الدخل والإنتاج ( الرؤية الاقتصادية) إلى جعل الإنسان محورا للعملية التنموية. وذلك من خلال الاهتمام بالجانب المعنوي للفرد وأهمية الديمقراطية. وتقوم هذه الأطروحة على مفهوم القدرة الذي يشير إلى مساحة الإمكانيات الحقيقية التي يمتلكها الفرد. ثم أن التركيز على معطى الحرية باعتبارها محورا مركزيا في مقاربة القدرات، دفع ” سن ” إلى الاهتمام بموضوع الحريات الحقيقية. ففي كتابه ” التنمية حرية “، عرف ” سن” التنمية بأنها: ” عملية توسعة مجال الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الأفراد “. وعلى هذا لأساس يمكن تحديد دورين للحرية في عملية التنمية:

الدور الأول: يسميه “سن” الدور التأسيسي أو الجوهري للحرية، وهذا يرتبط بالحرية بوصفها غاية للتنمية. وهو ما يتضمن الحريات الأساسية (الجوهرية)، أي مجموع القدرات الأولية، مثل القدرات البيولوجية، والتعليم، والصحة (…) متطلبات العيش الكريم.

أما الدور الثاني: فيتعلق بالدور الوسيلي للحرية (rôle instrumental) أو الحرية باعتبارها وسيلة للتنمية. وهو ما يمثل الطريقة التي من خلالها تسهم مختلف الحقوق والإمكانيات والمكتسبات في توسعة مجال الحريات الإنسانية بوجه عام، ومن شأنها كذلك ترقية التنمية.

في هذا الإطار، وضع ” سن” خمسة أنماط من الحريات الوسيلية: 1- الحريات السياسية.2 – التسهيلات الاقتصادية.3- الفرص الاجتماعية.4- ضمانات الشفافية.5- التأمين الحمائي. وتدعم هذه الأنماط بعضها البعض بصفة تكاملية.

إن مقاربة ” سن” تجاوزت تحليل المنظمات المالية والدولية من خلال تبنيه لرؤية فلسفية وسياسية للتنمية. فالحرية هي غاية التنمية. ويربط “سن” بين التنمية وصنع القرار الذي يشارك فيه كل فرد من خلال اختياره بحرية لما يرغب في إنجازه ضمن مجموعة الفرص المتاحة في المجتمع. وبالتالي، فنجاح التنمية هو قضية سياسية بقدر ما هو قضية اقتصادية، فالتقليص المستدام للفقر يتطلب التأسيس لحكم ديمقراطي مرسخ في كل مستويات المجتمع.

والآن، ماذا عنا نحن؟ فيما يفيدنا ما تقدم لتصحيح أخطاء الماضي البعيد والقريب ولتحقيق إقلاع التنمية التي ننشدها جميعا؟

إن واقع الحال في المغرب يفرض أن لا نتيه في البحث في جدلية الديمقراطية والتنمية. والقصد أن لا نسقط في فخ ” من يسبق، البيضة أم الدجاجة ” لاعتبارات موضوعية منها: أننا هدرنا، ونهدر، الكثير من زمن التنمية، وتنزيل الجهوية المتقدمة المتعثر خير دليل. ولذلك، فالمأمول، أن نستفيد من الانتقادات الموجهة إلى الطرحين الأول والثاني بصفة خاصة، وبالتالي ننتقل إلى مرحلة السرعة القصوى لإحداث التغيير الذي ينشده المغاربة. وهذا يتطلب منا توفر إرادة قوية لدى الفاعلين السياسيين، ومفهوما جديدا للسلطة، وإحياء للثقافة، وتقوية دور الإعلام والمجتمع المدني، دون أن ننسى الدور المنتظر من القطاع الخاص وخاصة من الأبناك.
لقد تعرض المنظور الأول ” التنمية متغير مستقل، أما الديمقراطية فهي متغير تابع” إلى مجموعة من الانتقادات نجمع مضمونها فيما يلي:

– إن تحقيق النمو الاقتصادي الكافي لا يقود بالضرورة إلى الديمقراطية، وذلك على عكس ما ذهبت إليه نظريات التحديث. ويوضح ذلك مجموعة من الباحثين المختصين في علوم الاقتصاد والسياسة متسائلين، كيف نفسر عدم انتقال العديد من الدول التسلطية إلى الديمقراطية، بالرغم من تحقيقها لمعدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي، ومنها الصين ودول آسيوية أخرى ودول أوروبية ومن أمريكا اللاتينية وعربية. وهو ما يبرز حسب هؤلاء الباحثين قدرة النخب السياسية في تلك الدول على استثمار فوائد النمو الاقتصادي لصالح بقائها في الحكم.

– الانتقالات الديمقراطية التي حدثت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، شملت العديد من الدول التي لم تحقق معدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي، زيادة على تدني مستويات التنمية البشرية في معظمها. وهذا ما وضع نظريات التحديث والتنمية السياسية في حيرة من زاوية التحليل، بسبب عدم القدرة على تفسير أسباب حدوث موجة الانتقال في الدول المعنية.

ولم تسلم أطروحة ” الديمقراطية أولا والتنمية ثانيا ” من الانتقادات كذلك، لأن المحك الحقيقي لكل نظرية هو الواقع المعاش. وفي هذا الصدد، فمن أهم هذه الانتقادات:

– صحيح أن النظام الديمقراطي يضمن الحريات العامة، ويتيح للمواطنين حق اختيار ممثليهم عبر آلية الانتخابات، لكن من الصعب تحييد آليات الديمقراطية عن السوق، أي تحييدها عن النخب المسيطرة على قطاع الأعمال، ومؤسسات صناعة الرأي وتشابكاتها المصلحية مع النخب السياسية، لخدمة مصالحها والتأثير في عملية صنع القرار.

– وفي طننا العربي، فحول السؤال: هل الديمقراطية هي الحل للعجز التنموي؟ يشير المفكر العربي، إيليا حريق، في دراسته ” الديمقراطية وتحديات الحداثة بين الشرق والغرب ” إلى أنه ” علينا أن نفهم…كعرب، أن الديمقراطية جزء من المشكلة، وليست الحل فقط، فمن ابتغاها فلذاتها، وليس لشيء آخر، كالنمو الاقتصادي، أو من أجل تحرير الوطن أو القضاء على طبقة أو نزعة ما. ليس هناك من دليل بعد في أبحاثنا الاجتماعية يشير إلى أن الديمقراطية هي الحل الناجع لمثل تلك المشاكل “. ويضيف، ” فالديمقراطية ليست الحل. الديمقراطية تقدم لنا الإمكانية لإيجاد حل، وذلك بخلاف الأنظمة السلطوية “.

وبرأينا، ينبغي النظر إلى الديمقراطية باعتبارها آلية لإدارة الاختلاف السياسي والتمكن من السلطة لتدبير الشأن العام، بشكل حضاري، وذلك حتى لا نبيع الأوهام للمواطنين والمواطنات. نعم، الديمقراطية لابد منها لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي وجلب الاستثمارات. والديمقراطية تربية وسلوك في الشارع والبيت والمدرسة والإدارة. لكن، تحقيق التقدم الاقتصادي يتطلب توفر دراسات علمية وسياسات عمومية فعالة وقوانين واضحة. والأكثر من ذلك، يتطلب وجود عقليات وكفاءات، وروح وطنية، وانضباط، لتنزيل كل هذه الآليات على أرض الواقع. وبالتالي، ترجمتها إلى نتائج ملموسة لدى المواطنين والمواطنات، من خلال الرفع من دخولهم وأجورهم وتطبيبهم وتعليم أبنائهم (….).

نعتقد أن طرح العالم الاقتصادي “أمارتيا سن” الذي يقر بأن ” التنمية حرية ” يستحق اهتماما كبيرا من لدن ذوي القرار السياسي. ولذلك، يبدو أننا في المغرب يتعين أن ننهج نهجا مركبا لتحقيق التغيير المنشود. والقصد، أن نعمل على مجموعة من المستويات:

توسيع رقعة الحريات العامة، وحماية حقوق الإنسان في التعبير والرأي والتفكير، والرفع من سقف حرية الإعلام. ومن دروس كورونا، أن الحاجة ماسة إلى الدولة الاجتماعية والحامية لحقوق المستضعفين في الصحة والتعليم والشغل والسكن.

وعلى المستوى الاقتصادي، محاربة الفساد بكل بما أوتيت الدولة من وسائل قانونية.

ونعتقد أننا لا نجانب الصواب بالقول، إن المعضلة في وطننا تتمثل في: غياب العدالة الاجتماعية والمجالية والضريبية.

إننا نتوفر اليوم على آليات حقيقية لإثبات دولة القانون والتقدم: دستور 2011 باعتباره أسمى قانون في البلاد، والقوانين التنظيمية للجماعات الترابية، وقانون الصفقات العمومية وباقي القوانين، ونموذج تنموي جديد شاركت في مقاربته الأحزاب السياسية والذي مهما يكن موقف البعض منه، فهو يشكل أرضية أو لنقل ” دراسة إطار” للعمل فورا، ويبقى على الأحزاب السياسية اختيار السياسات العمومية التي تمكن من تحقيق التنمية محليا وجهويا ووطنيا.

وفي الأخير، دعنا نختم مع الباحث رضوان بروسي بما يلي: يمكن القول إن التنمية هي قرار دولة إذا تحلت النخب القائمة على إدارتها بالإرادة السياسية، بغض النظر عن نوعية النظام، بل المهم أن يعمل هذا النظام على إرساء قيم العلم والتعلم، العمل والجهد، العدل وسيادة القانون، انضباط واستقرار المؤسسات. وهذا يتطلب توفر رؤية استراتيجية لدى النخب تتضمن مشروع مجتمع ومفهومية سياسية تأخذ بعين الاعتبار خصوصية البلد ومساره التاريخي، بعيدا عن كل تأثير خارجي.

* أحمد بلمختار منيرة/ إعلامي وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *