منتدى العمق

النظرية الإقليمية.. هذا تاريخها

كنت قد تكلمت في المقال السابق “أفغانستان و النظرية الإقليمية” الذي نشرته جريدة “العمق المغربي” عن النظرية الإقليمية، ثم عرجت على ذكر تاريخها باختصار شديد، و ذلك في الحدود التي تكفي لإظهار المعنى المراد من وراء ذكري لها في ذلك المقال، و أنا الآن أعود لأتكلم عن تاريخها بشيء من التوسع و الاسترسال، حتى يحيط القاريء الكريم بجوانب الموضوع أكثر.

كنت، و لازلت، أومن بأن العقيدة الأدبية، هي في الأصل تصدر عن عقيدة دينية وعقيدة سياسية، فلا يمكن فصل المذهب الأدبي عن المذهب السياسي والمذهب الديني، والعكس بالعكس، و ذلك أن كل كلام، شعرا كان او نثرا، إلا وفيه شيء من نفس صاحبه، وكذلك كل موقف سياسي فإنه يصدر عن توجه عقائدي، فالطرح السياسي والكلام الأدبي هما في النهاية فكر، و كل فكر إانما يقوم على معتقد ولغة، وبهذا تسقط كل الدعاوي القائمة على الأدب للأدب أو فصل الدين عن السياسة، وغيرهما من الجمل الرنانة التي تلوكها الألسن و تتلمضها الأفواه، للتنبيه فأنا لا علاقة لي بما يسمى “الإسلام السياسي”، بل وإني أخالفه، ولا علاقة أيضا بأي حزب سياسي، و إنما أصدر عن طبع علمي، وما يوصلني إليه البحث.

أما تاريخ النظرية الإقليمة، فقد بدأت سياسيا مع من نظروا لما يسمى ” الجامعة المصرية” وبدعم من الإنجليز، وإتخذت هذه النظرية من الدعوة إلى العامية والإعراض عن العربية منطلقا لها، فحمل هم الدعوة إليها ” لطفي السيد” رئيس صحيفة ” الجريدة”، التابعة لحزب الأمة المنحاز آنذاك للاستعمار الإنجليزي، و ذلك في مقالات كتبها سنة 1912 دعا فيها الى التقريب بين العربية و العامية، و إدخال هاته في تلك، و هذا مما يساعد في تفكك الآواصر و الروابط التي تجمع بين ساكني هذه البقعة الأرضية الممتدة من المحيط إلى ما بعد الخليج، وقد كتب الاستاذ ” مصطفى صادق الرافعي” في مجلة “البيان” فصلا يرد فيه دعاوى لطفي السيد، وأنت تعرف أنه لو مددنا هذه الدعوة على استقامتها، فاإن ذلك يستلزم، أن يقوم كل قطر عربي بلهجته و عاميته.

ثم عاد أحمد ضيف من البعثة الدراسية، و قد كان من الأوائل الذين تم إرسالهم، وقد ظهرت دعوته هاته في كتابه “مقدمة لدراسة بلاغة الأدب”، والذي طبع في سنة 1921، حيث قال في مقدمته: “أما كبار العلماء، و أساتذة الأدب، فلا يجدون في هذه الآراء ما يشفي غلته، أو يسكن من حب الاستطلاع لديهم، فعليهم أن يرجعوا إلى كتب الفرنجة، و فيها كل تفصيل لما جملناه و أوجزناه” ، فانظر قوله ” فيها كل تفصيل لما جملناه و أوجزناه”، و هذا يعني أن على كبار العلماء، و الأساتذة الأدباء، أن يرجعوا إلى كتب الفرنجة، كما قال، فإن فيها تفصيل ما أوجزه وجمله، و من هذا الذي أوجزه و جمله، قوله: ”إنها ليست آداب أمة واحدة، و ليست لها صفة واحدة ، بل هي آداب أمم مختلفة المذاهب و الأجناس والبيئات”، ثم خلف من بعده أمين الخولي، فحاول التقعيد لهذه النظرية، وإقامة البرهان عليها، و قد عرض لهما بالرد و النقد ” ساطع الحصري” في كتابه: “الإقليمية: جذورها وبذورها”، مبينا خطورة هذه النظرية و أبعادها.

ثم تولت الأيام، و مرت السنون، لتظهر لنا هذه النظرية في لباسها الجديد، حيث كتب “طه حسين” و”سلامة موسى” و”حسين هيكل” سنة 1933 مقالات يدعون فيها إلى الفرعونية، و أن على كل قطر عربي أن يعود الى تاريخه القديم، وذلك بإحياء الفرعونية في مصر، و الفينيقية في لبنان، و البابلية في العراق، و قد تزامن كل هذا مع ” الظهير البربري في المغرب”، فتأمل، وقد وقف في وجه هذه الدعوة مجموعة من حملة الأقلام، ورواد الإصلاح، نذكر منهم عبد الرحمن عزام ومحب الدين الخطيب، و زكي مبارك، و غيرهم مما لا يسع المجال لذكر أسمائهم، و قد نتج عن هذا معارك فكرية كثيرة حملت أسماء عديدة، منها معركة ” الوحدة و التجزئة” و”مصر فرعونية أم عربية”.

و مرت عاصفة الفرعونية والبابلية والفينيقية ووو…، وعادت مسألة العربية والعامية لتظهر مرة أخرى، لكن هذه المرة، لم تطرح من باب التقريب بين اللغة العربية و لهجاتها العامية، وإنما طرحت من باب الغض من لغة عدنان و الحط من لسان قحطان، و لكن الخطير هذه المرة أن الذي حمل هم هذه الدعوة هي مجمعات اللغة العربية، و هذا مما يدعو إلى العجب، وإلى وضع ألف علامة استفهام، فقد نشر مجمع اللغة العربية سنة 1947 تقريرا تحت عنوان: “موقف اللغة العامية من اللغة العربية الفصحى”، ويكفي ما في العنوان من مغالطة ومن إهانة للفصحى بتحكيمها إلى العامية، لبيان من يقف خلف الستر المسدلة، خاصة إذا صدر هذا عن مجمع للغة العربية، و قد كان للسيد ” محب الدين الخطيب” موقف جريئ في الدفع عن العربية الفصحى ما رموه بها في هذا البحث، من عقم وعدم القدرة على التطور.
ثم بعد عشر سنوات تتقريبا، يعود المجمع اللغوي العربي بدمشق ليحلة ثانية هم هذه الدعوة ، حيث دعى إليها في مؤتمره الأول سنة 1656، و قد كشف “محمد محمد حسين” ساعتها ما ينطوي داخل مخرجات هذا المؤتمر، و عن خلفيات التغريب التي تقع من ورائه، مظهرا في ذلك عن قوة في العارضة وصلابة في الحجج، وكما قلت لك في ما سبق من هذا المقال، فإن هناك إرتباطا وطيدا بين الدعوة إلى العامية، و بين النظرية الإقليمية، فليست الدعوة إلى العامية إلا وجها من أوجه نفاق النظرية الإقليمية

و قد استمرت النظرية الإقليمية، في ظهورها على شكل الدعوة إلى العامية، إلى يوم الناس هذا، ففي سنة 2011 أعيد فتح النقاش حولها في المغرب، ليخرج الأستاذ ” عبد الله العروي” من عزلته رافضا لها و منكرا على أصحابها، و مبينا وجه السخف و الغلط فيها، فخفت نجمها ليسطع مرة أخرى سنة 2018، و قد أثار ذلك ضجت كبيرة، و قد كنت ممن حمل القلم ساعتها وكتبت إثنا عشر مقالا، سميتها “العربية الشريفة والعامية”، و نشرتها في منتدى أنصار السنة.

و قد كان هذا شيء من تاريخ النظرية الإقليمية، ومن قرأ هذا المقال، و ربط بينه و بين سابقه، كشف له الغرض من وراء هذه النظرية، و تجلت لعينه أهدافها واضحة لا تشتبه، و ظهر له كيف يتم استغلالها سياسيا لتقسيم الدول و تفتيتها إلى دويلات و أقاليم صغيرة تتقطع بها أسباب القوة، وتتفرق عنها سبل النجاح.

هذا، و لم يبق لي، إلا أن أنبهك إلى أمر، و هو أنني تجنبت الأقوال و الاقتباسات، و اكتفيت فقط بنقل كلام أحمد ضيف، وذلك لسببين، فأما أحدهما فلأن كلامه يعتبر منعرجا خطيرا في هذه الدعوة، وأما الثاني: فلأنني عرجت على ذكره في المقال الأول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *