وجهة نظر

لماذا نحتاج الآن إلى إعلام أكثر حرية؟

يبدو أن مجموعة من الشروط الموضوعية، الداخلية والخارجية، قد اجتمعت وهي تفرض علينا الانتقال إلى مرحلة متقدمة جدا إن نحن نريد فعلا رفع التحديات المطروحة علينا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وحتى سياسيا، خاصة بعد تجاوز محطة الانتخابات التشريعية والجهوية والجماعية. وبما أن التاريخ دروس وعبر وليس أحداثا ووقائع نتذكرها كلما حل تاريخها، فإن القراءة المتمعنة في تجارب الدول المتقدمة تؤكد أنه لا تقدم ولا ديمقراطية في غياب حرية الإعلام. وبناء على هذه الحقيقة، نتساءل معا: لماذا نحتاج الآن في المغرب إلى إعلام أكثر حرية؟ ما الذي يمكن للإعلام الحر أن يقدمه لبلدنا لنحقق الانتقال/ التقدم المنشود من طرف كل المغاربة؟

نعتقد أن الثامن من شتنبر 2021 يؤرخ لبداية مرحلة جديدة في تاريخ المغرب المعاصر، أو هكذا ينبغي أن يكون. ونراهن على أن توسيع رقعة حرية الإعلام في بلدنا، سيمكن الإعلام المهني الالكتروني والورقي والرقمي والسمعي والبصري من القيام بأدوار هامة من شأنها أن تسهم بقدر وافر في تحقيق التقدم الملموس في مغربنا.

وإذا كان هذا الموضوع يحتاج إلى جهود الباحثين والحقوقيين والإعلاميين، فرادى وجماعات وجامعات ومعاهد للدراسات، فإننا نطمح إلى ملامسة ولو جزء ضئيل منه مستشيرين خبرات إعلامية عربية ودولية.

بداية، ما الذي تستطيع وسائل الإعلام الحر القيام به؟

أعاد الأستاذ الدكتور زكي الجابر الخبير الإعلامي العربي الانتباه إلى بعض مما جاء في الكتاب الرائد عن وسائل الإعلام والتنمية القومية الذي أوضح فيه صاحبه ” ولبر شرام ” ما تستطيع وسائل الإعلام الجماهيري القيام به. فحسب هذا المرجع الأساسي بالنسبة لخبراء الاتصال والإعلام، فإن وسائل الإعلام تقوم بوظيفة مراقبة المحيط، إذ أصبحت هي المصادر الرئيسية للأخبار عما يجري في العالم الذي لا يقع تحت حواس المرء. كما أن خبراتنا المتراكمة تشير إلى أننا نتعلم عن عمد أو غير عمد من خلال وسائل الإعلام.

ويضيف ” شرام” إلى تلك الوظيفة، قيام وسائل الإعلام بتركيز الانتباه على قضايا معينة، وخلق جو ملائم للتنمية، وتغذية وسائل الإعلام الشخصية. كما تستطيع هذه الوسائل أن تهب الاعتبار للفرد عن طريق الإشارة إليه وتمييزه، وأن توسع الحوار السياسي. وتستطيع أن تساعد على فرد معايير اجتماعية. وتمكن من تكوين الأفكار وتعديل المواقف لدى المتلقي.

وخلص زكي الجابر إلى أنه إذا كان له أن يعيد صياغة ما ذهب إليه ” شرام ” في ضوء ما طرأ مؤخرا من اجتهادات عن وظائف وسائل الإعلام، فإن إعادة هذه الصياغة تتجسد في نقطتين:

الأولى: ما يعرف بتحديد الأجندة أو ترتيب الأولويات، فبتركيز وسائل الإعلام على موضوع ما وإبرازه ووضعه موضع الصدارة، تجعل هذا الموضوع يحتل الصدارة في أجندة اهتمامات المواطن(ة). وهكذا إذا لم تنجح وسائل الإعلام في مهمة بما يفكر الناس، فهي تستطيع أن تنجح في مهمة عما يفكر الناس.

والثانية: خلق المناخ العام، فمن خلال تركيز وسائل الإعلام على موضوعات معينة وتكرارها بأساليب مختلفة، تجعل المواطنين يعيشون الجو الذي خلقته هذه الوسائل.

الإعلام هو حجر الزاوية لقيام المجتمع:

يذهب الدكتور محيي الدين عبد الحليم الذي خبر شؤون الإعلام ممارسة وتدريسا في عملين علميين إلى أن الإعلام والاتصال هو حجر الزاوية لقيام المجتمع. وسواء أكان من يقوم بهذا العمل فردا من أفراد القبيلة، أو مراسلا لإحدى الإذاعات أو لوكالة أنباء، أو لصحيفة أو لغيرها، فإن الوظيفة نفسها خالدة، فالإعلام يقدم للمجتمع خدمة تؤدي إلى توافقه وتجانسه ووحدته وتكتله. كما أن الإعلام الوطني يهيئ المناخ لوحدة الأمة، فيجعل كل إقليم يلم بشؤون الأقاليم الأخرى، أناسه، وفنونه، وعاداته، وسياساته. والإعلام يجعل القادة الوطنيين يحدثون الشعب، والشعب يحدث قادته كما يحدث نفسه. ويجعل الحوار فيما يتعلق بسياسة الدولة، ميسورا، على نطاق الوطن كله. ويجعل الأهداف والمنجزات الوطنية ماثلة وحاضرة دائما في أذهان العامة.

ويضيف محيي الدين عبد الحليم، إن تدفق الإعلام في المجتمع يشبه تدفق الدم في الشرايين، فعندما يتوقف الإعلام أو ينعدم الاتصال، يجف الدم في الشرايين. أي، أن للإعلام دور رئيسي في دفع عجلة التنمية، والتبشير بالتحول والتغيير، ومساعدة المتعلم على اكتساب المهارات وخلق الحوافز. هذا فضلا عن تهيئة الجو للحوار والمناقشة، والاتصال بين القيادات والقواعد اتصالا متبادلا لتكوين الرأي العام السليم.

الإعلام الحر والمستقل استثمار في التغيير:

إن الإعلام عامل أساسي في نشر الأفكار العصرية، وإشاعة المعلومات المتصلة بنهضة الأمة وخلق الشخصية الجديدة. ويتم ذلك كله حين يتم بناء هذا الإعلام على تخطيط متوازن يتفاعل فيه مع التنمية بمفهومها الشمولي الذي يتضمن الاقتصاد والاجتماع والثقافة والذهنيات والعادات والتقاليد، أي أن الإعلام استثمار في التغيير الإيجابي. وهو يواكب عمليات التقدم والنماء والتطوير. والإعلام يقرب وجهات النظر بين الأفراد والجماعات. ويربط الريف بالحضر، من خلال شرح وتفسير وتبسيط المعلومات والأفكار وتقديمها للناس بطريقة جذابة ومفهومة. وهو يقدم لهم أحدث المبتكرات العصرية في مختلف المجالات حتى يعيشوا عصرهم.

إن حرمان الناس من المعلومات والحقائق التي تعالج شؤونهم يؤدي إلى، خلق جو من التوتر وعدم الثقة بين من يحكمون والمحكومين من ناحية، وبين أفراد الشعب بعضهم ببعض من ناحية أخرى. وهنا يستحضر الباحثون في السياسة والإعلام ماقاله ” توماس جيفرسون” ومفاده، أن الطريقة المناسبة لمنع اللبس وسوء الفهم عند الجماهير هي تزويدهم بالمعلومات الكافية التي تعالج شؤونهم وأحوالهم بوساطة مختلف أجهزة الإعلام، وإتاحة الفرصة للإعلام الحر لكي ينساب إلى الشعب ويصل إلى مختلف الكتل الجماهيرية.

ما تقدم وغيره كثير مما يمكن أن يتبادر إلى ذهن القارئ والباحث والمهتم، يوحي باستنتاج خلاصتين أساسيتين: الأولى: الإعلام الحر والمستقل رافعة أساسية لتحقيق التقدم ثم التنمية. وكما سبق الذكر، فهو استثمار في تغيير المجتمع إلى الأفضل. والخلاصة الثانية: لا يمكن تصور الديمقراطية ممارسة وفعلا في أي بلد، إلا إذا كان الإعلام يتمتع بحرية واسعة. ونعني هنا، الحرية المسؤولة. لكن المسؤولية لا تعني تقييد وتكميم أفواه الإعلام والإعلاميين.

ونعتقد أن الإعلام الحر، يستطيع أن يقوم بأدوار كبيرة في سبيل رفع التحديات الداخلية والخارجية التي تنتظرنا:

-التحديات الداخلية: من خلال تقديمه للبرامج الحوارية، وتنظيمه للقاءات الصحفية، واستضافته لمدبري الشأن العام المحلي والجهوي والوطني لشرح وتفسير ما ينوون القيام به. ومن خلال استضافته للمختصين في القانون والاقتصاد والاجتماع لشرح القوانين وأدوار جمعيات المجتمع المدني والساكنة الترابية في كل جماعة وجهة وإقليم وعمالة. وبإمكان الإعلام الحر أيضا، أن يساهم بقدر كبير في تسويق صورة، ومصادر القوة لدى كل جماعة وجهة وعمالة وإقليم. وهو بذلك يصبح آلية من آليات تحقيق التنمية الترابية محليا وجهويا ووطنيا.

إننا مطالبين برفع وثيرة تطبيق مقتضيات دستور 2011 والقوانين التنظيمية الثلاثة للجماعات الترابية والقوانين الأخرى من أجل تحقيق الانتقال الإيجابي الذي ينشده المغاربة. ومطالبين بتسريع وثيرة تنزيل الجهوية المتقدمة باعتبارها المدخل الحقيقي للتنمية محليا وجهويا ووطنيا، وباعتبارها جوهر النموذج التنموي الجديد. وليس من باب اللغو القول إن الإعلام المهني الحر بإمكانه تقديم الكثير في هذه الاتجاهات، شريطة تقديم المعلومات الصحيحة للإعلاميين وتمكينهم من القيام بوظيفتهم طبقا للضوابط العلمية.

-التحديات الخارجية: هناك تحديان خارجيان بارزان يمكن لوسائل الإعلام أن تسهم فيهما في حدود معينة. أولهما: التصدي لإعلام دول وكيانات وجماعات لا تريد للمغرب أن يصبح متحكما في أمنه الصحي ومحافظا على وحدته الترابية، ولا تريد له أن يصبح رقما مهما في القارة الإفريقية، ومنها دول أوروبية.

وثانيهما: خطورة الإعلام المعولم اليوم. إن الشركات المتعددة الجنسيات هي التي تمسك بزمام توجيه الإعلام عن طريق ما تفرضه من قيم استهلاكية ورسائل ومعلومات تخدم مصالحها الربحية، لا يهمها في ذلك قيم المجتمع ولا توازناته ولا أخلاقه. ولنا أن نلاحظ تأثيرات العديد من الوسائط الاعلامية الالكترونية والشبكات العنكبوتية (…) التي تحاصر أطفالنا وشبابنا ونساءنا وحتى الواعين منا في بعض الأحيان، تحاصر الجميع صباحا ومساء. لذلك فإن أهم وسيلة للحد من هذه الآثار السلبية جدا على مستقبلنا، هي: توسيع حرية الإعلام. فالإعلام الحر، هو وحده القادر على امتصاص بل القضاء على تأثيرات الإعلام الفاسد.

خلاصة القول، إن حاجتنا اليوم إلى إعلام حر، جاد، مهني، مستقل ووطني، هي بقدر حاجتنا إلى العدالة الاجتماعية وإلى الديمقراطية الحقة التي لا تقف عند حدود صناديق الاقتراع. وذلك، لنتمكن من تحقيق الانتقال الفعلي إلى مرحلة متقدمة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا، مرحلة الكرامة والعيش الكريم بالنسبة لكل مغربي ومغربية.

 * أحمد بلمختار منيرة / إعلامي وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *